عماد الدين أديب يحاور قلم مصر نجيب محفوظ كازانوفا الفكر المصري

المدرسة الطبيعية الفوتوغرافية كانت تمثل بالنسبة لصاحب 'الكرنك' و'ميرامار' و'اللص والكلاب' و'ثرثرة فوق النيل' مرحلة من مراحل حياته الأدبية، وكتبه تتحدث عن الحرية وقت الاحتلال وعن مشكلات الإنسان المعاصر باعتبارها خلاصة للمؤثرات الخارجية التي يتعرض لها.

في حواره مع كاتبنا الكبير أطلق الإعلامي الكبير عمادالدين أديب لقب "قلم مصر" على نجيب محفوظ، ولعل أديب انفرد بإطلاق هذا اللقب على أديبنا في الحوار الذي نشرته مجلة "اليمامة" السعودية، في عددها الصادر بتاريخ 9 مايو/ايار 1975 (الموافق 28 ربيع الثاني 1395 هـ).
في مقدمة الحوار قال أديب سنوات طويلة مرت على قلم معروف بشبابه بالرغم من كبر سن صاحبه، ذلك القلم المغموس في تراب مصر، لم يتعب القلم ولم يشب فكر صاحبه، فكاتبنا هو "كزانوفا الفكر المصري" الذي يجدد حبه دائما يوما بعد يوم في قائمة طويلة من الأحباء والأصدقاء من أبطاله: حميدة، سعيد مهران، صابر، عيسى، فهمي، كمال عبدالجواد، وأخيرا "ماسح الأحذية" في آخر قصصه القصيرة "أهلا".
ويوضح عماد الدين أديب أنه في هذا اللقاء الساخن تارة كان يرتفع ذلك الصوت الهادئ، وتارة أخرى تشرق ابتسامة ذكية على وجهه وما أكير الصراخ، وما أقل الابتسامات في هذه المحاكمة الفريدة من نوعها.
سأله أديب: نجيب محفوظ تلميذ للمدرسة الطبيعية الفوتوغرافية التي يتزعمها فلوبير وبلزاك وأميل زولا، وهي تلك المدرسة التي كانت تقوم بنقل الأحداث والشخصيات حرفيا، وهذا واضح في أعمالك التي قمت فيها بنقل أماكن كثيرة نقلا حرفيا (زقاق المدق، قصر الشوق، السكرية).

محاكمة فريدة من نوعها
محاكمة فريدة من نوعها

واستعد "قلم مصر" للإجابة، وحاول أن يتريث في إجابته لينتقي ألفاظه وأفكاره بدقة، وقال: من الصعب على الكاتب أن يحدد لنفسه منبعا أو يقال إنني تأثرت بهذا الكاتب أو بغيره، والمكتبة العالمية كما نعرف مليئة بأعمال أدبية عظيمة لكتاب كثيرين، كل منهم يمثل مدرسة مختلفة عن الآخر، وما فعلته أنني قرأت للكثير منهم، لكني بلا شك تأثرت بهم جميعا. وبخصوص المدرسة الطبيعية الفوتوغرافية، فلقد كانت تمثل بالنسبة لي مرحلة من مراحل حياتي الأدبية.
وهنا قاطعه عماد الدين أديب وسأله: تقصد المرحلة الأدبية الثانية؟
قال: بالضبط، لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت ظروف عصيبة تمر بها، تعاني من استهتار الساسة الحاكمين، وبطش الإنكليز المحتلين، وتأثرت بالطبع كأي مصري، وككاتب ينقل هذه الظروف المريرة ويعرض هذه المرحلة من مراحل حياتنا.
وهنا قال أديب: لقد وصلت إلى نقطة مهمة، فالبعض يقولون إن نجيب محفوظ في هذه المرحلة كان بمثابة المؤرخ، وكما نعرف هناك اختلاف واضح بين وظيفة المؤرخ ووظيفة الأديب.
وأجاب صاحب "الكرنك" على الفور، وبدون تردد أبدا: لقد سمعت كثيرا هذا الكلام، لكنه ليس صحيحا بالمرة، فكل عمل من أعمالي وكل شخصية من شخصياتي تعرض رأيا أو تؤكد اتجاها لتوضح نموذجا من نماذج المجتمع في النهاية بتمعن فكري وآرائي، بالإضافة إلى أنك إذا رأيت أعمال الكثير من الأدباء الذين تناولوا هذه الفترة التاريخية بالذات سوف تجد أن كلا منهم اختلف عن الآخر، أي أنه مختلف أيضا عن تصوري وآرائي عن هذه المرحلة، ولو كان ذلك تاريخا كما يقولون لاتفق الجميع في رؤيتهم.
ويشير أديب إلى أن البعض يهاجم الأديب الإنسان نجيب محفوظ بأنه بعد النصف الأول من الخمسينيات قد تحول من نقد وتحليل الأوضاع الاجتماعية ككل إلى اللعب بنماذج من الشخصيات التي تصور مأساة الإنسان المعاصر للبحث عن انتماء روحي والوصول إلى المجهول الذي يخلق في الأفق البعيد، وبالتالي يبتعد نجيب محفوظ عن النقد الاجتماعي لمشاكل المجتمع، وإبراز سلبياته مع أن أي مجتمع في هذا العالم له حسناته وأخطاؤه!
في هذه اللحظة رأى أديب عيني محفوظ تتسعان من الدهشة بالرغم من النظارة الداكنة اللون التي يخفي وراءها بريق عينيه الذكيتين.
 وقال: لو نظرت إلى الكتب وهي في متناول الجميع، سوف تجد أنني الكاتب الوحيد الذي تحدث عن الحرية وقت الاحتلال، بالإضافة إلى أن مشكلات الإنسان المعاصر التي تملأ قصصي الآن ما هي إلا خلاصة للمؤثرات الخارجية التي يتعرض لها الفرد من المجتمع ثقافيا واقتصاديا، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة. ولقد كتبت "ميرامار" و"اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" وغيرها من الأعمال التي تعرض أفكارا وآراء جريئة تطرح للبحث والمناقشة. بصراحة استطعت أن أتعرض فيها للمشاكل والمتاعب التي صادفتنا أثناء تجربة تحولنا الثوري، وهذه الأعمال طبعت في كتب، وتحولت إلى أعمال سينمائية، ولاقت رواجا جماهيريا شعبيا ورسميا على حد سواء، بما تحمله من صراحة ووضوح والتزام نحو مشاكل الجماهير، وهذه هي وظيفة القلم أليس كذلك؟
ويعقب أديب: قلت من الملاحظ أن الكثير من أبطالك هم من الخارجين عن منطق القانون، فسعيد مهران رجل قتل عدة أشخاص، وحميدة تحولت إلى ساقطة، وصابر أثرت عليه كريمة ليرتكب جريمة قتل، بالرغم من أخطاء كل هؤلاء فإنك استطعت أن تجعل القارئ يتعاطف معهم إلى أقصى درجة ممكنة، بل أن البعض آمن بهذه الشخصيات، فكيف ذلك؟
يجيب الأديب الكبير بقوله: إن هذا التعاطف مقصود مني بالفعل، وهذا ما أرجوه، وما أدعو إليه، فإذا تحقق هذا التعاطف الذي يصل أحيانا إلى درجة الإيمان – كما تقول – فأنا بالتالي أكون قد حققت هدفي بالكامل، وهذه الشخصيات كما ترى ما هي إلا طينة هشة كونت منها الظروف الاجتماعية ما شاءت من أشكال حتى خرجت إلى الدنيا بما يسمى بضحية أو مأساة المجتمع، والبعض من هؤلاء الأبطال هو ضحية أفكار وأحلام، فصابر على سبيل المثال رفض الطريق السهل الذي عرضته عليه إلهام، وهو نسيان الماضي والتفكير في الواقع إلا أنه رفض العرض وأخذ يبحث عن والده رافضا استئناف الحياة والبحث عن وظيفة، فالبحث عن المجهول بالنسبة له بما يمثل من قيم ومبادئ يصبو إليها أهم من الحاجة الاقتصادية، وأيضا بالنسبة لسعيد مهران ضحية ذلك الصحفي الذي غرس فيه مبادئ وقيم عندما اختلفت الظروف بعد ذلك كان أول من يناقضها بعد أن تسبب في شقاء حياة سعيد مهران.
ويسأله عماد الدين أديب: نجيب محفوظ كأديب مسئول أولا وأخيرا عن فكره، لماذا يترك أعماله تشوه سينمائيا؟ فكثير من شخصياته لم تصور جيدا، والبعض منها اقتصر على أعمال فنية ركيكة، وقفشات خارجة. فالسكرية تاهت فيها الشخصيات من كثرة الأبطال. بداية ونهاية انتحر فيها بطل الفيلم بطريقة تختلف مع القصة التي لم يذكر فيها - ولو بالتلميح - فكرة الانتحار، فأتت هذه النهاية عكسية؟
قال: هذا السؤال سؤال مرهق وحساس للغاية في نفس الوقت، فعندما يقوم الكاتب بإنتاج ما، فهو يسعى إلى نشره إلى أقصى حد، والسينما كما نعرف هي أكثر وسائل الفن ذيوعا وانتشارا بالإضافة إلى أنه يعاب على الجيل الجديد، أنه يحكم على الأعمال الأدبية من خلال رؤيته لها سينمائيا فقط. أنا أتساءل لماذا لا يقرأ الجيل الجديد الكتب فهي الأصل؟ عيب هذا الجيل أنه لا يقرأ بما فيه الكفاية. ويجب على الشباب قبل الذهاب لمشاهدة عمل سينمائي له أصل أدبي، أن يقرأ هذا الأصل حتى يستطيع أن يحكم ويقارن. بالإضافة إلى أنني في أغلب الأحيان أُخلي طرفي من كتابة الفيلم. أنا مسئول عن قصتي المطبوعة في الكتاب فقط! أما الفيلم فهو مسئولية آخرين، أما أنا فلست مسئولا.
قال له: ولكنك تستطيع أن ترفض بيع القصة؟ وأضاف: يقال إن شخصية كمال عبدالجواد في السكرية ذلك اللامنتمي الذي يبحث عن انتماء، ما هو إلا شخصية نجيب محفوظ الحائر الذي يبحث عن المجهول في الأفق البعيد؟
أجاب على الفور: فعلا هي شخصية قريبة مني كثيرا، وهي مشكلتي، وهي التي أعتبرها أحد مميزاتي، وهي (عدم وضع نفسي في قالب أو شكل يجعل مرونتي توضع في قالب من الجمود) فالثقافة والدنيا والأوضاع في العالم كله في تغير دائم وحركة مستمرة، لكن ذلك كله لا يمنعني عن البحث بكل ما لدي من إمكانيات للوصول إلى ثوابت، وفي نفس الوقت لا أريد تقييد عقلي بشيء، تلك هي المرحلة أو المعادلة الصعبة التي أحيانا تستحيل على الإنسان أن يخرج منها بما يريد.
وهنا سأله أديب دون تذكير: هل معنى ذلك أن نجيب محفوظ ليس لديه مذهب محدد؟
أجاب، وقبل أن يكمل المحاور سؤاله مقاطعا، على الفور: أبدا من قال هذا، إنني بلا شك أؤيد الحرية في ظل أكبر قسط من الديمقراطية، إنني أؤيد ذلك بلا شك.