تَجّميل الهزائم

في غزة تتم استعادة ذاكرة المصطلحات المُضللة ويتحدثون عن انتصار حماس الذي يعتلي جثث آلاف الضحايا ودمار غير مسبوق ونزوح جديد كارثي ومأساوي ومخططات تهجير.

في العقلية الإعلامية العربية عبر عقود من الزمن ترسخت مفاهيم ومصطلحات مُضَلِلة غائمة ضبابية، ربما تقول ربع الحقيقة وتُعمي البصر والبصيرة عن ما تبقى من الحقيقة. وهذه العقلية المستمدة من أنظمة حاكمة تمارس شموليتها عبر الإعلام الموجه لا تعترف بالهزائم بل تطلق عليها اسماء مخففة لطيفة تتكرر وتصبح مع الزمن ملتصقة بهذه الهزائم وطاردة لكل ما يناقضها.

في عام 1948 تم تهجير نحو 80% من الفلسطينيين، وأُعلن قيام دولة اسرائيل ومع ذلك اجترحنا مصطلح "النكبة" ولم نقل أن ما حدث كان تطهيراً عرقياً، وفي الوقت نفسه، أصبحت نسبة كبيرة من الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم مشردون داخليا. وأصبح الفلسطينيين عديمي الجنسية نتيجة "النكبة"، وتحول الفلسطينيون إلى "أمة لاجئين" ذات "هوية متجولة". كل ذلك لم يقنع الإعلام أن يغير مصطلحاته ويتحدث عن مأساة إنسانية وتاريخية وثقافية وبقي مصطلح "النكبة" صامداً.

في عام 1967 خسر العرب 69347 كيلومترا مربعا ما يشّكل ثلاثة أضعاف الأراضي التي استولت عليها اسرائيل عام 1948، وذهبت هضبة الجولان والضفة العربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، ورغم كل ذلك أطلقوا مصطلح "النكسة" على كل ذلك متجاهلين أن ما حدث كان كارثة مكتملة الأركان.

وفي عام 2006 لا يزال الاعلام يعتبر أن حزب الله انتصر في مواجهته مع اسرائيل واخترعوا مصطلح "النصر الإلهي" لكن هذا "النصر" كانت حصيلته خسائر بشرية ونزوح أكثر من مليون شخص من بيوتهم وتضرر 100 ألف منزل. إضافة لخسائر اقتصادية بلغت 2.8 مليار دولار، منها 1.7 مليار ناتجة عن تدمير المباني السكنية. والقطاعان الآخران اللذان سجلا أكبر الخسائر المباشرة هما الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى الزراعة والري، ورغم أن حسن نصر الله صرّح للتلفزيون اللبناني ولصحيفة «الحياة» اللندنية في سبتمبر 2006: «لو علمنا إن عملية الأسر ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً.» ومع ذلك لا زال التغني بــــ "النصر الإلهي" قائماً.

وعصفت بسوريا حرب ضروس لا تزال محتدمة ولكن يُعلن بين الحين والآخر أن سوريا انتصرت، ويبدو أن هذا الانتصار وسَدنته لم يلتفتوا لملايين السوريين المهاجرين في أصقاع الارض ومئات آلاف النازحين وعشرات آلاف الضحايا والمفقودين وتدمير يجتاح الجغرافيا السورية على اتساعها، ورغم كل هذه النتائج الكارثية لا يزال التبجح بالنصر مسيطراً على الخطاب الإعلامي السوري.

والآن في غزة تتم استعادة ذاكرة المصطلحات المُضللة ويتحدثون عن انتصار حماس الذي يعتلي جثث آلاف الضحايا ودمار غير مسبوق ونزوح جديد كارثي ومأساوي ومخططات تهجير لم يجدوا فيها سوى استعادة مصطلح "النكبة" لتعميمه على ما يحدث من مأساة في غزة متناسين أن ما يحدث اقسى وأوجع من "نكبة".