أحداث واقعية بلمسة خيالية تغزل خيوط 'أمريكا 62'

النقاد يصنفون الرواية بأنها أهم أعمال يوانيذيس كونها تحمل تجليات رؤاه الفنية والجمالية والأسلوبية، ولكشفها طبيعة الحياة في المدن الأميركية والعلاقات بين الدارسين الأجانب والقضايا التي كانت تعتمل في المجتمع وقتئذ.

تعتمد رواية "أمريكا 62" على الملاحظات التي احتفظ بها الكاتب الروائي القبرصي بانوس يوانيذيس في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الثاني 1962 ومايو/حزيران 1963 أثناء إقامته في الولايات المتحدة. في عام 2003، عندما كان المؤلف يكتب رواية عن سيرته الذاتية، استخدم ملاحظات سجلها قبل أربعين عاما، والتي لم تفقد عاطفتها وأهميتها.

والرواية التي ترجمها د.خالد رؤوف عن اليونانية وصدرت عن دار صفصافة، قدم لها يوانيذيس كاشفا عن تفاصيل كتابتها، يقول "كتبت التدوينات المقتضبة المتناثرة لهذا الكتاب في الفترة ما بين أكتوبر 1962 ومايو/حزيران 1963. إبان رحلة إلى الولايات المتحدة بقيَت عالِقةً في ذاكرتي وذاكرة الملايين من الناس بسبب أزمة كوبا التي هدَّدَت الإنسانية بدمار نووي. بعد عودتي إلى قبرص، جمعتُ تلك التدوينات في صيف وخريف عام 1963 وأعَدتُ كتابتها على الآلة الكاتبة وتَركتُها في ملفَّاتي تنتظر لأكثر من أربعين عامًا. وفي عام 2003، وبينما كنت أكتب روايتي ذات طابع السيرة الذاتية "ديفا"، تذكَّرتها، فسحبتها من خزانة الزمن. أعَدتُ قراءتها، وقرأها عددٌ من الأصدقاء، ثم تناقشنا حولها، وانتهينا إلى نتيجة أن السنوات التي مرَّت تؤيِّد أبدية الأحداث والظروف التي توصِّف وتوضِّح وتؤكِّد على أهميتها.

ويضيف "بعد هذا التقييم بدأت في العمل على النص، وأضيف وألقي الضوء على جوانب مختلفة، وهو الأمر الذي استمرَّ تقريبًا حوالي أربع سنوات. هكذا، تحوَّلَت القصاصات والتدوينات التي وجدتها في درج مكتبي إلى فصولٍ، وأخذت هذا الشكل الذي هي عليه اليوم".

ويكشف يوانيذيس أن أغلب الأحداث والمواقف التي يتضمَّنها هذا الكتاب هي أحداث واقعية، بالطبع تمَّ إثراؤها ببعض رتوش خيالية وتصورات وتأملات ظهرت من تلك الفترة ومن الوقت الحالي أيضًا أثناء الكتابة النهائية. نفس الشيء يسري على الشخصيات التي بين طيَّات الكتاب؛ كلها شخصيات واقعية، ولأسباب مفهومة منحتُها أسماء مختلفة.

ويوضح أنه "في المراجعة النهائية لهذه الرحلة، كانت القراءات المتكررة والتعليقات من السيدة كاترينا كايسي مراجعة دار أرميذا، والتي كانت أول مَن اقترح أن أُتِمَّ هذا العمل وأنشره، مثلما كانت ملاحظات زوجتي "خلوي" والأصدقاء "نيكي أيديناير" و"مونا سافيذو- ثيوذولو" و"كوستاس خادزيورغيو"- ثمينة للغاية، وأنتهز هذه الفرصة لأقدِّم لهم شُكرًا خاصًّا من أعماق قلبي".

وتعد رواية "أمريكا 62" جزء آخر من أعماله التي تحمل طابع السيرة الذاتية. وقد صنفها النقاد بأنها أهم أعمال يوانيذيس الروائية كونها تحمل تجليات رؤاه الفنية والجمالية والأسلوبية، ولكشفها طبيعة الحياة في المدن الأميركية والعلاقات بين الدارسين الأجانب والقضايا التي كانت تعتمل في المجتمع الأميركي وقتئذ.

يذكر أن يوانيذيس ولد في عام 1935. درس الاتصال الجماهيري وعلم الاجتماع في الولايات المتحدة وكندا. شغل منصب مدير برامج الإذاعة والتلفزيون في هيئة الإذاعة القبرصية. كان يكتب الأدب، معظمه نثر ومسرح، منذ عام 1955. ترجمت أعماله ونشرت بالكامل أو في أجزاء بالفرنسية والألمانية والعربية واليابانية والإنكليزية والروسية والرومانية والصينية والمجرية والبولندية والصربية - الكرواتية، والتركية، والفارسية، والبلغارية، والسويدية، والهولندية، والإسبانية، ولغات أخرى. عرضت مسرحياته جريجوري، وبيتر الأول، والحقيبة، والمتكلمون من بطنهم في اليونان وإنكلترا والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا. شغل منصب رئيس لجنة مرجع منظمة المسرح القبرصي، ورئيسًا لمركز القلم القبرصي.

مقتطف من الرواية

حان دوري لمصافحة شاغل المكتب البيضاوي. فجأة، وجدت نفسي في هوَّة أثقل برامجه، أتوا بنا إلى واشنطن بالطائرة كي نعبِّر عن احترامنا وامتناننا. ولكي نرى أين يدق قلب الدولة، هكذا قال متفاخرًا بملء فمه إبراهام فيشر، الذي طلبني كي أقترب:

الطالب القبرصي بيتر أرخونديذيس.

يد الرئيس تلامس يدي.

أنا في غاية السعادة معاليك، إنه لشرف كبير.

راح ينظر إليَّ متفحصًا:

أتمنى يا سيد أرخونديذيس أن تكون قد حظيتَ باستقبال جيد في الولايات المتحدة. أفضل ممَّا قد أعدَّته قبرص لنائب الرئيس جونسون.

ارتبكتُ؛ كيف تتفادى لكمةً كهذه من أحد كبار اللعبة؟ بقبول مهين أم بدبلوماسية؟

سيادة الرئيس، لقد حظيتُ باستقبال رائع، أنا ممتنٌّ للغاية!

توقَّفتُ لبرهة، تصنَّعتُ سعلة طفيفة، ثم ألحقتها بتملُّصٍ أرجو أن يمرَّ:

أمَّا بخصوص استقبال نائب الرئيس فقد تمَّ، في حدود علمي، وفقًا للبرتوكول الرسمي.

لجزيرة قبرص!

أجاب باستهانة، ترك يدي معلَّقةً، ثم مدَّ يده نحو الإيرانية التي اقتربت ليصافحها:

مدام زها روباري، من طهران.

قدَّمها د. فيشر.

أحد أقارب الشاه بهلوي.

أضاف ماكيلوري بصوت خفيض.

مصوِّر البيت الأبيض انتفض، وبدأ فلاش كاميرته في العمل؛ تصوير مخصوص، كادر واسع ولقطتين مجمَّعتين للآخرين الفانين من الدَّهماء، نصف دستة لصاحبة الدماء الزرقاء.

تراجعتُ باحثًا عن منديل؛ صببت كثيرًا من العرق، كنت أشعر بحرٍّ شنيع. والمسيرة أمام الرئيس والانحناءات والمصافحات والمجاملات لا تنتهي.

خرجت إلى الفناء المسوَّر، داهمني الزملاء. أرادوا أن يعرفوا أي انطباع ترك لديَّ كنيدي.

أجبت على مضض:

قبل شهرين، زار قبرص السيد ليندون جونسون. الرئيس مكاريوس، وفقًا للبروتوكول العالمي وليس بروتوكول "جزيرة قبرص"، كُلِّف نائب الرئيس القبرصي التركي الدكتور كوتشيوك باستقباله. وعلى ما يبدو أن هذا قد أزعج الأمريكان الذين كان ينتظرون رئيس قبرص بنفسه أن يفرش السجاد الأحمر لاستقبال الرجل الثاني للقوى العظمى.

ما قلته لهم لم يكن كل الحقيقة؛ تجاهلت حقيقة أن فيصل كوتشيوك استغل الفرصة، أو كي أكون أكثر دقَّة: أساء استغلال الفرصة والثقة الطيبة التي منحها له سيادة الرئيس. مستندًا إلى البروتوكول الرسمي الذي قاد السيد جونسون نحو المحال التركية حيث نصب منذ البكور احتفالًا يونانيًّا. ذبحوا على شرفه الخراف، علَّقوا الأعلام في الشوارع، وأطلقوا المزامير، وأحضروا فرقة رقص وموسيقى من تركيا. انبهر الأمريكي، بعد أن تحدث إلى الجموع استقلَّ سيارة مكشوفة وراح يلوِّح للأتراك القبارصة، أخذوا يهللون ويطلقون الألعاب النارية. من ميدان السرايا بدأ الموكب نحو الرئيس الذي كان في آخر المدينة في المنطقة اليونانية. وبينما كان الأمريكي من تكساس واقفًا كان في انتظاره صيحات وتهليلات أخرى، وربما ذبحوا عجلًا على شرفه في ميدان ميتكساس. لم يحدث شيء كهذا، لم تكن هناك أعلام ترفرف ولا صيحات ولا أي تهليلات سُمعت، قطع نيقوسيا في صمت مميت؛ اليونانيون القبارصة لم يبالوا، واستمروا في أعمالهم وانشغالاتهم، فقط ألقوا النظر على سارينات الموكب ودرَّاجات الشرطة البخارية، التي كانت في مقدمة الموكب؛ هذا كل ما حظي به السيد جونسون. في النهاية، في قلب طريق أوناساغورو، بعد أن رأى أنه لا جدوى وأنه من الحمق أن يقف في السيارة منتظرًا أمطارًا لن تسقط أبدًا من الورود والحلوى والورق الملوَّن- جلس، وأومأ إلى سائقه من جنود المارينز، المتنكِّر في زي سائق، أن يغلق سقف السيارة المكشوفة، والسيدة جونسون التي كانت تجلس جواره سمعته يهمس: "أوغاد دمويون".

وماذا كانا ينتظران، كينيدي وجونسون؟

قال ميحمد متهكمًا.

أن يقوم باستقباله رئيس الأساقفة والرئيس ووزير الدولة! نائب الرئيس... لم يُعطِه الوحدة حتى على سبيل البقشيش.

لم أتمالك نفسي، رددتُ عليه:

صحيح! البقشيش كان قد أعطاه لكوتشوك في الخفاء تحت الطاولة، تقسيم ميدان تقسيم.

الزملاء كانوا يستمتعون بمناوشاتنا مستمتعين، بغضِّ النظر عن صعوبة فهمهم للأسباب العميقة لها. رأيت هذا في عيونهم، كانوا يتساءلون: "لا بُدَّ أن اليونانيين فسَّروا هذا كإهانة"، قال المكسيكي:

كي يشير كينيدي إلى الأمر هذا يعني أنه كان يحمله بداخله.

لحسن الحظ؛ مدام روباري غير مكترثة على الإطلاق بأي شيء يخصُّ الآخرين أو شيء لا يخصُّ اسم بهلوي، أنقَذَت الوضع نوعًا ما، بعد أن جذبت كل الانتباه نحوها هي وهي تقول كيف صافحها الرئيس كينيدي بحرارة وكيف ضمَّ يده على كفِّها.

اللمسة تنقل القشعريرة! برررر! جاذبيته سَرَت في يدي، لن أغسل يدي حتى أنتهي من كل التقارير كي أنقل كل انطباعاتي. أريد أن أنقل لإيران القوَّةَ التي تنبعث من هذا الرجل العظيم!

هل هذا يعني أنها تغتسل أحيانًا؟!

همس ميحمد مداعبًا.

دعانا روبي لنقترب منه والفرح يملأ وجهه وهو يصرِّح لنا أن مجموعتنا الصغيرة كانت محظوظة، وهو يقول:

أنتم المجموعة الأولى من متدرِّبينا التي يستقبلها الرئيس في المكتب البيضاوي!

لقي تصريحه بعض التصفيق، شَكَرنا، وأعلن أنه قد نظَّم لنا جولة في العاصمة. عرَّفَنا بالفتاة التي بجواره. تُدعى لوريتا تشابمان، وهي تكون مرشدتنا السياحية.

لم يُخفِ ميحمد حماسه. قال إنه لا يكترث بالكابيتول، ولا بحديقة الرؤساء، ولا بالنصب التذكاري لجيفرسون ولينكولن، حيث وعدتنا لوريتا (وربما أقول "هدَّدَتنا!") بأن تصحبنا في جولة يومية؛ ولا حتى مكتبة الكونجرس التي تحتوي على أكثر من ثلاثين مليون كتاب وتسجيلات فيديو وأفلام وأرشيف صور فوتوغرافيٍّ وأشياء من هذا القبيل، كلها مؤرشفة ومُرتَّبة في أغلفة، وعلى أرففٍ على مساحة تزيد عن خمسمائة ميل!

لقد شاهدت كل هذا قبل عامين. اليوم سأكتفي بالمسلَّة. فحينئذ لم أستطع؛ لأنهم كانوا يغسلونها من الخارج.