سلماوي يعانق العصف والريحان

كتاب محمد سلماوي يزخر بذكرياته الطويلة التي يتداخل فيها العام مع الخاص لنسج ضفيرة وجدانية تاريخية سياسية ثقافية وثائقية، ويتطرق الى انشغاله بالأعباء والهموم الوطنية الخارجية وأسرته الصغيرة وقراره التفرغ التام للكتابة والإبداع عندما بلوغ سن السبعين.

"العصف والريحان" هو الجزء الثاني من مذكرات الكاتب الكبير محمد سلماوي. كان الجزء الأول بعنوان "يومًا أو بعض يوم". وفي واقع الأمر فإن هذه المذكرات ليست مذكرات سلماوي فحسب، وإنما هي جزء من مذكرات مصر ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، حيث يمزج الكاتب بين أحداث حياته الشخصية والأحداث الوطنية الكبرى التي شكلت تاريخ مصر في الفترة من اغتيال الرئيس السادات عام 1981 وتولي الرئيس مبارك الحكم، إلى قيام ثورة 25 يناير 2011، وصعود حكم الأخوان وسقوطهم، ثم إقرار دستور 2014 الذي شارك الكاتب في كتابته وصياغته، وكان المتحدث الرسمي باسم لجنة الخمسين التي وضعته.
اشتمل الجزء الثاني – الذي جاء في 416 صفحة وصدر عن دار الكرمة - على ثلاثة وثلاثين فصلا، وعدد من الصور (أبيض وأسود) التي تؤرخ للحظة التي يتحدث عنها الكاتب، فتأتي شارحة أو مكملة للكلمات. 
تبدأ مذكرات محمد سلماوي في هذا الجزء بالرجل الذي عادت إليه ذاكرته، بعد أن فقدها إثر توقيع اتفاقية السلام مع العدو التاريخي للأمة العربية، مما أدى إلى عزلة مصر في المنطقة العربية، ونقل جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وتوتر العلاقة بالعالم الثالث، وقد عادت الذاكرة تدريجيا بعد اغتيال السادات وإشاعة جو من الهدوء في ربوع البلاد وتأكيد أن مصر تبدأ عصرا جديدا غير محمل بصراعات الماضي.

وفي فصل "فوت علينا بكرة" يحدثنا الكاتب عن مسرحيته التي كتبها عام 1983 التي ترتبط ارتباطا مباشرا بالواقع المصري المعاصر وقضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ثم أضاف إليها مسرحية "إللي بعده" ومُثلت المسرحيتان على مسرح الطليعة بالقاهرة في يناير عام 1984 من إخراج سعد أردش، وشاهدت العرض السيدة تحية كاظم أرملة الرئيس جمال عبدالناصر.
أما مسرحية "القاتل خارج السجن" فقد كتب د. لويس عوض مقدمة لها قال فيها" إنها مسرحية راقية، رسالتها نبيلة لأنها تؤكد إنسانية الإنسان وترى الخير يبرق وسط الظلمات كأنه النجم الثاقب"، وقد مثلت على خشبة المسرح في ديسمبر 1986 بإخراج سعد أردش الذي رأى في تلك المسرحية دعوة صريحة للحل الجماعي، فالبطل الجديد لمحمد سلماوي يدعونا لأن نتكاتف ونتكافل في سبيل تحرير إرادتنا وأمننا وسلامنا من جبروت ذلك القاتل الذي يتحرك في حرية خارج السجن".
ويخبرنا سلماوي أنه عندما اختاره وزير الثقافة فاروق حسني، وكيلا للوزارة للعلاقات الثقافية الخارجية قال له نجيب محفوظ: ألف مبروك، لكن أوعى تسيب الكتابة، وشرح له أن الفترة التي قضاها رئيسا لمؤسسة السينما لم يكتب فيها حرفًا، ولا يريد محفوظ أن يكرر سلماوي التجربة نفسها. 

مسرحية 'القاتل خارج السجن' مسرحية راقية، رسالتها نبيلة تؤكد إنسانية الإنسان

وقد فؤجئ سلماوي بالكثير من الروتين الوظيفي الذي يؤدي إلى تعطيل العمل وفقد الحماسة والإبداع في شئون تتطلب التجاوب السريع مع الدول الخارجية والسفارات العربية والأجنبية، ناهيك عن التوقيع على إجازات العاملين التي من المفروض أن تكون من سلطة الرئيس المباشر أو مديري الإدارات لا من سلطة وكيل وزارة، ومنها إجازات الوضع للسيدات على سبيل المثال.
ويتذكر سلماوي زيارة الأميرة مارجريت – شقيقة ملكة بريطانيا - للسد العالي، وكان في صحبتها، وذلك بعد حضورها حفل افتتاح دار الأوبرا الجديدة باعتبارها راعية فرقة "لندن فستيفال باليه" التي تعتبر واحدة من أهم فرق الباليه في العالم. وكانت حساسية زيارة السد العالي ما صاحب تاريخ إنشاء السد من ذكريات العدوان الثلاثي على مصر، ومشاركة بريطانيا في هذا العدوان. ولكن تمت الزيارة بنجاح، لكن كانت هناك أزمات داخل الوزارة بسبب الهدايا التي تمنح للشخصيات الزائرة، وتوقيع هذه الشخصيات على ما يثبت تسلمهم للهدايا، ناهيك عن الحد الأقصى لقيمة الهدية الممنوحة والتي لا تتعدى مائة جنيه في السنة لمجمل الهدايا.
ثم يعرض سلماوي لأزمة مسرحيته "سالومي" التي طلبت إسرائيل ومفتي الديار المصرية بوقف عرضها. 
ثم يحكي لنا كواليس اختياره لإلقاء كلمة نجيب محفوظ في الأكاديمية السويدية بعد أن نال صاحب "الثلاثية" جائزة نوبل في الآداب عام 1988، وما نتج عن ذلك من معارك ومقالات ساخنة وادعاءات باطلة، وذلك تحت عنوان "جائزة كبيرة ومعارك صغيرة".
لم يستمر سلماوي في منصبه كوكيل لوزراة الثقافة للعلاقات الثقافية الخارجية، وسرعان ما قدم استقالته في يناير 1989 على أثر بعض المضايقات التي لم يعهدها وتدخل البعض في العلاقة التي كانت تربطه بالوزير فاروق حسني، وعاد إلى بيته في جريدة "الأهرام"، ليتفرغ لإبداعه وكتاباته المسرحية والروائية والصحفية، ويحدثنا عن عرض "سالومي" في مهرجان جرش بالأردن عام 1989، ثم إبداعه لرواية "الخرز الملون" التي يعالج فيها مأساة الشعب الفلسطيني وتصوير أفظع المذابح التي ارتكبتها إسرائيل في فلسطين طوال فترة نصف قرن، وقد قدمت في مسلسل إذاعي في 30 حلقة من إنتاج صوت العرب عام 1990 وأعيدت إذاعته أكثر من مرة.
ومن "الخرز الملون" إلى رحيل الأم يوم 14 يونيو عام 1993، وتأثير هذا الرحيل الفاجع على الكاتب، وبعدها يأخذنا سلماوي إلى محاولة اغتيال نجيب محفوظ يوم 14 أكتوبر 1994، وذكريات أول حديث مع محفوظ للأهرام بعد أن تحسنت حالته، وطلب محفوظ أن يتحول مقاله الأسبوعي "وجهة نظر" بالأهرام إلى حديث أسبوعي يجريه سلماوي معه، بعد أن فقدت اليد اليمني لصاحب نوبل القدرة على الكتابة بعد الحادث. وقد تجمع لسلماوي حوالي 500 ساعة شرائط مسجلة عليها أحاديثه مع صاحب "اللص والكلاب". فكانت مادة قيمة لإنتاج وإصدار أكثر من كتاب عن فقيد الرواية العربية.

الرئيس مبارك: لقد أسقطت اليوم يا سلماوي آخر ورقة في سياسة المقاطعة العربية لمصر

ثم جاءت لحظة اختيار سلماوي رئيسا لتحرير جريدة "الأهرام إبدو" الصادرة باللغة الفرنسية عام 1994، والتي شكلت ثالوث إصدارات الأهرام بالعربية والإنجليزية والفرنسية.
ومن الجرائم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة إلى جرائم الإرهاب، التي يجسدها سلماوي في مسرحيته الجديدة "الجنزير" عام 1995 من إخراج جلال الشرقاوي والتي طلب الرئيس مبارك مشاهدتها، فعرضت في عرض خاص، حضره السلطان قابوس الذي لم يقل على أداء الممثلين غير "ما شاء الله". وعندما سمع نجيب محفوظ عن المسرحية أرسل رسالة خاصة لأبطالها، فما كان من أبطالها إلا أن زاروه في منزله لشكره على كلمته عن "الجنزير" التي عرضت في باريس بعد ذلك.
ومن الأعباء والهموم الوطنية الخارجية، إلى الأسرة الصغيرة والشياطين الخمسة الذين يحدثنا عنهم سلماوي ويقصد بهم أحفاده من ابنه سيف، وابنته سارة، وذكرياته معهم وذكريات جدتهم الفنانة التشكيلية نازلي مدكور، ومن أجمل تلك الذكريات الخطاب الذي كتبه الرئيس عبدالفتاح السيسي بخطه إلى الحفيد علي.
وهكذا تتابع الذكريات وتنثال في كتاب "العصف والريحان" مرتبةً ترتيبا زمنيا، إلى أن نصل إلى لحظة اختيار وانتخاب كاتبنا لرئاسة اتحاد كتاب مصر، وهي اللحظة التي عرفتُ فيها الأستاذ محمد سلماوي حيث كنتُ عضو مجلس إدارة في اتحاد الكتاب، وأحد أعضاء المجلس الذين انتخبوا سلماوي عام 2005 رئيسا للاتحاد، فقدم الكثير والكثير من جهده ووقته، واستثمر علاقاته الواسعة في خدمة الاتحاد وأعضائه خلال عشر سنوات هي مدة رئاسته للاتحاد. 
واستطاع خلال تلك السنوات استعادة رئاسة مصر للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب عام 2006، فاتصل به الرئيس مبارك وقال له في صوت لا يخلو من الصدق: "لقد أسقطت اليوم يا سلماوي آخر ورقة في سياسة المقاطعة العربية لمصر".
وخلال تلك السنوات اندلعت ثورة 25 يناير التي توقعها الكاتب في روايته "أجنحة الفراشة" وكُتب على غلاف طبعتها الثانية "الرواية التي تنبأت بثورة 25 يناير". ومن الميدان إلى عضوية المجلس الاسشاري لمعاونة المجلس العسكري خلال إدارته لشئون البلاد في المدة الباقية من المرحلة الانتقالية وحتى إتمام انتخاب رئيس الجمهورية" والذي يتكون من 30 عضوا، ولكن يعلن الكاتب انسحابه من عضوية المجلس عارضا لأسباب انسحابه، ولكنه يعود بعد ثورة 30 يونيو 2013 ليكون عضوا في لجنة الدستور المكونة من 50 شخصا (لجنة الخمسين) ورأسها عمرو موسى، وتم اختيار سلماوي ليكون المتحدث الرسمي للجنة، فكان عليه أن يعقد مؤتمرا صحفيا يوميا ليحيط الصحفيين علما بما يجري داخل اللجنة يومًا بيوم.
ويختم محمد سلماوي كتابه الشيق وذكرياته الطويلة التي تداخل فيها العام مع الخاص، فتغلب العام على الخاص، في ضفيرة وجدانية تاريخية سياسية ثقافية وثائقية رائعة، يختمه بحديثه عن منزله في دهشور وقراره بالتفرغ التام للكتابة والإبداع عندما يبلغ سن السبعين، فيتحرر من جميع التزاماته التنفيذية والإدارية كي يتمكن من تكريس ما تبقى له من سنوات ـ طالت أو قصرت ـ للاستمتاع بصحبة أسرته وأحفاده، فيسافر وقتما يريد دون مراعاة لارتباطات وظيفية ملزمة، وأن يقرأ الكتب التي كان يتطلع إلى قراءتها ويستمتع بها ليس بدافع عمله الوظيفي، وأن يكتب الكتب التي أرجأها كثيرا  بسبب التزاماته، ثم حين أراد العودة إليها وجدها قد تركته وذهبت.
الآن يجلس سلماوي سعيدا في حديقة بيته الصغير بدهشور بعد أن أكمل كل المهام التي أوكلتها له الأقدار لخدمة أقرانه الكتّاب على مدى سبعين عاما، يتناهى له صوت قارئ القرآن عبر مذياع أحد مساجد القرية، وكأن قادم من العالم الآخر: "فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام. والحب ذو العصف والريحان"، وكأنه يسمعها للمرة الأولى.