هل الإنسان آلة أم أنه غايةٌ في ذاته في 'النفس ودماغها'

الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر يرى في كتابه ان التطور الثقافي اللاعنفي لم يعد مجرد حلمٍ يوتوبي، بل أصبح نتيجة ممكنة لبزوغ العقل من خلال الانتخاب الطبيعي.

يعد الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر واحدا من أبرز فلاسفة العلوم في القرن العشرين، قدم عددا من المؤلفات الفلسفية التي شكلت دورا بارزا في تطور الرؤى والأفكار الفلسفية في القرن العشرين، منها "المشكلتان الأساسيتان لنظرية المعرفة"، و"المجتمع المفتوح وأعداؤه"، و"نظرية الكم والانشقاق في الفيزياء"، و"الكون المفتوح: حجة لعدم الحتمية (1956 ـ 1957م(، و"الواقعية وهدف العلم"، و"المعرفة الموضوعية"، و"الغيوم والساعات"، و"الذات وعقلها". وهنا في كتابه "النفس ودماغها" يتصدى لمسألة "الجسم – العقل" محاولا الاجابة على سؤالها الأبرز: هل الإنسان آلة، أم أنه غايةٌ في ذاته؟.. مستندًا إلى تجاوُز المادية نفسها، ومتخذا من منتَجات العقل البشري مدخلا رئيسا للبحث في إشكالية "الجسم – العقل"، معتبِرًا اللغةَ البشرية أولَ منتجات العقل.

ويؤكد بوبر في كتابه الذي ترجمه عادل مصطفى وصدر عن مؤسسة هنداوي، أن أهدافه الرئيسية من الكتابة في التاريخ القديم لمشكلة العقل - الجسم "هو أن أبين أنه لا أساس للمذهب القائل بأن هذه المشكلة ما هي إلا جزء من أيديولوجيا حديثة وأنها لم تكن معروفة في الزمن القديم. هذا المذهب فيه تحيز دعاوي. يقال إن الإنسان الذي لم يتم غسل دماغه بعقيدة أو فلسفة ثنائية سوف يتقبل المذهب المادي على نحو طبيعي. ويقال إن الفلسفة القديمة كانت مادية، وهو قول لا يخلو، رغم أنه مضلِّل، من مسحة صدق. ويقال إن المشغوفين منا بالعقل وبمشكلة العقل - الجسم قد تم غسيل دماغهم بواسطة ديكارت وأتباعه.

ويشير إلى قول "كانْت قرب نهاية كتابه "نقد العقل الخالص" "إن شيئين يملآن عقلَه بالإعجاب والإجلال المتجددين والمتزايدين على الدوام: السموات المرصعة بالنجوم من فوقه، والقانون الأخلاقي في داخله؛ فالشيء الأول من هذين يرمز عنده إلى مشكلة معرفتنا عن العالم الفيزيائي، ومشكلة مكاننا في هذا العالم، والثاني يتصل بالذات غير المرئية: بالشخصية الإنسانية (والحرية الإنسانية كما يُبَيِّن). الأول يلغي أهمية الإنسان إذا نظرنا إليه كجزء من العالم الفيزيائي، والثاني يُعلِي قيمتَه إلى غير حد بوصفه كائنًا ذكيًّا ومسئولًا".. أعتقد أن كانْت قد أصاب كبدَ الحقيقة. ومثلما قال مرةً جوزيف بوبر-لينكيوس إن كل مرة يموت فيها إنسانٌ يكون عالمٌ بأسره قد انحطَم (يدرك المرءُ ذلك إذا ما وضع نفسَه مكانَ هذا الإنسان). إن الكائنات الإنسانية غير قابلة للاستبدال، وهي في ذلك تختلف بشكلٍ بَيِّنٍ عن الآلات اختلافًا شديدًا؛ فهي قادرة على الاستمتاع بالحياة، وعلى المعاناة، وعلى مواجهة الموت مواجهةً واعية. إنها ذوات، إنها غاياتٌ في ذاتها كما قال كانْت. تبدو لي هذه النظرةُ غيرَ متوافقة مع المذهب المادي القائل بأن البشر آلات".

ويوضح بوبر أن "المذهب القائل بأن البشر آلات أو روبوتات هو مذهب قديم إلى حد ما. وتعود أول صياغة واضحة وقوية لهذا المذهب، فيما يبدو، إلى عنوان كتاب شهير للامتري: "الإنسان كآلة" 1747م، وإن يكن هوميروس هو أول كاتب داعب فكرة الروبوتات. غير أنه من الواضح أن الآلات ليست غايات في ذاتها مهما بلغت من التعقيد. قد تكون الآلات قَيِّمةً بسبب فائدتها أو بسبب ندرتها. وقد تكون لقطعة معينة قيمة بسبب فرادتها التاريخية. ولكن الآلات تصبح بلا قيمة إذا لم يكن لها قيمة الندرة، إذا كانت كثيرة جدًّا ومن صنف نحن على استعداد لأن ندفع ثمنًا للتخلص منه. ونحن، في المقابل، نقدر حياة البشر برغم مشكلة زيادة السكان، التي هي أخطر المشكلات الاجتماعية في زمننا هذا. نحن نحترم حتى حياةَ القاتل. يجب أن نعترف بعد حربَين عالميَّتَين، وتحت تهديد الوسائل الجديدة للدمار الشامل، أنه كان ثمة تدهور مريع في احترام الحياة الإنسانية لدى بعض طبقات مجتمعنا. هذا ما يجعل من المُلِح والعاجل أن أعيد فيما يلي توكيدَ رأيٍ لا مَحيدَ لنا عنه فيما أعتقد: وهو الرأي القائل بأن البشر غايات في ذاتها وليسوا "مجرد" آلات.

ويتابع "نستطيع أن نقسِّم أولئك الذين يذهبون إلى أن البشر آلات، أو يذهبون مذهبًا شبيهًا بذلك، إلى فئتين: أولئك الذين ينكرون وجود أحداث عقلية، أو خبرات شخصية، أو وعي، أو ربما يقولون إن السؤال عما إذا كانت مثل هذه الخبرات موجودة هو سؤال قليل الأهمية، ولا ضير من أن يُترَك دون حسم. وأولئك الذين يعترفون بوجود الأحداث العقلية ولكنهم يؤكدون أنها "ظواهر ثانوية" (أو "ظواهر مصاحبة"، وأن بالإمكان تفسير كل شيء بدونها، ما دام العالم المادي مغلقًا عِلِّيا. ولكن سواء كانوا ينتمون إلى هذه الفئة أو تلك فإن كلا الفريقين، فيما يبدو لي، لا بد أن يتجاهل واقع المعاناة البشرية وأهمية محاربة المعاناة الزائدة. بذلك أعتبر المذهب القائل بأن البشر آلات ليس مغلوطًا فحسب بل خليقًا أيضًا بتقويض أي علم أخلاق إنساني. غير أن هذا السبب نفسه يُلزِمني بشدة أن أؤكد أن المناصرين العظام لهذا المذهب ـ أي الفلاسفة الماديين الكبار ـ كانوا كلُّهم تقريبًا دعاةَ أخلاق إنسانية. فمن ديمقريطس ولوكريتس إلى هربرت فايجل وأنتوني كوينتون، كان الفلاسفة الماديون دائمًا إنسانيين ومنافحين عن الحرية والتنوير. ومن المؤسف أن نقول إن خصومهم كانوا على النقيض من ذلك في بعض الأحيان. هكذا، وبالضبط لأني أعتبر المذهب المادي مغلوطًا، وبالضبط لأني لا أعتقد أن البشر آلات أو روبوتات، أود أن أؤكد على الدور العظيم والحيوي حقًّا الذي لعبته الفلسفة المادية في تطور الفكر الإنساني والأخلاق الإنسانية.

يرى بوبر أن تاريخ نظريات النفس أو العقل يختلف اختلافًا كبيرًا عن تاريخ نظريات المادة. وإن المرء ليجد انطباعًا بأن أعظم الكشوف تمت في الأزمنة قبل التاريخية، وبواسطة المدارس الفيثاغورية ومدرسة أبقراط. وفي أزمنة أحدث جرى نشاط نقدي كبير، ولكنه لم يُفْضِ إلى أفكارٍ ثورية كبيرة. إن أعظم إنجازاتٍ للبشرية إنما يقع في الماضي. تشمل هذه الإنجازات ابتكار اللغة واستخدام أدوات صناعية لصنع منتَجاتٍ أخرى، واستعمال النار كأداة، واكتشاف الوعي بالنفس وبالنفوس الأخرى، ومعرفة أننا جميعًا يجب أن نموت. ويبدو أن الكشفَين الأخيرَين من هذه الكشوف يعتمد على ابتكار اللغة، وربما كذلك الكشوف الأخرى. تبدو اللغة بالتأكيد هي أقدم هذه الإنجازات، وهي الإنجاز الأعمق تجذرًا في تركيبنا الجيني "وإن تَطَلَّب الأمر بالطبع اكتساب لغة محددة من الموروث". ولا بد أن اكتشاف الموت، والإحساس بالفقدان، وبالثكل، هو أيضًا قديم جدًّا. ومن عادات الدفن القديمة التي تعود إلى إنسان نياندرتال، ينساق المرء إلى الحدس بأن هؤلاء الناس لم يكونوا على وعي بالموت فحسب، بل كانوا أيضًا يعتقدون في البقاء. فقد كانوا يدفنون مع موتاهم عطايا، أغلب الظن أنها عطايا كانوا يرونها مفيدة في الرحلة إلى عالم آخر أو إلى حياة أخرى. وفضلًا عن ذلك يروي ر. س. سوليكي (1971م) أنه وجد في كهف شانيدار في شمال العراق مقبرة لإنسان نياندرتال (ربما لعديد منهم) يظهر أنه دُفِنَ على فراشٍ من أغصان مزينٍ بالأزهار. ويروي أيضًا أنه وجد هيكلين عظميين لإنسانين عجوزين، أحدهما "معوق جدا"، والآخر هو "حالة تأهيل". ومن الظاهر أن عائلتهما أو جماعتهما كانت تحتملهما بل كانت أيضًا تساعدهما. ويبدو أن الفكرة الإنسانية في مساعدة الضعيف قديمة جدًّا، وأن علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن بدائية إنسان نياندرتال المفترض أنه عاش في الفترة من 6000  ـ 3500 سنة مضت.

ويقول أن الشواهد الكثيرة تعضد الحدس بأن فكرة البقاء بعد الموت تستلزم صنفًا ما من ثنائية الجسم والعقل. ولا شك أن الثنائية لم تكن ديكارتية؛ فكل شيء يشير إلى فكرة أن الروح كانت تُعتبَر ممتدة، طيفًا أو شبحًا، ظلًا ذا شكل فيزيائي مماثل للجسم. هذه على كل حال هي الفكرة التي نجدها في أقدم مصادرنا الأدبية، وبخاصة عند هوميروس، وفي القصص البطولي القديم، وفي حكايات الأشباح "وأيضًا عند شكسبير". إنها بمعنى ما شكلٌ من المادية، وبخاصة إذا قبلنا الفكرة الديكارتية القائلة بأن المادة تتصف بالامتداد "الثلاثي الأبعاد". ورغم ذلك فإن صبغتها الثنائية واضحة: فالروح الشبيهة بالشبح مختلفة عن الجسم، وهي أقل مادية من الجسم، وهي أرق، وهي إلى الهواء أشبه، كالبخار، كالنفَس. وعند هوميروس نجد كثرةً من الألفاظ للعقل أو للروح، ولوظائفه، أو كما يسميها ر. ب. أونيانز (1954م) "عمليات الوعي": الشعور، الإدراك، التفكير، الازدراء، الغضب.. وهكذا.

ويلفت بوبر إلى أن الأساطير والمعتقدات الدينية هي محاولات لتفسير العالم الذي نعيش فيه لأنفسنا نظريًّا، بما في ذلك العالم الاجتماعي بطبيعة الحال، وكيف يؤثر فينا هذا العالمُ وفي طرائق معيشتنا. ومن الواضح أن التمييز القديم بين الروح والجسم هو مثال من أمثلة هذا التفسير النظري. ولكن ما يفسره هو خبرة الوعي، خبرة الذكاء، والإرادة، والتخطيط، وتنفيذ الخطط، خبرة استخدامنا لأيدينا وأقدامنا كأدوات، واستخدام الأدوات الصناعية المادية، وخبرة تأثرنا بها. هذه الخبرات ليست أيديولوجيات فلسفية. ومذهب وجود روح جوهرية (أو حتى مادية) الذي قد تُفضِي بنا إليه يجوز جدًّا أن يكون خرافة. وأنا أحدس حقًّا بأن نظرية الجوهر بحد ذاتها هي خرافة. غير أنها إذا كانت خرافة فإن لنا أن نفهمها على أنها نتاج لعملية فهم الواقع وفاعلية الوعي وفاعلية إرادتنا، وإن فهم واقعيتها ليفضي بنا أولًا إلى أن نتصور الروح كشيء مادي، كأرهف مادة، وأن نتصورها لاحقًا ﻛ "جوهر" substance غير مادي.

ويخلص بوبر إلى عدد من النقاط مضيفا إليها نقطة مضمرة في الكتاب، يقول "يُنظَر عادةً إلى الانتخاب الطبيعي والضغط الانتخابي على أنهما نتاجان لصراعٍ عنيف من أجل الحياة. غير أنه مع انبثاق العقل، وعالم، والنظريات، تَغَيَّرَ الأمر؛ وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابةً عنا، وتموت بدلًا منا. ومن وجهة نظر الانتخاب الطبيعي فإن الوظيفة الرئيسية للعقل وللعالم هي أنهما جعلا من الممكن استخدام منهج المحاولة وإقصاء الخطأ بدون إقصاءٍ عنيفٍ لأنفسنا، ها هنا تكمن القيمةُ البقائية الكبرى للعقل وللعالم. فمع انبثاق العالم لم يعد الانتخابُ بحاجة إلى العنف، لقد أصبح بوسعنا أن نستبعد النظريات الزائفة بواسطة نقدٍ لا عنفي. لم يعُد التطور الثقافي اللاعنفي مجرد حلمٍ يوتوبي، بل أصبح نتيجة ممكنة لبزوغ العقل من خلال الانتخاب الطبيعي.