الكوليرا ضيف ثقيل على السوريين

حتى يتخلى الجميع عن غطرستهم تجاه الشعب السوري فإن أزمة المياه ستتفاقم بشكل كارثي.

منذ سبتمبر الفائت انتشر وباء الكوليرا بسرعة في جميع أنحاء سوريا، وتبيّن أن مصدر المرض الفتاك الذي كان نادرًا في سوريا قبل الحرب الدموية هو نهر الفرات. فأكثر من نصف السوريين يحصلون الآن على المياه من مثل هذه المصادر غير الآمنة، بسبب انهيار البنية التحتية للمياه في سوريا.

وبعد أكثر من عقد من الحرب، غرقت سوريا في الفقر والمرض. واصبحت الدولة التي كانت تفتخر ذات يوم باقتصاد متوسط الدخل وبنية تحتية متطورة نسبيًا لم تعد قادرة على إطعام سكانها أو تزويدهم بالمياه النظيفة أو السيطرة على الأمراض التي يمكن الوقاية منها.

وأصبح تصنيف سوريا كمصدر للأمراض القاتلة تطور مخيف لكنه متوقع بعد شبه انهيار للبنية التحتية التي كانت تزود السوريين بالمياه النظيفة والصرف الصحي الأساسي غير صالحة للعمل بسبب الهجمات العنيفة أو الجفاف أو نقص الطاقة أو التخريب. ونتيجة لذلك، لجأ السوريون لبدائل غير آمنة، مثل الأنهار الملوثة، والآبار المحفورة بشكل غير قانوني، وصناعة بائعي المياه الخاصة المزدهرة. لقد تحول البلد إلى أرض خصبة مثالية للأمراض.

حتى الآن، يحتاج أكثر من ثلثي سكان سوريا إلى مساعدات إنسانية، ولا يزال نصف شبكات المياه والصرف الصحي والمستشفيات تعمل فقط، وانخفضت إمدادات مياه الشرب بنسبة 40 في المائة مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب. حتى المرافق التي نجت من التدمير كمرافق تنقية المياه باتت معطلة بسبب نقص الكهرباء أو الوقود، ووصل نقص المياه في بعض المناطق لدرجة تخلي السوريين عن النظافة الاساسية لأنهم بحاجة للمياه للشرب.

قبل الحرب كان 98 في المائة من سكان المدن السورية و92 في المائة من سكان المناطق الريفية يتمتعون بإمكانية موثوقة للحصول على المياه النظيفة. لكن إمدادات مياه الشرب في سوريا انخفضت بنسبة 40 في المائة في العقد الأول من الحرب، وتوقفت نصف أنظمة المياه والصرف الصحي عن العمل. ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة التي تم جمعها في عام 2022 فإن 52 بالمائة من السوريين يفتقرون الآن إلى المياه المنقولة بالأنابيب وعليهم بدلاً من ذلك الاستفادة من البدائل غير الآمنة.

ولتلخيص الاسباب لهذا الانهيار يمكننا القول أنها تتعلق بتأثير الصراع على البنية التحتية الرئيسية، وتحويل مياه نهر الفرات الذي استخدم كسلاح في الصراع، وانكشاف عورات عقود من سوء إدارة الدولة لهذا الملف، وتسارع انهيار قطاع الطاقة في سوريا، إضافة لاستخدام حرمان المدنيين من المياه كعامل ضغط سياسي.

 هنا لابد من التوقف عند موضوع إدارة نهر الفرات التي تعتبر قضية شائكة ما بين سوريا وتركيا والعراق، فوفقًا لاتفاقية عام 1987 تلتزم تركيا بالحفاظ على تدفق نهر الفرات عبر سدودها إلى سوريا بمعدل سنوي لا يقل عن خمسمائة متر مكعب في الثانية. نادراً ما يحدث هذا في هذه الأيام. في الفترة 2014-2020 حصلت سوريا مرة واحدة فقط على حصتها الكاملة من المياه في عام 2019. بينما لا توجد بيانات رسمية لعامي 2021 و2022، فيما تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن التدفق قد انخفض في هذه السنوات.

وخلال العامين الماضيين كانت أزمة المياه في محافظة الحسكة قضية مؤلمة فمحطة مياه "علوك" بالقرب من رأس العين بالقرب من الحدود التركية التي تعتبر واحدة من أهم مرافق المياه في شمال شرق سوريا. تصل أنابيبها إلى حوالي 460 ألف شخص، بينما يعتمد نصف مليون سوري إضافي في المجتمعات خارج الشبكة على المياه المنقولة بالشاحنات من "علوك" من قبل الباعة الخاصين ومنظمات الإغاثة. كما تغذي المحطة العديد من الخدمات العامة، بما في ذلك ثلاثون منشأة رعاية صحية من أصل 37 في المنطقة. هذه المحطة منذ خريف 2019 باتت تحت سيطرة تركيا وحلفاؤها، ومنذ ذلك الحين تم إغلاق المضخات بشكل متكرر أو تم تقليل إنتاجها. حيث تُظهر المراقبة من قبل المنظمات الإنسانية أن "علوك" كانت غير متصلة بالإنترنت تمامًا حوالي ثلث الوقت منذ أن استولت عليها تركيا، وأنها تعمل بأقل من نصف طاقتها لمعظم الوقت المتبقي. ووسط تبادل اتهامات ما بين تركيا والادارة الذاتية الكردية حول تقييد إمدادات الكهرباء الذي ووجه بتقييد وتقليل ضخ المياه، كان حوالي مليون سوري في الجزيرة السورية يعيشون صيفاً قائظاً بلا مياه.  

أخيراً فإن تحسين الأمن المائي في سوريا ليس بالمهمة السهلة. فسوريا لاتزال مقسّمة كمناطق صراع وسيطرة بين أطراف عديدة ولكل طرف أجندته السياسية التي يمر تنفيذ جزء منها من خلال تعطيش السوريين وحرمانهم من أساسيات الحياة، وحتى يتخلى الجميع عن غطرستهم تجاه الشعب السوري فإن أزمة المياه ستتفاقم بشكل كارثي ما لم تُتخذ إجراءات جادة لإيقاف تدهور إمدادات المياه النظيفة في سوريا، وحتى ذلك الوقت فإن العطش والجوع والأمراض الفتاكة التي أنتجتها بالفعل ستخرج عن نطاق السيطرة.