القامشلي.. سوريا المصغرّة؟!

القامشلي وحيدة بلا معين تنتظر مصيرًا غامضًا، لكنها بالتأكيد لم تعد "منطقة نائية".

في شباط/فبراير 1922 أخذ الجنرال دو لاموت يلحّ على القيادة العسكرية الفرنسية للقيام بعمل سريع لإحكام السيطرة على الجزيرة السورية، وعدم الاستسلام لمقاومة الكماليين الاتراك لها بسبب الزراعة والقطن والتوقعات النفطية باعتبارها بديلاً عن ضياع الموصل.

كان دو لاموت ينتهز في الواقع فرصة الوفاق الفرنسي– التركي كي يتحسن الوضع الفرنسي في الجزيرة السورية التي كانت لا تزال تحتاج لإكمال السيطرة عليها، إلى إخضاع عشائرها لسلطته، تقدمت القوات الفرنسية في هذا السياق نحو الحسكة في أيار/مايو 1922، وخاضت طوال الفترة الواقعة بين شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 1922 معارك ضارية مع العشائر العربية.

وفي اواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات ارتفعت وتائر دراسة مكامن النفط المحتملة، حيث تعود الأصول القريبة لذلك إلى الحس بالغبن الفرنسي بعد التسوية بين كليمنصو – لويد جورج لمشكلة الموصل التي حُلُت بمنح فرنسا حصة تقارب 25% من نفط الموصل مقابل تنازلها عن الموصل لبريطانيا.

ووافق كليمنصو حينها لانه لم يكن يُعير النفط أهمية كبيرة ضمن منظوره لتوازن القوى كحل للخلافات، ومَهّد ذلك لتوقيع اتفاقية سان ريمو.

وأوفدت فرنسا بعثة لدراسة نفط الجزيرة السورية وخرجت بنتيجة ان النفط موجود في مساحات واسعة منها، وبدأت عملية منح الرخص لاستكشاف المكامن النفطية واستثمارها.

كانت احتمالات اكتشاف النفط في شمال شرق الجزيرة وتحديداً في منطقة منقار البط على المثلث الحدودي السوري – التركي – العراقي أحدى اسباب اشتداد الخلافات بين الاتراك والفرنسيين على ترسيم الحدود وتأخير ذلك لعام 1929 حين ضمنت فرنسا ضم منطقة منقار البط الى سوريا.

ضمن هذا السياق علينا أن نضع في الاعتبار "اتفاقية انقرة الأولى" بين الفرنسيين والاتراك الكماليين في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1921، والتي تنازلت فرنسا بموجبها عن 18 ألف كلم مربع من الأراضي السورية شملت كيليكيا وقسماً كبيراً من الجزيرة (مرعش واورفة وماردين وسعرت وكلس وعنتاب)، وكان البديل للفرنسيين السيطرة على الجزيرة، وتنازل الفرنسيون في اتفاقية ايار 1926 ايضاً عن بعض القرى السورية مقابل اعتراف تركيا بسيادة فرنسا على الجزيرة العليا، عقب هذه الاتفاقية استكملت القوات الفرنسية سيطرتها على الجزيرة ودخلت القامشلي في 5 آب 1926، وألّفت لجنة لترسيم الحدود انهت عملها باتفاق تكميلي جديد عام 1929.

القامشلي التي كانت قرية في نهاية عام 1926 أصبحت بلدية عام 1927، وبدأ وضع المخطط التنظيمي الأوليّ للبلدة المستقبلية في تشرين الأول 1926، على يَدِ الضابطِ الفرنسي تيريه بعد أن اكملت فرنسا السيطرة على الجزيرة بعدَ إتفاقية "أنقرة الثانية التكميلية" في آب 1926.

مع وصول القوات الفرنسية واستتباب الامن في هذه الربوع نزح الناس من الأراضي التركية المحاذية هرباً من الإبادة فجاؤوا من شرائح مختلفة (عرب ومسيحيين ويهود وأكراد)، فشكلوا النسيج الاجتماعي المتجانس لاثنيات واقوام واديان ومذاهب.

القامشلي... الخاصرة السورية اختلفوا على تسميتها (القامشلي - قامشلو – القامشلية) لكن كل هذه التسميات تتلاشى وتضمحل عندما يتذكر أهلها أن شوارعها وأزقتها ومنعطفاتها جمعتهم وحَمتهم عندما كان الخطر يطرق أبواب مدينتهم.

"أرملة المدن"، "المدينة الثكلى"، و"المدينة المنَسية" تسميات أخرى تخترق أفئدة اهل القامشلي وهم يشعرونه بالغبن والاجحاف بحقهم وحق مدينتهم التي عانت من نقص في الخدمات والمشاريع الكبيرة وبقيت مهملة في الوقت الذي كانت تقدم فيه سلة غذائية واقتصادية لسوريا، من حقولها القمح والشعير والقطن، ومن عمق ترابها النفط والغاز ولكنها كما عاندت الانواء منذ نشوئها استطاعت ان تلملم جراح الإهمال والتهميش وتنهض دائماً لتعلن أنها تستحق الحياة.

هذه المدينة التي لم يبلغ عمرها المائة سنة كانت ولازالت "لوغاريتم" الحل السوري منذ ربيع 2011، لأنها بتنوعها واثنياتها ومذاهبها وطوائفها تمثل صورة مصغرّة لسوريا. فكما سوريا متنوعة وزاهية بهذا التنوع كانت القامشلي ولا تزال عصيّة على من يريد ان يستأثر بها ويحكمها بمفرده لأن هذا التنوع الاثني والقومي واللغوي والثقافي يحمي أزقة المدينة حماية خفية، وكذلك سوريا رغم استئثار البعض بحكمها لعقود من الزمن إلا انها أثبتت أنها لا يمكن أن تستمر بلون واحد وبطيف واحد وبقبضة واحدة.

وأصبحت القامشلي كما سوريا طفلاً حائراً في "دائرة الطباشير القوقازية" كلٌ يجذبها نحوه ويريد أن يستأثر بها ويحكمها لوحده، لكن مخطىء من يظن أن أحلام المتربصين بالقامشلي أو "سوريا المصغرّة"، ستتحقق لأنها مثل "كعكة الدبابيس" توخز من يخدش هذا التنوع الجميل فيها.

الآن القامشلي وحيدة بلا معين تنتظر مصيرًا غامضًا، وتحلم بأن تنجو من النار التي التهمت سوريا لعلها تبقى استثناءً كما كانت منذ أن ولدت مدينة من رماد الموت الذي حمله أهلها معهم قبل عقود من الزمن فأسسوا مدينة مختلفة، ومتفردة رغم التهميش والتهشيم الذي طالها، وبقيت جزءً رئيسياً من الحل في سوريا بعد أن اختبروا فيها كل نظرياتهم ومشاريعهم وأطماعهم، وكما قلنا منذ عام 2011 الحلول ستبدأ من القامشلي لأنها لم تعد "منطقة نائية" كما هي في قاموس ومنهج الاعلام السوري الرسمي منذ عقود خلت.