أحمد محمود مبارك .. ومضة جواد تمشي على الأرض

الشعر السكندري المعاصر
الشاعران عبدالمنعم الأنصاري واحمد مبارك .. طاقة إيمانية عالية

* بين الشعر والشاعر:

لاشك أن الشاعر الصديق أحمد مبارك واحد من شعراء الثغر السكندرى المعاصرين المتميزين، له فى حديقة الشعر "تداعيات 1991"، "فى انتظار الشمس"، "فى ظلال الرضا 1996" وغيرها .

ويأتي ديوان "ومضة في جبين الجواد" ليصدر في فترة مليئة بالمتناقضات النفسية والأجتماعية والأخلاقية ليجعلنا ننتبه للأدواء الغائرة في روح عالمنا الذي نعيشه ونحياه بخيره وشره، تلك التي ردتنا إلى الوراء باسم التقدم والحضارة والحداثة وخلافه، وخطت خطوات أفسدت روح الشاعر والمتلقي معا، حتى ما عاد الشاعر يجد فرصة ليصفو مع نفسه المتوهجة ساعة ليعكس هذا الصفاء إلى قارئه وسامعه، وإنما تحت مسمى الحداثة وما بعدها حدث العكس تماما، فانفضت مائدة الشعر وما عاد عليها ما يروح النفوس لتصفو وتنعم بأريجه.

إن مبارك حين أطل علينا بهذه المجموعة الشعرية المتميزة بدا وكأنه نذير جاء لينبهنا إلى أدوائنا، ويضئ لنا الدرب لنفهم ما ستغلق علينا أحيانا.

إنه فى هذه المجموعة يرصدنا أو قل يذكرنا ببعض القيم والأخلاقيات التي نعم بها الآباء والأجداد وضيعها الأبناء والأحفاد تحت هذه المسميات الغريبة والمصطلحات المريبة حتى باتت معاني الحب والصدق والخير والجمال والكلمة الطيبة ضربا من ضروب التخلف والرجعية في هذا الزمان الذي فسدت فيه نفوس البشر.

إنك عزيزي القارئ حين تطالع قصائد هذه المجموعة تجد نفسك مدفوعا لأن تأتي من ذاكرة القلب بتلك الأخلاق الحميدة والقيم التي تبنى وتهذب وتدفع إلى الأمام لتبث في فؤاد كل منا نورا يجدد الإيمان ويصلح ما أفسده الناس في زمانهم، ومن هنا كان ضروريا أن نطرح هذا الواقع أمام أعيننا، ونحن نطالع هذه المجموعة لنشعر بقيمتها كعمل إبداعي متفوق أو نتيقن من مدى حرص الشاعر على حفظه لتلك القيم الأخلاقية وطرحها علينا في مناخ قل أن نجد فيه من يشد على يديك ويصحبك في الطريق إلى الحق والخير والجمال.

فإذا كان الأستاذ الدكتور محمد زكريا عناني قد قدم بكلمة لهذه المجموعة مستهلا بما أسماه "الملمح الشخصي" الذي يسعى سدنة النقد الآن للتعتيم عليه، فقد أحسست أنه قد وضع يده على السر في تقييم شعر ما، ذلك لأن الشعر لا يستقيم له هذه الصفة حتى يكون صاحبه شاعرا أجتمعت له مقومات الشاعرية الحقة، ثم لا يغيب عنها بعد "شخص الشاعر" نفسه، إنه البصمة الحقيقية الدالة على شعره والتي تعطيه بالفعل قيمته.

ولسنا في هذا إلا مرددين لما استقر مفهومه زمانا وخاصة عند العقاد ومدرسة الديوان، وأبوللو وما بعدها. وما نلحظه بعد في شعر مبارك يعلمنا أنه قرأ واستفاد من مدارس الشعر المختلفة وخاصة ما جاء بعد منتصف القرن الماضي مما عرف بمدرسة الواقعية الشعرية، تلك التي أسس لها صلاح عبدالصبور، وحجازي في آخر الخمسينيات، ولعله يحسن أن نضيف هنا أن الملمح الشخصي يمتد برغم هذا الجانب من الذاتية منه إلى تجارب الشاعر الشعرية فتكشف من جهة عن صدقه والتزامه أخلاقيا فيما جنَّد له شعره، وتكشف مرة أخرى عن صلتها بواقعه الذي يحرص على تصويره وعكسه للمتلقي بعد أن امتلأ ثقة في شاعره لإحساسه بصدقه ونبل مقصده من وراء إبداعه، ومع ذلك فلسنا بصدد طرح الملامح الشخصية لشاعرنا فهذه الصفحات القليلة مخصصة لدراسة شعره، ثم يأتي تبين ملامحه الشخصية فيها كأمر تلقائي ومنطقي معا بحيث يجعلنا نوقن بأن هذه النصوص لأحمد مبارك خاصة دون سواه، غير أنه لا ينبغي أن يفوتنا أن نشير إلى ملمح رئيسى في شخصية أحمد مبارك وهو ملمح الإسلامية عنده كشاعر تتجلى في تجاربه الوجدانية الفردية من ناحية، كما تتجلى في تجاربه التي يمس بها هموم أمته ككل. ومنها هم فنه الشعري الذي ترصده غربان الساحة، الأمر الذي يبدو معه مرتدين إلى الأساس في التربية إلى الأب فيوضح لنا كيف ربَّى وكيف نمَّى أولاده حتى استوى على خير ما يرجَّى منه قوة ونضجا، الأمر الذي رأينا مبارك يؤكده في إهدائه أكثر من ديوان لأبيه ومنها هذا الديوان "ومضة في جبين الجواد:" حيث يقول:

مرة أخرى ..

إلى روح أبي ..

الذي عاش شامخا ..

عفيف النفس ..

ومات واقفا كالأشجار.

وهو ما قاله تقريبا في إهدائه لديوانه "في انتظار الشمس".

وقد انعكس أثر هذه التربية الإيمانية على مبارك الإنسان أولا ثم عليه شاعرا ثانيا. فجاء شاعرنا بهذه الطاقة الإيمانية التي دفعته للكتابة، وهذا الملمح الإيماني يعتبر ملمحا ضروريا للتعرف على شاعرنا، وشخصيته، وروحه الحية والذي تجسد بشكل واضح في قصيدته "ومضة في جبين الجواد".

* الملمح الإيمانى بين الأصالة والمعاصرة

قراءة في قصيدة "ومضة في جبين الجواد"

قالَ لي:

ذاتَ يوْمٍ أبي ..

وضِيا وجْهِهِ ينفضُ الغيْمَ عني ..،

وراحتهُ ..

فوقَ صدري ضِمادْ

لستَ أولَ من شرِبَتْ ..

جهْدَهُ ..،

يا بُنىَّ بذورُ الأمانى ..،

وقهقهتِ الريحُ ..،

في قبْضتيهِ..

أوانَ الحصادْ.

كانَ مثلكَ..،

مَنْ غرَّدَ الطيرُ..،

فوقَ روابيهْ..،

وابتسمَ الزهرُ..،

حينَ أصرَّ..

ولمْ ينكسرْ للأسى ..،

والصهيلُ الذي فزَّعَ الليلَ ..،

وانسابَ ينثرُ ورْدَ الشموسِ..،

بساحِ الجهادْ. !

كبَّلتْ خطْوَهُ..،

كبوَاتٌ مُشبَعَةٌ بالدجى..،

غيرَ أنَّ الجيادْ..،

داستُ الكبَوَاتِ..،

وشقتْ ركامَ الظلامِ..،

فَقُمْ..،

لا تُطِلْ يا بُنىَّ..،

بكهْفِ القنوطِ الرقادْ.

أبتهجْ يا أبى ..،

ها أنا بعدَ عمرٍ طويلٍ مضى..،

لم أزلْ..،

أتْبَعُ الكدَّ .. كدَّا..،

وأستطيبُ العزمَ..

ماءً .. وزادْ .

أيْنَعَ الغرْسُ..

بالثمرِ الحلوِ..،

أمْ ليْسَ يطرَحُ..،

إلا صفيرَ الرياحِ..،

ووخْزَ القتادْ.،

يتعثرُ خطوي الأبىُّ..،

وينهضُ..،

والرحلةُ المستضيئة ُبالعزمِ لا تنتهى .

غيرَ أنى أدوسُ انكساري..،

وأشرَبُ صَفْوَ انتصاريَ..،

منْ ومْضةٍ ..

في جبينِ الجواد . !

"ومضة في جبين الجواد" .. هي في الظاهر عنوان لديوان شاعرنا، وكذلك عنوان لقصيدته الأولى، وفي الحقيقة إنما تمثل شخصية الشاعر أمس تمثيل، فأنت عزيزي القارئ عندما تقرأ هذا الديوان تجد أن أول ما يطالعك هذا الإهداء الرقيق. "مرة أخرى إلى روح أبي" فالشاعر يضع أيدينا على بداية الطريق من خلال وفائه لأبيه ومعرفته التامة بأنه امتداد طبيعي له، وأن إيمانه الذي يملأ قلبه هو فيض من فيوضات أبيه الإيمانية التي تجلت واضحة في تربيته لابنه حيث قام ببذر البذور وري الأرض حتى نما الزرع، وجاء وقت الحصاد، ويؤكد ذلك قصائد الديوان الأولى، والتي تحمل عنوان "ومضة في جبين الجواد" ـ الجذر ـ إشراق ـ اللباب.

إن هذه القصائد ليست وليدة الصدفة أو التجربة أو الحال أو ما شابه ذلك مما يعتري شعراء هذا العصر في كتاباتهم الدينية، وإنما تمتد في جذورها في أعماق أعماق الأرض، أقصد روح الشاعر وقلبه منذ أول الطريق. يقول الشاعر في قصيدته "ومضة في جبين الجواد":

قالَ لي:

ذات يوم ٍأبي ..

وضيَا وجههِ ينفضُ الغيْمَ عني

وراحَتُهُ .. فوق صدري ضمادْ .

هكذا كان يُعلَّمُ الأب ابنه بهذا المحيا الوضئ، وهذا الحنان الدافئ، الذي يملأ القلب، فيحرثه كما يفعل الزارع حين يبذر البذور، إلى أن يحصد ثماره الطيب.

أنظر عزيزي القارئ .. إلى هذا المفتتح :

قالَ لي ..

ذات يومِ أبي .

كيف يفتش شاعرنا في ذاكرته عن قول أبيه، ويبحث عنه ضمن شرائط ذكرياته المختزنة في أعماق نفسه، والمحفوظة بعيدة عن أي شيء يفسدها عبر الزمان الطويل، وكيف ضفَّر شاعرنا لغة السينما (الفلاش باك) بكل ما فيها من معاصرة، وهو يبحث في أعماق أعماقه ليصل إلى أصالته طارحا أمامنا مشهدا سينمائيا يملأ الكادر. حيث يقول:

وضيا وجههِ ينفُضُ الغيمَ عني ..،

وراحتهُ ..

فوق صدري ضمادْ .

إنه في البداية شغلنا بحاسة السمع، واستعد كل منا ليسمع نصيحة الأب لابنه حين جاء بفعل القول، وأضاف إليه القص ليجذب انتباهنا للمحة طفولية قديمة، تحمل في طياتها حكايا الآباء، حملت لنا في ثناياها كل ميزات الآباء والأجداد في ثوب شيق سهل يجذب الانتباه، بالإضافة إلى وجه والده الذي ملأ الكادر أمام النظارة في لغة سينمائية عالية تحمل عبق الماضي وعطر الحاضر. تبرز لنا حنان الأب ودفء قلبه وراحته وهي تمسح صدر شاعرنا، وكيف استقبل الابن هذا كله في كلمة عالية تحمل فى داخلها الكثير حين يقول:

فوقَ صدري ضِمَادْ.

وما يعنيه الضماد للجرح .. هذا المشهد السنيمائي الذي استدعى أمام القارئ ليس فقط لقاء بين الأب وابنه فحسب، ولكن روح اللقاء ومشاعر الابن لأبيه، وكيف احتفظ بها الشاعر عبر هذه السنين طازجة تحمل دفء المشاعر، وحمية اللقاء، ولم يمسها ما يعكر صفوها، أو يفسدها عبر سنين الزمان.

هكذا تفوق شاعرنا على نفسه في لغة بسيطة مركبة في آن واحد، تحمل خبراته الطويلة في عالم الشعر، تحمل علامات نضجه الفني وموروثه الغني. إنه يتكأ في هذا العمل على لغة السينما، وهي لغة معاصرة تحمل مفردات العصر، إلى جانب أصالته الضاربة بجذورها في أعماقه، والثابتة في أرض آبائه وأجداده منذ آلاف السنين.

ويستطرد الشاعر في سرد حكايا أبيه حيث يقول:

لسْتَ أولَ منْ شربَتْ جَهْدَه .. ،

يا بنيَّ بذور الأماني ..،

وقهقهتُ الريحُ ..

في قبضتيهِ ..

أوانَ الحصادْ!

إنه يضع يده بمهارة الجراح الماهر على جرح غائر في داخل ابنه، الذي ضاع جهده وتعبه هباء، وعاد صفر اليدين بدلا من أن يملأ كفه بالثمار، إنه يقر ويعترف بجهد ابنه وعطائه الدائم، فهو لم يبخل أو يتكاسل، إنه أدى واجبه على أكمل وجه، ولكن حدث العكس فقد:

شربَتْ جَهْدهُ بذورُ الأماني.

قهْقهَتْ الريحُ في قبضتيهِ أوانَ الحصادْ.

إنه قضاء الله وقدره، وعليه أن يؤمن به ولا يعترض على ذلك، ويأتي الأب ليطرح مشهدا مماثلا لمشهد ابنه، فها هو ذا الأب يرفع ابنه المنكس ليطرد عنه ذلك الغول الذي يجثم فوق صدره حتى يكاد يقتله ألا وهو اليأس. يقول الشاعر:

كانَ مثلكَ ..

مَنْ غرَّدَ الطيرُ ..

فوقَ روابيهِ ..

وابتسمَ الزهرُ ..

حينَ أصرَّ .. ،

ولم ينكسرْ للأسى.

ويأتي مشهد ناضج يحمل بين طياته درسا جديدا للابن، إنها الحقيقة واللؤلؤة التي يود أن يضع يده عليها ليقتنصها من خزانة والده، ليتعلم منها الدرس أو قل إنه يستخرج يد أبيه التي سبق أن ضمد بها والده جرحه القديم ليضمد بها جرحه الجديد، فجاء هذا المشهد السينمائي الرائع. حيث يقول:

والصهيلُ الذي فزَّع َالليلَ ..،

وانسابَ ينثرُ ..

وردَ الشموسِ..

بساحِ الجهادِ،

كبَّلتْ خطوَهُ ..

كبواتٌ مُشبَعَة بالدجى ..،

غيرَ أن الجيادَ ..

داست الكبواتِ..،

وشقتْ ركام الظلامْ.

انظر عزيزي القارئ كيف طرح الأب درسه الشيق على ابنه من خلال معركة حربية في ساحة الجهاد، في لغة سينمائية عالية تتكئ على موروث إسلامي عال، ألا وهو الخيل التي تصهل في ساحة الجهاد لتصل في النهاية إلى الحق والخير والنصر لدين الله، مهما واجهتها من عثرات كبلت خطوها إلا أنها تقوم وتشق ركام الظلام لتحقق وعد الله لها بالنصر والظفر طالما أنها تمضى في سبيل الله. وبالتالي، على شاعرنا أن يتعلم من الجياد، ويقوم من رقاده، ليعاود الكد والاجتهاد. لذا جاء السطر التالي يحمل فعل الأمر بمفرده، حيث يقول:

فقمْ.

ليس هناك خيار بين .. بين، لكنه القيام ومعاودة التعب والكد ليصل إلى مراده الثمين، فهو لم يزل على العهد حيث يقول:

أبتهجْ يا أبي ..،

هاأنا بعد عمرٍ طويلٍ مضى ..،

لمْ أزلْ ..،

أتبعَ الكدَّ .. كدَّا .،

وأستطيبُ العزمَ ..

ماءً .. وزادْ .

أينعَ الغرسُ ..

.. .. .. .. .. ..

يتعثرُ خطوى الأبيْ ..،

وينهضُ

.. .. .. .. ..

غيْرَ أني أدوسُ انكساري ..،

وأشربُ صفوَ انتصاري ..،

منْ ومْضَةٍ في جبينِ الجوادْ .

إنها اللؤلؤة التي يحتفظ بها بميراث أبيه "ومضة في جبين الجواد" تلك التي تعود به إلى ساحة الجهاد ليصهل من جديد ويحقق النصر والظفر في سبيل الله، لأنه ضمن النصر من عند الله فلا مجال لليأس والقنوط، فطالما أن قلبه مفعم بالإيمان وبنور الله، هذا الإيمان الذي يدفع به دائما إلى الأمام مهما واجهته الصعاب، إيمانه القوي بالله وبقضائه وقدره، خيره وشره، هذا الإيمان هو البذرة التي زرعها الأب في قلب طفله الصغير، وهو الآن يجني ثمار إيمانه القوي، وقلبه العامر بأنوار الله.

إننا أمام تجربة عالية لشاعر سامق يحمل بين جوانبه حرفة الشعر وبكارة الحلم ونضارة الإبداع. إنه الأخ والشاعر الصديق أحمد مبارك قصيدة تمشي على الأرض، تحمل في داخلها عبق الماضي، وأريج الحاضر، أصالة الآباء والأجداد، ومعاصرة الأبناء عبر طاقة إيمانية عالية تمتد عبر جذورها إلى عنان السماء.