أزمة الإنسان في قصيدة "الظل والصليب"

قصيدة صلاح عبدالصبور ستظل فاصلا بين عهدين من الشعر؛ عهد النبرة الخطابية واستظهار القدرات البلاغية وإثارة الانفعال، وعهد التأمل العميق يلفه شعور إنساني هادئ.
زمن يرفضه عبدالصبور ويرفض الاندغام فيه بل يتأمله كموضوع مفضلا دور الراصد على الهامش
الظل دلالته رمزية إيحائية ومضامينه الإنسانية والشعورية والفكرية لا تنتهي

ستظل قصيدة الشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور (1931-1981) "الظل والصليب" فاصلا بين عهدين من الشعر عهد النبرة الخطابية واستظهار القدرات البلاغية وإثارة الانفعال، وعهد التأمل العميق يلفه شعور إنساني هادئ، وآية ذلك كله أن هذه القصيدة تتمرد على الذاكرة، وعهدنا بالشعر القديم يسعى إليها فتحتضنه، أما هذه القصيدة وكثير من أمثالها في شعرنا الحديث فتغريك بالوحدة لتخلو إلى نفسك أو تراودك هي على الخلوة، مغرية إياك بقراءتها وإعادة قراءتها لتغذي وجدانك وعقلك بمضمون إنساني رفيع يقصر عنه الشعر القديم، ذلك أن هذه القصيدة قد سلمت من عيوب الشعر القديم متنزهة عن النظمية والتكلف اللغوي والشطط البلاغي محتفية بالتجربة الإنسانية والمضمون الوجودي مشكلة لوحدها ساقية تصب في محيط الشعر الإنساني العالمي.
ولكن أترى سأم عبدالصبور سأما وجوديا عاما يتماهى مع سأم كيركغارد وسأم الروائي ألبرتو مورافيا صاحب رواية "السأم"، أم هو سأم خاص رهين الواقع العربي المتردي في دياجير الجهالة والعماء والاستبداد السياسي وتأسن الوضع الثقافي الذي استسلم للشعارات اليمينية واليسارية الجوفاء، وإلى التقليد وانسحاب عفونة الماضي على طراوة الحاضر؟ وفي القصيدة ما يؤكد هذا المنحى بدليل قوله: 
هذا زمن السأم 
نفخ الأراجيل سأم 
دبيب فخذ امرأة ما بين أليتي رجل 
سأم 
وفي السطر الثاني ما يؤكد خصوصية هذا السأم فنفخ الأراجيل عادة شرقية لولا أن الشاعر يعود فيقول:
 لا عمق للألم 
لأنه كالزيت فوق صفحة السأم 
لا طعم للندم 
لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة 
ويهبط السأم 
وفي السطر الأخير ينجلي هذا السأم، إنه سأم وجودي إنساني عام ينسحب حتى على حميميات الإنسان كممارسة الحب بدليل قوله: 
إنسان هذا العصر والأوان. 

مات الملاح حتف الأنف، من غير شهادة بمقارعة الخطوب وفضل خلاصه الفردي بالجنوح إلى السكينة والرتابة. ولقد تحول الخوف إلى مارد خرج من قمقمه وأدخل فيه ملاحنا ورماه إلى هاوية العدم حيث العماء والظلام

فهذا السأم إذن حالة وجودية تتضمن القرف من الوجود والإحساس بعماء الكون وتبلد الموجودات تنسحب على الشرق، كما تنسحب على الغرب، وتتماهى مع سأم كيركغارد ومورافيا، والجلي أن عبدالصبور قد درس الوجودية السارترية وتمثلها أحسن تمثيل، ألم يقل ساتر على لسان أورست في الذباب "إن أجبن القتلة من شعر بالندم"، فهذا المقطع ينفذ إلى لباب الوجودية ويلخصها في التركيز على الشعور بالندم الذي يشظي ويسفه الفعل الإنساني ويرجعه حرثا في الماء أو إلقاء بذرة على الصخرة، ولأن الندم سليل الخوف الشرعي ترى الإنسان يلوذ به فارا من عذاب الخوف على حساب الحرية الإنسانية العميقة الشاملة، وحتى لا يضبط الإنسان متلبسا بجريمة الوزر، وأي وزر؟ لعله الوزر الذي ارتكبه آدم أول مرة حين أكل من الشجرة محاولا إثبات وجوده بتمرده، لكن آدم قد ندم وسنّها شريعة في عقبه، فكل تفكير حر، وكل خروج عن السياج الدوغمائي، وكل تمرد على الأعراف والرتابة في القوانين والأطر الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، هو "وزر" يحمله صاحبه لحظة ثم يهن عظمه وتثقل خطاه ويعيش رهابا نفسيا ذريعا ينتهي به إلى التطهر من هذا الدرن بالندم. 
إنه زمن يرفضه عبدالصبور ويرفض الاندغام فيه بل يتأمله كموضوع مفضلا دور الراصد على الهامش مستخدما دلالة فنية أو ربما حيلة لاشعورية باستخدام اسم الإشارة "هذا" والتي تعني حالة الانفصال أو الطلاق بين الذات والموضوع (الزمن).
وفي تفكير عبدالصبور مرونة وحرص على الحرية في الفكر والتعبير فتراه يوظف مضامين إنجيلية وهي خصيصة يشاركه فيها معظم رواد الشعر الحديث. فهو يستلهم قصة يسوع حين حمل صليبه ومشى إلى ذروة "الجلجلة" مؤثرا الحرن على أفكاره والدفاع عنها إلى آخر لحظة في حياته ولو اقتضى الأمر الموت في سبيل الموقف الحر.
فعبدالصبور بهذه الرؤية المستلهمة قصة المسيح يؤكد بُعدا مهما في الإنسان هو الحياة لأجل قضية أو موقف، ولعل المثقف في طليعة المعنيين بذلك خاصة إذا تعفنت الحياة وأصابها الجدب والخصاء واستبد الإنسان بالإنسان وهو ما يدعوه سارتر بالالتزام، وما يعبر عنه عبدالصبور تعبيرا فنيا جميلا بالمجد والأمد.
وأما "الظل" فدلالته رمزية إيحائية ومضامينه الإنسانية والشعورية والفكرية لا تنتهي، فالإنسان ليس كيس لحم كما يقول سارتر، بل هو صاحب قضية وموقف من الوجود والإنسان، وإذا تنازل عن هذا الموقف فقد شرفه وإنسانيته وتحول إلى كيس لحم والموقف الفريد في الفكر والشعور والنضال من أجله هو ما يعبر عنه الشاعر تعبيرا فنيا ورمزيا بالظل،، وإذا تنازل عنه الإنسان لحساب الرفاه المادي أو الفرار من الخوف تنازل عن كرامته الإنسانية، وإذا أصرّ عليه لقي حتفه حقيقة أو رمزا يقول الشاعر:
أنا الذي أحيا بلا أبعاد 
أنا الذي أحيا بلا آماد 
أنا الذي أحيا بلا ظل... بلا صليب 
الظل لص يسرق السعادة ومن يعش بظله يمش إلى الصليب في نهاية الطريق.
غير أن الشاعر يتميز بالصدق مع نفسه ومع القارئ مفضلا أن يعمم هذا الموقف المتخاذل على جيله غير مستثني ولو نفسه اقرأ قوله: 
أنا رجعت من بحار الفكر دون فكــــر 
قابلني الفكر ولكني رجعت دون فكــــر 
أنا رجعت من بحار الموت دون موت 
حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته 
وعدت دون موت 
وفي خاتمة المقطع الأول تأتي لفظة "الصفصاف" في محلها من القصيدة، دلالاتها الفكرية والفنية لا تنتهي ولعبدالصبور قدرة كبيرة في اقتناص هذا النوع من الألفاظ وتوظيفها في شعره وفي عنق الحسناء يستحسن العقد كما يقول المتنبي.
فالصفصاف شجرة تتميز بالضخامة وكثرة الأغصان والتدافع إلى عنان السماء لتبدو أطول من غيرها على سبيل المباهاة، لكنها غير مثمرة، فهي رمز للجدب والخصاء وللشاعر القدرة على استنبات ألف غصن من غصونها الكثيفة في الصحراء وتأمل هذه اللفظة وما توحي به من عقم، فإذا كان في مقدور الشاعر أن يعيش كشجرة الصفصاف سامقة مشمخرة عن خواء، وكذلك كان له لو قبل بنمط الحياة والفكر واندمج فيهما إيثارا للسلامة غير أنه يأبى. ذلك يقول الشاعر:
 يا شجر الصفصاف إن ألف غصن من غصونك الكثيفة 
تنبت في الصحراء لو سكبت دمعتين 
تصلبني يا شجر الصفصاف لو فكرت 
تصلبني يا شجر الصفصاف لو ذكرت 
تصلبني يا شجر الصفصاف لو حملت ظلي فوق كتفي
 وانطلقت.  

Poetry
أسألكم أن تعطوني أنفي 

أما المقطع الثاني فقد تضمن أربعة أسطر تعمق فيها الشاعر مسألة الخصوصية الفردية ومسألة الالتزام وعلاقة الفرد بالمجتمع وهو صاحب ديوان "الناس في بلادي" ذلك أن الإنسان يعيش في بيئة اجتماعية وهو كائن اجتماعي بطبعه يعنيه تقدم المجتمع ورفاهه كما يعنيه تخلفه وعطالته، له ما له وعليه ما عليه، غير أن الأوامر والنواهي من لدن المؤسسات الرسمية (السياسية والدينية والثقافية) تشجب مبدأ التدخل في حياة الجماعة حفاظا على طابعها التدجيني مقهورة ومستعبدة بأفكارها  كما يقول فوكو، وهي إذ تشجب ذلك تعمد إلى انتهاك خصوصية الفرد بمحاولة تجريده حتى من وسائل الإدراك أي حواسه لكي يتم تدجينه وإدخاله إلى داخل السياج الدوغمائي رافضة تميزه وتمرده ولو بمقاييسه الذاتية وهو ما عبر عنه الشاعر بقوله "مرآتي".
يقول عبدالصبور:
قلتم لي لا تدسس أنفك فيما يعني جارك 
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي 
وجهي في مرآتي مجدوع الأنف؟
ويأتي المقطع الثالث في محله من القصيدة إنه مقطع يتعمق الذات العربية باحثا في سراديبها مكتشفا تضاريسها وهو ليس من قبيل السادية التي تستلذ جلد الآخرين بالتعالي عليهم وتتفيه حياتهم، بل هو ربما من قبيل المازوشية حيث تستمريء النفس المرارة، وتستلذ الألم يأسا وخيبة، والشاعر يبادر بإعلان الهزيمة وخواء الروح وغياب الطموح، وأول لفظة يجدر بنا الوقوف على دلالاتها الفنية والحضارية هي لفظة "الملاح" ذلك القائد الطليعي الذي يخوض بسفينته عباب البحار مصارعا موجها قاهرا رعبها سالكا مسالك النجاة بركابها، إنه السندباد الذي يكتشف العوالم مستحليا حلاوة الكشف مبتهجا بنشوة المعرفة ملبيا نداء إنسانيا عميقا فيه هو نداء المغامرة حتى لا تتأسن الذات وتركد الروح، وأما الملاح فهو كما أسلفنا القائد الطليعي لعله المثقف أو رجل الدولة أو الزعيم الذي في يده مفاتيح النصر وفي عقله مشروع الأمة ودستور الرقي والتمدن، وأما البحر فهو الحياة الصاخبة أي الدنيا التي نعيش فيها مذللين صعابها بثمرات عقولنا وكدح سواعدنا غير أن ملاحنا وجد الراحة في اليأس وعاف دور السندباد، وخاف من أن يكون بروميثيوس العربي الذي يسرق نار المعرفة وينير بها دنيانا حتى تنجلي الغاشية عن أمتنا ويجنح بنا إلى شاطئ الحضارة والرقي.    
فملاحنا مازال كائنا ميتافيزيقيا من العصر الوسيط يرفض تبني فلسفة العصر والدخول إلى ساحة أنواره وهو في نظرته إلى السماء يعاني ازدواجية فهي تارة في صفه إن توسم فيها الخير، وتارة ضده إن ظن منها العسر، إنه موقف ميتافيزيقي ضبابي غير حاسم، على العكس من المجتمعات الراقية التي جعلت الحضارة ذات بعد أفقي ومضمون إنساني خالص، أما ملاحنا فيكتفي بالبعد الرأسي متخليا عن دوره في الكشف والإبداع والجهد والمغامرة، مستسلما إلى أحلامه الميتافيزيقية، إنه مسكون بالخوف بل الرعب، هاجسه الأساسي وهو الذي يمنعه من ارتكاب الوزر، مؤثرا السلامة، لائذا بالإحسان في صيغته الساذجة دفعا للإحساس بالذنب، مطلقا الزمان الذي يأبى في صلف أن يندغم فيه لحساب الماضي وما أشد إيحاء كلمة "الزوال" في هذا المقطع التي توحي بالتلاشي رويدا رويدا:
 ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون 
يدعو إله النقمة المجنون أن يلين قلبه، ولا يلين 
يدعو إله النعمة الأمين أن يرعاه حتى يؤدي الصلاة 
حتى يِؤتي الزكاة، حتى ينحر القربان، حتى يبتني 
بحرِّ ماله كنيسة ومسجدا وخان للفقراء التاعسين
 من صعاليك الزمان.

وهذه القصيدة تعد "بورتريه" له. ويأتي العنصر الجنسي، وللعربي حنين إليه وعذاب لأجله وفيه حد الشبقية تلك الأجواء التي رسمتها "ألف ليلة وليلة" و"الروض العاطر" وأشار إليه لفيف من الشعراء العرب، ثم إن الملاح مات رمزيا قبل الموت البيولوجي حين اكتفى من الدنيا بالاستسلام لواقعها والإيمان بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، حين رفض تميزه الإنساني بالوثبة الحضارية والفعل الخلاق بل نظر إلى ثمرات المعرفة وأطايب المدنية نظرة الثعلب إلى العنب فلما استعصى عليه ادعى أنه حصرم، وهي حيلة نفسية تجنح بصاحبها إلى إيثار السلامة تعبيرا عن العجز بل وخداع النفس بتتفيه الأشياء، وهو ما عبر عنه الشاعر بالملح والقصدير:
أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد
ثم قال: 
هذي جبال الملح والقصدير 
فكل مركب تجيِئها تدور     
تحطمها الصخور 
ملاحنا أسلم سؤر الروح قبل أن نلامس الجبل
وطار قلبه من الوجل 
كان سليم الجسم دون جرح دون خدش، دون دم   
حين هوت حبالنا بجسمه الضئيل نحو القاع 
ولم يعش لينتصر     
ولم يعش لينهزم!
فهو ملاح زائف إذن، لأن جسمه ضئيل والعادة في الملاح أن يكون قوي البنيان هرقلي القامة مفتول العضلات ومقابلاتها الحضارية الوعي الحضاري والالتزام والإخلاص للقضية والرغبة الملحة في خلاص الناس، مع الاستعداد للمغامرة، أما المشرق البعيد، فالموصوف هو النهضة والصفة هي الاستحالة أو الاستعصاء في أحسن الأحوال.
إذن مات الملاح حتف الأنف، من غير شهادة بمقارعة الخطوب وفضل خلاصه الفردي بالجنوح إلى السكينة والرتابة. ولقد تحول الخوف إلى مارد خرج من قمقمه وأدخل فيه ملاحنا ورماه إلى هاوية العدم حيث العماء والظلام.