أخطر الحروب تلك التي لا يريدها أحد

تريد إسرائيل تحجيم الهلال الشيعي من دون الاخلال بتوازنه مع الهلال السني التاريخي.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب متلهف لـ"سكوپ" ديبلوماسي كبير في الشرق الأوسط من نوع زيارة السادات إلى أورشليم (9 تشرين الثاني/نوفمبر 1977) أكثر مما هو شغوف بحرب كبيرة. وبالفعل، نسمع وعيدا بالحرب ولا نرى استنفارا حربيا أميركيا أو إسرائيليا على الأرض. لا تزال إسرائيل تكتفي بغارات مصطفاة، وإيران وحزب الله بتهديدات مختارة، وواشنطن بعقوبات تصاعدية.

بفضل مرجعية الدولار، العقوبات امتياز أميركا ضد أعدائها. وحدها تملك هذا السلاح، خصوصا إذا أرفقته بحصار. قد تكون العقوبات هي الحرب أو المعركة الاقتصادية في حرب عامة. "حسنات" هذه الحرب أن واشنطن تستطيع أن تشنها على أكثر من دولة في وقت واحد من دون تحرك عسكري أو إنفاق مالي. وسيئاتها أنها تمتد في الزمن وتطول المجتمعات والشعوب أكثر مما تسيء إلى المستهدفين حصريا.

لكن هذا الـ"سكوپ" الديبلوماسي الكبير يحتاج - في المنطق الأميركي/الإسرائيلي - إزالة "العوائق" من أمامه وحمايته مسبقا و/أو لاحقا. من هذه الزاوية تبرز الاحتمالات التالية: تحجيم إيران وحزب الله في المنطقة ولبنان، مصالحة قطر مع السعودية ومصر، إنشاء حلف خليجي - مصري - أردني، عقد مؤتمر وارسو ضد إيران (13 و14 شباط المقبل)، طمأنة أردوغان حيال الأكراد، التسليم بالدور الروسي في سوريا مقابل ضمانات معينة.

رغم أن الطرفين الإسرائيلي والإيراني يتجنبان الحرب، الحرب تسعى وراءهما لأن مشروعيهما عدائيان وإلغائيان، ويصعب، تاليا، أن يتحققا - ولو جزئيا - من دون معمودية النار. الديبلوماسية وحدها لا تستطيع دفع إسرائيل إلى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، ووقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وتهويد أورشليم وإعلانها عاصمة. الديبلوماسية وحدها لا تستطيع وقف التمدد الإيراني في العالم العربي، ودحر الهلال الشيعي، وتطويق المشروع النووي الإيراني، وحل الآلة العسكرية لحزب الله، ومنع بقاء القوات الإيرانية في سوريا. لا تستطيع أميركا وإسرائيل، وحتى روسيا، حسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، وإنجاز صفقة العصر - وأي صفقة! - من دون صفعة أخيرة.

لذلك، إن تفادي الحرب يبدأ بإعادة النظر في المشروعين الإسرائيلي والإيراني. ولأميركا وروسيا وفرنسا دور في هذا الإطار، خصوصا أن هناك مصلحة براغماتية للفريقين بعدم بلوغ ساحة المواجهة القصوى. فعدا أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي يراهنان، إلى حد ما، على روسيا لكي تحد من الدور الإيراني في سوريا، هناك مصالح استراتيجية وتاريخية وأقلوية تقرب إيران وإسرائيل بموازاة تباعد مشروعيهما. وآخر دليل عملاني على هذا "الالتقاء الطوعي"، أن إسرائيل وإيران هما، حتى الآن، المستفيدان الوحيدان من اضطراب العالم العربي منذ سنة 1991 (تاريخ حرب الخليج الأولى على العراق) إلى اليوم.

مهما كان مشروع الثورة الإسلامية المناهض إسرائيل والمنافس الحالة السنية في العالم، بخاصة في الخليج والمشرق، يعطي الإيرانيون الأولوية للمحافظة على كيانهم الفارسي وحماية دولتهم كقوة إقليمية منذ العصور القديمة. ويستبعد أن يغامروا بتاريخهم وبثورتهم وبنظامهم حين يحين الجد، لاسيما أن ميزان القوى العسكري هو لصالح إسرائيل وأميركا (مبدئيا). وأصلا، تعلم حكام إيران، منذ حربهم ضد العراق (1980 - 1988)، أربعة أمور: تفضيل الهيمنة على الاحتلال، منفعة التفاوض على حدود الهيمنة منه على حدود الكيان، التزام شفير الهاوية من دون الوقوع في الهاوية، واستحسان الحرب بالوكالة وعلى أراضي الغير على التدخل المباشر، إلا إذا اضطرت كحالها في سوريا.

علاوة على ذلك، تجد إيران (وحزب الله استطرادا) نفسها معزولة سياسيا، ووحيدة عسكريا ومثقلة بالعقوبات من كل صوب. فروسيا تعارض شن عمليات عسكرية إيرانية ضد إسرائيل وتفضل انسحاب القوات الإيرانية سلميا من سوريا (إيران اتهمت روسيا بوقف عمل نظام الصواريخ "300S-" كلما شنت إسرائيل غارة على قواتها في سوريا). أكثر من ذلك، السفير الروسي لدى إسرائيل أناتولي فيكتوروف، عطفا على موقف بوتين، دعا إيران وسوريا إلى إجراء مفاوضات سلام مباشرة مع إسرائيل (حديث خاص إلى تلفزيون i24news في 24 كانون الثاني/يناير 2019).

أما إسرائيل، وقد لوعتها الحروب الناقصة، فتتحاشى الانزلاق إلى حرب جديدة. لكن، إذا حصل أن خاضتها فتتمناها هذه المرة خاطفة على طريقة 1967 لتثبيت تفوقها العسكري السابق، وللتعويض عن الهزائم النسبية التي منيت بها بين 1973 و2006. ويفترض، في هذه الحال، أن تكون اتفقت على أطرها الجغرافية وعلى نتائجها السياسية والسلمية والاقتصادية مع أميركا وبعض العرب قبل الشروع بها.

إلا أن توجس إسرائيل من تجذر "الهلال الشيعي" في محيطها المشرقي (من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا)، يظل نسبيا مقارنة بتوجسها التاريخي من "الهلال السني"، بل من العالم السني عموما. وفيما هي مصممة على تحجيم "الهلال الشيعي"، لا تريد بالمقابل سيطرة مطلقة للسنة في المنطقة، خصوصا بعد بروز التيارات التكفيرية والمتطرفة والإرهابية. وآخر تجليات هذا "التوازن" الإسرائيلي هي: القبول ببقاء نظام بشار الأسد الحليف الرئيسي لإيران، والتعايش مع القرار 1701 في جنوب لبنان.

واضح أن هناك أسبابا استراتيجية تؤجل الحرب الإسرائيلية/الإيرانية على أرض لبنان وسوريا، وأن هناك أيضا أسبابا استراتيجية أخرى ترجح اندلاعها. وإذا كانت لم تندلع بعد فلأن القرار الزمني والمكاني لم يحسم بعد رغم أن كل يوم يحمل أكثر من ذريعة وحجة لحصولها. لكن هذا التوازن الاستراتيجي السببي، يوازيه سباق ديبلوماسي. فهل ينجز ال"سكوپ" الديبلوماسي الذي يتلهف إليه ترامب قبل الانتخابات الإسرائيلية (9 نيسان) على أن يعقبه بعدها سكوپ عسكري؟

نحن في لبنان، لا نريد كامپ ديڤيد آخر ولا 2006 جديدة. نريد إنقاذ لبنان الـ"10452" من دون زيادة أو نقصان.