يهود القامشلي.. مؤسسون وليسوا طارئين

غيتو اليهود في القامشلي مثال على تعايش هش بينهم وبين المسلمين والمسيحيين لم يدم طويلا.

لحارات القامشلي خصوصية مختلفة عن مثيلاتها، فهي تتقاطع في تفاصيل وتتنافر في تفاصيل أخرى. فإذا أمعنت النظر تجدها تشبه الغيتو بمعناه الطبقي والعرقي والديني والطائفي، لكن هذا الغيتو وعقليته المتوجسة والخائفة يصبح سراباً عندما يختلط البشر في وسط المدينة أو تجمعهم طاولات عامرة بالأكل والشراب في مطاعم المدينة، لذا عليكَ بالاستمتاع بخصوصية هذه الحارات كل على حدة.

من المدن القليلة في سوريا التي سكنها اليهود مدينة القامشلي ولعل ذلك لم يأتِ مصادفة، بل نتيجة عوامل معينة دفعتهم للمجيء للقامشلي.

فكما يروي كبارهم مؤكدين أنهم كانوا يسكنون مدينة نصيبين وفي بداية عشرينيات القرن الماضي. وبعد رسم الحدود بين سوريا وتركيا اثر اتفاقية سايكس – بيكو، تأثرت تجارتهم التي كانوا يشتهرون بها كبيع القماش والصوف والسمن والحبوب، لذا تقدموا بطلب للفرنسيين للأذن لهم بفتح خطوط لتجارتهم تخترق الحدود. لكن الفرنسيين قدموا لهم عرضاً آخر تمثل بتوزيع أراضٍ لهم خلف الحدود في القامشلي التي كانت قيد البناء، فكانت أولى المحلات والدكاكين اليهودية في القامشلي عام 1927. وفي عام 1931 كان عدد العائلات اليهودية في القامشلي قد بلغ 250 عائلة، وتشير إحصاءات فرنسية جرت عام 1943 بأن عدد يهود القامشلي بلغ 1319 نسمة، وفي الحسكة 43 نسمة.

واللافت أن هناك معلومة غائبة أو مغيّبة عن ذاكرة المدينة، تتمثل بأن أول جماعة أهلية عبرت الحدود واستقرت بالقامشلي كانوا يهود مدينة نصيبين الذين استجاروا بموقع الحامية الفرنسية وسكنوا بقربها، واستقر قسم منهم في الثلاثينيات في قرى محيطة بالقامشلي (خزنة – العويجة – حلوة)، وأول يهودي وصل للقامشلي كان الحاخام موشيه ناحوم الملقب بخادم الرب.

ومع نمو المدينة وتنوع السكان الذين قصدوها كان اليهود يستقرون في حارتهم التي سميت بحارة اليهود في محاكاة منقوصة وغير كاملة لمفهوم الغيتو لانهم كانوا متفاعلين مع مجتمع المدينة ولان حارتهم كانت تقع في وسط المدينة وليست في أطرافها، وامتد الى جانب حارتهم أو بالقرب منها السوق الذي كانت الطبقة الحرفية اليهودية العنصر البارز فيه.

اليهود في القامشلي لم يكونوا طارئين على المدينة، بل كانوا جزءًا أساسياً من تاريخها فانخرطوا في مفاصل إدارة المدينة وريفها، ورغم تحفظهم والكثير من الغموض الذي كان يغلّف تفاصيل حياتهم، إلا أنهم لم ينكمشوا في حارتهم وبيوتهم، بل ربطتهم علاقات طيبة مع أهل المدينة الذين بالمقابل احترموا طقوسهم، فكانوا يساعدونهم في أيام السبت التي يحرّم عليهم فيها العمل بكل أشكاله. أذكر أنني ساعدتهم بذلك رغم أن المجتمع المسيحي كان يضج بحكايات الخوف من دخول بيوت اليهود (لإنهم يذبحون مسيحياً كل عام ويصفّون دمه ليصنعوا منه فطيرة الغفران )؟!

في الأربعينات من القرن الماضي تغير حال يهود القامشلي. فبعد سنوات من الهدوء والألفة جاءت النكبة لتضعهم في قفص الاتهام، وبدأ التضييق عليهم ولمنعهم من الهرب او الهجرة كان عليهم أن يتحملوا مداهمات شبه ليلية لبيوتهم من الأمن السوري، وسط أنباء تصل متواترة من مدينة حلب تفيد بحرق 300 منزل ومتجر يهودي وقتل 75 يهوديا، وكذلك قتل 18 يهوديا عام 1967.

في صباح أحد أيام أيلول في مدرستي الابتدائية "غزالة الحرورية" التي استولت عليها الدولة بعدما كانت ملكاً لكنيسة الكلدان، في ذاك الصباح لم تكن زميلتنا اليهودية نازي في الصف، وعندما عدنا للبيت كانت حارتنا القريبة جداً من حارة اليهود تصخب بحكاية هرب أسرة يهودية الى مدينة نصيبين التركية الحدودية، وأن العائلة الفقيرة تركت صينية العشاء على سطح المنزل والبيت مُناراً بالإضاءة للتمويه على رجال الأمن وعبروا الحدود تحت جنح الظلام.

يومها تساءلت بفضول طفولي عما حدث، فلم أتلق جواباً شافياً إلا عندما جاءت حليمة اليهودية ومعها بضاعتها من الحليب الطازج والبزر المسلوق، لقد هربت عائلة لما خلف الحدود مع تركيا باحثين عن مكانٍ أفضل للعيش. حزنت وافتقدت مرحها وطفولتها الشقية، ولكن بعد سنوات طويلة تساءلت مرة أخرى بغضب لماذا يبقى الطلاب اليهود في باحات المدارس عند حصة الديانة؟! ولماذا يُكتب إلى جانب اسمهم في السجلات المدرسية في خانة الديانة "موسوي" وليس "يهودي"؟!

ولم اتساءل كثيراً في تسعينات القرن الماضي عندما صدر قرار رئاسي سوري سُمِحَ بموجبه ليهود البلاد للمرة الأولى بمغادرة البلاد. وخلال أقل من شهرين كانت القامشلي قد خلت تقريباً منهم باستثناء عائلة واحدة بقيت لتدير أملاكهم، لكن بقيت عقاراتهم وتعاملاتها التجارية تمر عبر دائرة بيروقراطية أمنية تُسَمى "دائرة شؤون أملاك اليهود".

مدرستهم الخاصة التي أنشأوها عام 1947 أغلقت بعد عام واحد فقط، وكنيسهم الذي بنوه عام 1938 على مساحة 1200 متر مربع في وسط المدينة وضمن الحي اليهودي لا يزال قائماً في مكانه رغم السنوات التي مرت على رحيلهم عن القامشلي.