نجيب محفوظ ورؤية العالم

الأديب المصري العالمي الراحل المتوج بنوبل للأدب حاول أن يفلسف الرواية وأن يروي الفلسفة التي يريدها وعرف أن الزمان لا يكون إلا من خلال الإنسان، واعتقد أنه لا توجد رواية في العالم كله لا ترتبط بالمجتمع.

الكتابة عند نجيب محفوظ هي انعكاس للرؤية الكاملة للكاتب في الحياة والناس والكون. وقد حاول أن يفلسف الرواية، وأن يروي الفلسفة التي يريدها، وعرف أن الزمان لا يكون إلا من خلال الإنسان. مع أن الإنسان هو الحيوان الأكثر فقرا، والتنظيم الاجتماعي الوحيد هو الذي يسمح له بالبقاء. 
وقالت المترجمة الألمانية دوريس كلياس إن نجيب محفوظ التزم نمطا معينا من الحياة، ولم يغيره. التزم رؤية معينة للعالم، واختار طريقا محددا في الإبداع، دون أن يغويه إبداعه كي يبشر بأيديولوجيا ثابتة، ويجبر الآخرين على اعتناقها باعتبارها السبيل الوحيد في الفن والأخلاق والعقل. هذا الموقف ينم عن عظمة جديرة بالإعجاب.
ويسأله نبيل فرج (البعث السورية - فبراير 1972) كيف ترى عالمنا المعاصر والإنسان المعاصر؟ ويجيب: لقد تعرض العالم لتغييرات خطيرة على طول انتصاراته العلمية التي تسللت إلى أبسط جزئيات الحياة. وفي الوقت نفسه تهب رياح الشك العاتية على قيمه الراسخة القديمة. والإنسان الآن بموقف الباحث عن قيم جديدة يمارس من خلالها قوته الهائلة بما يعود عليه بالخير لا بالهلاك، ولا بد أن يجد يوما طريق الخلاص. وأعتقد أن العالم الاشتراكي وجد طريقه أيًّا كان هذا الطريق. ذلك أنه قوي ومؤمن بعقيدة ما، يفتقدها العالم الآخر. ويؤكد أن العلم هو أحدث وأقوى منهج عرفه الإنسان لمعرفة العالم من حوله ولمعرفة نفسه. أما الفن فهو الوسيلة التي يعبر بها عن انطباعه أو رؤيته الخاصة حيال هذا العالم ليتوافق معه. وحتى هذه اللحظة لم تبطل وظيفة الفن، وضرورته في الحياة.
من ناحية أخرى يؤكد نجيب محفوظ أنه بدءا من الحرب العظمى الثانية بدأ اهتمامه بالعالم ككل، وإدراكه أنه ليس قوقعة، وإنما كل لا يتجزأ، إذا تداعى عضو تداعت له الأعضاء كلها.
ويوضح للشاعر عمر أبو ريشة (مجلة الحوادث اللبنانية - يونيو 1972) أن كل شخصية واقعية وخيالية معا، واقعية لأنها مستمدة من الحياة، وخيالية لأننا نعيد صياغتها بما يخدم هدفا فنيا. بيد أننا نخلقها أحيانا لتعيش في دنيا مثل دنيانا فتبدو متطابقة مع واقع الحياة بما يوهم بأنها حقيقية وليست خيالية. ونخلقها أحيانا لتعيش في دنيا غريبة عن دنيانا فتبدو خيالية غير متطابقة مع الواقع مع أنها – ربما – أعمق واقعية. 
ويقول له: خذ مثلا "جوزيف ك" بطل كافكا. إنه شخص متهم يبحث عن تهمته، ويمضي وسط عالم معقد يطحنه طحنا حتى الموت. لا يوجد في دنيانا شخص على هذه الصورة، ولا عالم كهذا العالم، ولكن الشخص الذي يبحث عن العدالة في عالم معقد ميكانيكي وينتهي بالفناء، هذا شخص يمثل جوهر الواقع في المجتمع الحديث. إنه شخص مجرد، ولكن تتجسد فيه الحقيقة كأقوى ما يكون. وقد حاولت هذا النوع من الخلق في رواية "الطريق" وفي كثير من القصص القصيرة.
ويرى محفوظ (مجة اليمامة السعودية - 9 مايو 1975) أن الثقافة والدنيا والأوضاع في العالم كله في تغير دائم وحركة مستمرة، لكن ذلك كله لا يمنعه من البحث بكل ما لديه من إمكانيات للوصول إلى ثوابت، وفي نفس الوقت لا يريد تقييد عقله بشيء، ويقول لمحاوره عماد الدين أديب: تلك هي المرحلة أو المعادلة الصعبة التي أحيانا تستحيل على الإنسان أن يخرج منها بما يريد.
ويشير كاتبنا (مجلة المجلة السعودية - 24 مايو 1980) إلى أن هناك من يشكو أن فردية الإنسان تضيع لحساب القطاع الخاص لا القطاع العام، أو في مؤسسات الإعلان، ويرى أن فردية الإنسان في العالم الديمقراطي متوفرة وحية. ويعتقد أن هذا الإنسان لن يتنازل عنها بسهولة، بل حتى الأنظمة الشمولية، فإنها تلقى تسامحا يبشر بأنها تريد أن تسترد ذاتها وتريد أن تقاوم. ويؤكد أن فرديته لا تخرج عن هذا الإطار.
ومن الغريب أن نجيب محفوظ يتحدث عن العالم وعن رؤيته له وهو لم يبرح مصر ولا يحب السفر خارج مصر، وتسأله سناء السعيد (المجلة 1980) أنت تتكلم على العالم بأكمله، وعلى الحضارة والثقافة العالمية، وأنت لم تبرح مصر، ولا تحب السفر، ألا تدعوك سعة اطلاعك إلى السفر للتعرف عن كثب إلى ما تتحدث عنه؟ فيجيب: عدم سفري يعود إلى شيء ذاتي تفردي من الصعب الكشف عنه. لقد سافرت مرة واستمعت بالسفر جدا. سافرت إلى يوغوسلافيا ثلاثة أيام. وإلى الآن أتمنى أن أرى يوغوسلافيا ثانية، ولكن عن غير طريق السفر. الخروج صعب علي.
ولعل الاطلاع على أعمال أدباء عالميين حققوا شهرة واسعة يعد زاوية من زوايا رؤية نجيب محفوظ للعالم، ويسأله أحمد فرحات (مجلة الكفاح العربي – لبنان ديسمبر 1983): لمن قرأت وتقرأ من الكتاب الأجانب؟ فيقول: قرأت معظم الأعمال الروائية العالمية، الكلاسيكية منها والحديثة. وآخر ما قرأته من روايات بضع أعمال للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، من بينها "مائة عام من العزلة" و"خريف البطريرك"، وأعترف بأن رواية "خريف البطريرك" أتعبتني جدا. وكلما كنت أوغل في قراءتها كنت ازداد كآبة وتجهما بخلاف رواية "مائة عام من العزلة" التي كنت أجد فيها سحر الفن الحقيقي. ويعلن أنه تأثر بتولستوي، وتشيكوف، وديستوفسكي، وموبسان، وأندريه جيد وغيرهم.
وهو يعتقد أنه لا توجد رواية في العالم كله لا ترتبط بالمجتمع، فما يطلق عليه البعض رواية إنسانية لا ترتبط بالمجتمع شيء خيالي، ولا وجود له في الحقيقة أو الحياة.
وأحيانا يرى نجيب محفوظ العالم من خلال الرموز، ولعل روايتيه "أولادتنا حارتنا" و"رحلات ابن فطومة" خير مثال على ذلك، ويقول لوجيه خيري (مجلة الجيل السعودية - فبراير 1984) إن التعبير الفني في "رحلات ابن فطومة" هو أساس الرمز، لأني إذا قدمتها في إطار الواقعية – وهذا ممكن – كانت القضايا تتداخل وتسبح في مصر وبلاد العالم شرقا وغربا، لكن من خلال الرمز استطعت أن أركزها وأحددها، وبالتالي فإن الرمز كان ميسرا للتعبير عما أردت. ويضرب مثلا بـ "رحلات جليفر"، فلو أن "جيلفر" أراد أن يتكلم في إنجلترا وفرنسا وما بينهما لاحتاج لتجربة حياتية ليس من السهل أن تتوافر له، ولكن بالصورة الخيالية التي قدم بها المجتمعات المختلفة وفَّر على نفسه الكثير، مثلما يختصر الطالب كميات رقمية أو هندسية برموز رياضية. إنها نفس الفكرة مع الفارق في القياس. ويؤكد على أن "رحلات ابن فطومة" عبارة عن رحلة في الحضارة وليست في التاريخ. وابن فطومة مرّ بكل هذه التجارب التي تضمنها العمل، وهي تجارب عاشها العالم عامة، ومصر بصفة خاصة، وعايشناها كلنا. والرمز هنا وسيلة للتعبير مقصودة بالطبع.
أما عن "أولاد حارتنا" ورؤية العالم فيقول عنها (جريدة عكاظ  السعودية – 17 مايو 1993): لقد تصرفت وأنا أكتب "أولاد حارتنا" من خلال أناس يعيشون في حارة، وأخرجتهم من موازين العالم حاملا معي حديثهم، وكنت أبعد ما يكون عن أي فكر مخالف للقيم الروحية أو الاعتقاد الديني. لقد وقع سوء الفهم ربما من تعبيراتي أو من شيء آخر. وأكرر أن هذا الأمر آلمني جدا.
ويعلن نجيب محفوظ عن حزنه الكبير وألمه العظيم لتقدم سنه مع ضعف عام في حواسه، خاصة السمع والإبصار، وفي الوقت نفسه العالم يتقدم ويتجدد دون أن يتمكن من متابعة ما يجري حوله، فيقول (مجلة المجلة السعودية - يناير 1991): العالم متجدد ونحن الآن نعيش عصر المعلومات، ومن يتوقف عن القراءة ساعة يتأخر قرنا من الزمان. وعدم متابعتي لكل تفاصيل ما يحدث أو يدور من حولي أصبح يبعدني عن الحياة والعالم. ولذلك عندما أجلس في أي مجلس أنصت باهتمام وأحاول أن أستمع إلى كل ما يقال من معلومات وأخبار يتداولها الناس. خاصة بعد أن ضعف بصري لدرجة لا تسمح لي إلا بقراءة عناوين الصحف بصعوبة.