تأثيرات عميقة.. المشهد السوري وحرب غزة

يتعمد السوريون، حكومة ومعارضة، الابتعاد عن الخوض بملف الحرب في غزة. الحكم لا يزال يذكر انقلاب حماس عليه، والمعارضة لا تريد أن تغضب الداعمين الغربيين.

مع الرياح العسكرية التي هبت من فلسطين، وجدت سوريا نفسها أمام تيارات كان لابد من التماهي معها رغم أنماطها واتجاهاتها المعقدة، ورغم حالة اللااستقرار التي لا تزال تُوسم يومياتها، ورغم الأخطار المُحدقة بالملف السوري سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. فثمة واقع موضوعي تُترجمه جُملة من الحقائق التي باتت شاخصة في الجغرافية السورية. هو واقع فرض على دمشق التفاعل مع التطورات المحيطة بها، لاسيما أنها تطورات ناجمة بالقطع عن جملة من المتغيرات الجيوسياسية، تراكمت بفعل سنيّ الأزمة، وطالت جميع عناوين المشهد السوري من جهة، وكانت سبباً في تحفيز عوامل الصراع الإقليمي والدولي بين القوى الفاعلة والمؤثرة في الملف السوري من جهة ثانية.

وجراء حالة التداخل الإقليمي والدولي في الملف السوري، فإنه من البديهي أن تُصبح سوريا كجغرافية مسرح استثمار بأوجه مختلفة ولغايات متعددة. وعليه يُفهم أن تقوم بعض القوى باستغلال الواقع السوري بعناوينه وتعقيداته لغايتين؛ الأولى توسيع مناطق النفوذ والحضور من سوريا وباتجاه الاقليم، والثانية استغلال الأزمة في سورية لإحداث اختراقات تتجاوز حدود الإقليم إلى ساحات صراع أُخرى تمهيداً لمقايضات كُبرى حول مصالحه في قضايا تنسجم كلها وفي جوهرها مع سردية كل طرف تبعاً لما يتحقق له من مآرب.

إذاً بات واضحاً أن الواقع السوري أصابته رياح فلسطين بمستويات وأساليب متعددة وعلى المستويين السياسي والعسكري، خاصة أن بعض القوى الحاضرة في حرب غزة سواء أكانت دولاً أو فصائل، وجدت في الساحة السورية أرضية خصبة لإيصال الرسائل، مع توظيف هذه الساحة بما يخدم المصالح، دون مراعاة للأزمات السورية ولهواجس السوريين عموماً.

في جانب آخر، ومع استمرار الحرب في فلسطين، فإن مروحة التحليلات تتسع، وكذا فإن محاولة الإحاطة بتداعيات هذه الحرب وتأثيراتها الإقليمية والدولية تكاد تكون الشغل الشاغل لمراكز الأبحاث. بالتالي فإن انعكاسات هذه الحرب على الساحة السورية، يُعد من بين القضايا التي تستأثر باهتمام كبير حالياً، بما يشمل المواقف منها، والوضع الميداني على الأرض، وتأثر علاقة مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة السورية بها سياسياً.

وعلى اختلاف الأجندات والمواقف السياسية، فقد كانت دمشق ومعارضيها على السواء، يتجنبون تسجيل مواقف واضحة من الحرب في فلسطين. فالنظام السياسي في دمشق وبخلاف بعض التصريحات التقليدية المساندة للقضية الفلسطينية، رفض تقديم أي دعم سياسي لحركة حماس، رغم المصالحة التي جمعت الطرفين في أثناء زيارة وفد حماس إلى دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 2022، نتيجة وساطة من حزب الله وإيران، علمًا أن جزءًا كبيرًا من تسليح حماس كان يأتي قبل عام 2011 من سوريا.

موقف دمشق يُفهم على الأرجح في إطار عدم قدرتها على تخطي موقف الحركة من الأزمة السورية، تحديداً في ما يتعلق بدعم المعارضة، بما في ذلك وضع خبراتها في مجال تطوير الأسلحة محلية الصنع وحفر الأنفاق في خدمة المعارضة.

المعارضة السورية من جانبها وعلى اختلاف أطيافها وتوجهاتها تجنبت هي الأخرى الحديث عن غزة ما أمكن، خشية أن يؤدي اتخاذ أي موقف بشأنها إلى تعقيد علاقاتها مع الحلفاء الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

في الجانب العسكري ورغم محدودية تأثيراته من سوريا، لكن ومنذ السابع من تشرين الأول، تصاعدت الأعمال العسكرية ضد القواعد الأميركية في الجغرافية السورية. وفي المقابل ورغم أن إسرائيل تستمر منذ عام 2013 في استهداف الأراضي السورية، لوحظت زيادة في وتيرة هجماتها خلال الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك ضرب مطاري دمشق وحلب أكثر من مرّة وإبقاؤهما خارج الخدمة فترات طويلة. وقد حصل ذلك بالتوازي مع تزايد الهجمات المنطلقة من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتلّ خصوصاً.

واقعاً إن حرب غزة بعناوينها ومشاهدها المتعددة والمعقدة، سيكون لها تأثيرات ستطال الساحة السورية، على إعتبار أن الأخيرة تُعد مثالاً حيًّا لحالة الاستثمار السياسي في المنطقة، كما أن الملف السوري أيضاً بتعقيداته يُعد مرآة لمصالح القوى المتصارعة في فلسطين، وهذا ما جعل للرسائل السياسية والميدانية المتبادلة بين تلك القوى، أنماطاً مختلفة تبعاً لكل لاعب وبما يتناسب وحجم مصالحه، لتكون للرياح العسكرية التي هبت من فلسطين تأثير مباشر يطال سوريا. وما بين حالتي الهدوء واللا استقرار، ثمة إمكانية شاخصة للانزلاق نحو متاهات الصراع الإقليمي، وبذلك بن تكون سوريا وملفها بمنأى عن حرارة الصراع في فلسطين وعليها، الأمر الذي يُبعد سوريا عن طريق الخلاص الذي ينشده السوريون.