"أزهار تقلدني في السقوط" رمزية الموت ودلالة الحياة

الشاعرة المغربية عُلية الإدريسي اختارت عنوان "أزهار تقلدني في السقوط" لديوانها، وهو من خارج قصائد الديوان لذلك يبدو مثل كتلة ضوء يأتي من الخارج ليضيء على القصائد.
الشاعر عموما لا يمثل نفسه حتى وإن أوحى لنا بذلك إنما يمثل صوت المجتمع الذي نشأ فيه
هيمنة لفظ "الموت" بدلالته الحسية وبدلالاته الرمزية في ديوان علية الإدريسي

تقديم الديوان:
عن منشورات دار التوحيدي بالرباط / المغرب وبدعم من وزارة الثقافة المغربية أصدرت الشاعرة عُلية الإدريسي آخر إصداراتها الأدبية ديوان بعنوان "أزهار تقلدني في السقوط" (طبعة أولى / 2018)، صدر الديوان في حجم صغير يمتد على 202 صفحات ضمت إضافة للإهداء ثماني وأربعين قصيدا متفاوتا في الطول وردت عناوينها في لفظ واحد وأخرى في جملة أحيانا تكون تقريرية وأحيانا ترد في شكل سؤال. لا يوجد فهرس يضم محتويات الديوان ولا ندري إن كان ذلك سهوا من الناشر أو تعمدته الشاعرة للإشارة إلى أن القصائد ممتدة بلا حدود لها، تتواصل بما سبقها وما سيلحقها من دواوين لها ومنفتحة على كل أبعاد الحياة.
عتبة العنوان: 
اختارت عُلية الإدريسي العنوان التالي لديوانها "أزهار تقلدني في السقوط"، وهو من خارج قصائد الديوان لذلك يبدو مثل كتلة ضوء يأتي من الخارج ليضيء على القصائد، هذا العنوان الذي تقترحه الشاعرة من أجل لفت انتباه القارئ المحتمل بتعبير أندريه دي لونجو ورد في صيغة جملة اسمية التي تفيد بطبيعتها الثبات والاستمرار، لعل ما يلفت الإنتباه في هذا العنوان أنه يشير إلى الأزهار التي تقوم بفعل السقوط وتحاكي في هذا الفعل الشاعرة، غير أن صيغة الجملة التي تبدأ بذكر الأزهار تقوم بعملية تحويل انتباه القارئ المحتمل من سقوط الشاعرة وهو الفعل المخفي إلى سقوط الازهار وهو الفعل المكشوف. 
لغةً، لا يجوز أن نتحدث عن "سقوط" الأزهار لأنها نبات ولذلك لا تتمثل فعل السقوط  القارئ العادي سيستعمل "تساقط " الأزهار الذي يحدث نتيجة معطيات طبيعية خارج "إرادة" الأزهار قد تعود إلى قلة المياه أو كثرتها وقلة عمق التربة أو تعرض الزهرة إلى عوامل مناخية لا تقدر على تحملها مثل الحرارة المرتفعة أو الرياح الشديدة الخ.. إذن وجود الزهرة في مواجهة مجموعة من العوامل الطبيعية والظروف المناخية يجعلها تتساقط، غير أنه يسمح للشاعر أن يلعب داخل اللغة ويعيد صياغتها وفق ما يريد، فالزهرة هنا لا تعني ضرورة تلك النبتة الجميلة التي تأتي لتبشرنا بقدوم فصل الربيع والتي قد تهدى للأحبة وقد تزيّن الطاولات بل قد تستعملها الشاعرة هنا للإشارة إلى قصائد الديوان التي تحاكي الشاعرة في فعل السقوط لأنها تصدر عنها أساسا، إذن يبدو اللفظ - المفتاح في عنوان الديوان هو "السقوط"، ما الذي يجعل من الشاعرة في وضع السقوط؟ 
 الشاعر عموما لا يمثل نفسه حتى وإن أوحى لنا بذلك إنما يمثل صوت المجتمع الذي نشأ فيه بل يمثل النبض الإنساني لذلك يمكن أن نتحدث عن سقوط الإنسان في زمن العولمة، 

الديوان الأخير للشاعرة عُلية الإدريسي يأتي في مرحلة مهمة تشهد تعددا في الأصوات الشعرية المغربية واختلافها، غير أن المشهد الشعري المغربي يبدو أنه غير مهتم بما يروّج الآن لمقولة أن الشعر العربي قد انحسر مقابل تمدد الراوية

عتبة الغلاف:
اختارت الشاعرة بتنسيق فني مع دار النشر لوحة تشكيلية للفنان المغربي عبدالسلام أزدم لتكون غلاف الديوان. لعل أهم ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة/الغلاف هو اللون الأسود الذي يبدو ممتدا تقريبا على كل الغلاف وفي أسفله مساحة صغيرة من اللون البرتقالي، اللون الأسود يمنح الغلاف عمقا بصريا ويوحي للمتلقي بالتفكير الجدي والغموض كما يثير مشاعر الحزن والتشاؤم، وهو أحد الألوان التي يميل الفنان العالمي رامبرانت إلى استخدامه، في حين أن اللون البرتقالي الذي يأتي في مساحة أقل أسفل اللوحة/الغلاف فإنه يثير لدى المتلقي نوعا من البهجة والسعادة ويشعره بالتحدي. يبدو اللونان كخلفية عليها ترتسم بعض الخطوط، في أسفل اللوحة رُسم رجل يربطه خيط منثني ومتقطع إلى امرأة تبدو في أعلى اللوحة، الرجل غارق في اللون الأسود والمرأة بارزة في مساحة بيضاء وما يجمعهما هو اللون البرتقالي الذي يرمز للحب والهدوء ويضج بالسعادة. 
لعل اللوحة تقول إن العلاقة بين الرجل والمرأة تشدها متناقضات عديدة تصنع انسجامهما وذلك ما يضفي على وجودهما أكثر من معنى. ما يثيره اللون الأسود من تفكير عميق مشوب بالحزن يأتي البرتقالي ليجعل له حدا فيوحي بقدرة على التجاوز وبث البهجة، بمعنى ان اللونين يلخصان الوجود الإنساني في تناقضه لعل هذا ما يصنع للوجود معنى. 
اعتمدت عُلية الإدريسي على غلاف الديوان توزيع بصري انطلاقا من كتابتها لعنوان الديوان على الغلاف الخارجي حيث جعلت من لفظ "السقوط" في العنوان مقلوبا من جهة للفت انتباه القارئ ومن جهة للتأكيد على فعل السقوط بحيث يتناسب معناه مع طريقة كتابته.
عتبة الإهداء:
قد يذهب في ذهن المتلقي أن الإهداء حركة عفوية لا علاقة لها بالنصوص الشعرية وهذا مجانب للصواب، لأن الإهداء نص مواز له دلالته، ويمكن أن يكشف عن مفهوم العملية الإبداعية لدى الشاعرة، تختار عُلية الإدريسي هذا الإهداء "إليك.. طبعا" فتشير إلى أن الكتابة الشعرية لديها ليست عملا ذاتيا يخصها بل قد يكون له وظيفة اتصالية تربط بينها وبين الآخر، إنها تكتب للآخر لتفك عزلتها وتؤثث وجودها بذات أخرى منفصلة عنها فتجعل من الشعر لغة مشتركة بينهما، غير أن اللافت للانتباه أنها لا تحدد هوية هذا الآخر لا تجعل حركة على الحرف الأخير للفظ "إليك" فلا نفهم هل المُهدى إليه ذكرا أم أنثى؟ يبدو هذا إيهاما مقصودا من الشاعرة حتى تحافظ على خصوصية العلاقة التي تربطها بهذا الغيري، لكن هذا الإيهام سرعان ما ينجلي أثناء قراءة القصائد إذ سنجد أغلب قصائدها تتجه إلى الرجل. يبدو هذا الرجل معروفا لدى الشاعرة وتخفيه عن القراء، وقد يعود ذلك إلى رغبتها في المحافظة على نوع من الحميمية التي تخصها، كما قد تعود إلى طبيعة المجتمع الذي يمثل حارس العادات والتقاليد وسلطة تفرض قوانينها على المبدع خارج نصوصه وداخلها أيضا.
ثنائية الموت والحياة:
ديوان الشاعرة عُلية الإدريسي "أزهار تقلدني في السقوط" منفتح على أغراض مختلفة وتيمات متنوعة كما أنه يقتفي أثر التفاصيل ويحتفي بها لكن تبدو تيمة الموت بارزة بشكل لافت، ومن جهة أخرى نجدها تنشغل بالحياة، واذا كانت الموت تقوله مباشرة ودون مواربة، فإن الحياة تتحدث عنها من خلال إشارات متعددة لعل أبرزها المكان الذي عندما يتحدث عنه غاستون باشلار لا يتحدث عنه بوصفه مكانا معاديا، بل بوصفه مكانا مألوفا وحميميا يضج بالحياة لأنه يمثل أفكار الإنسان وذكرياته وأحلامه، بمعنى لا يوجد مكان فارغ، فكل مكان إنساني تملؤه الحياة حتما، لهذا في ديوان عُلية الإدريسي تبدو ثنائية الموت والحياة من خلال رمزية الموت ودلائل الحياة التي تبرز في خصوصية الأمكنة التي تشغلها الشاعرة.
1/ رمزية الموت:
يلاحظ القارئ في ديوان "أزهار تشبهني في السقوط" للشاعرة عُلية الإدريسي هيمنة لفظ "الموت" إن بدلالته الحسية أو بدلالاته الرمزية، ولأن الموت فعل يسلط على الإنسان من خارجه، يأتي ليسلبه الحياة فهو هادم اللذات ومفرق الجماعات، كما يذهب القول الديني لذلك كان الموت ولا يزال إحدى التيمات البارزة التي أثارت الإنسان، إذا كان الدين تعوّد أن يجعل من الموت هدف الإنسان بحيث يقضي حياته في انتظاره وهذا ما يفرض عليه سلوكيات معينة تجعله المؤمن الصالح، في حين أن الفلسفة دعت مع أفلاطون إلى ضرورة تعلم الموت حتى يتمكن الإنسان من التخلص من شروره وتحقيق الصفاء الروحي الذي يساعده على التفكير والتأمل، لكن الشعر كان له في الغالب وجهة نظر أخرى فقد حوّل الموت إلى تيمة أساسية من خلال الأغراض الشعرية المختلفة من رثاء وهجاء وتأمل وزهد لذلك يزخر ديوان الشعر العربي بمفردة الموت، ورغم الامتداد التاريخي والتنوع الجغرافي والتعدد الثقافي العربي فإن الموت لا يزال حاضرا في المدونة الشعرية العربية، اليوم والإنسان يعيش مرحلة تاريخية متقدمة لها انتصارات علمية ومعرفية جعلته يبسط نفوذه على كوكب الأرض وما جاورها لماذا يحتاج الشاعر أن يتحدث عن الموت ويكتب عنه؟
من عادة الشعراء أن يأتوا بالموت إليهم ويقومون بمواجهته، كأنهم يذلك ينتقمون للإنسان من هذا الذي يفسد عليه حياته، الشعراء مثل مقاتلي الساموراي يتخلصون من رهبة الموت ويتجرؤون عليه لذلك هم يناورونه من زوايا مختلفة وكذلك فعلت عُلية الادريسي في هذا الديوان:
أ/ الموت سلطة:
تأتي علية الإدريسي بالموت لتجعله يتصدّر قصائدها، تختاره ليكون وسيطا بينها وبين قارئها لذلك جعلت من الموت في عناوين قصائد عديدة مثل "من أين يأتي الموت؟" (ص 46) و"أنا لم أمت" (ص 50) .. الخ. وهي بذلك تجعل من الموت بؤرة تختزل نصوصا شعرية عديدة وحسب ليو هوك (أهم منظر لعلم العنوان) ليس العنوان هو أول من نلاحظه في النص فقط بل يمثل عنصرا سلطويا منظما للقراءة، بمعنى أن الإدريسي عندما تجعل من الموت عنوانا تمنحه نفوذا على النص أولا وعلى القارئ ثانيا، فهو كعنوان يختزل مضمون النص الشعري ويعبر عنه، ثم أنه يوجه القارئ عندما يستدرجه للنص الشعري ويؤثر في كل تأويل ممكن له لهذا النص. 
إذا كان المؤمن يمنح سلطة للموت بحكم خضوعه إلى قوة ميتافيزيقية عليا تجعله هو نفسه أسيرا للموت بحيث يسلبه حياته التي يعيشها، فإن الشاعر غير ملزم بقوة خارجه لذلك نجد الإدريسي تجعل من نفسها هي القوة العليا التي تمنح الموت سلطة وتسمح له بنفوذ محدد سلفا وبعد أن كنا نظن أن الموت حر يقصد من يشاء سنجد أنه يتحول شعريا إلى عبد يخضع إلى سلطة الشاعرة، ومن هنا يمكن أن نتحدث عن قدرة الشعر على ترويض الموت.

Poetry
 أَنْتَظِرُكَ كَبَحْرِ صَامِت 

 ب/ الموت صديقا:
عندما وجد الإنسان نفسه في مواجهة الموت أصيب بالرعب، لذلك استعان بوسائط إبداعية جعلته يواجه الموت فيتقبله، وقد كان الشعراء على مر التاريخ يتغذون بالأسطورة من أجل مهادنة الموت لذلك نجدهم إما يستحضرون أساطير بعينها في قصائدهم فيستثمرون الميثولوجيا العالمية والإغريقية تحديدا، وإما يعتمدون على الخيال المطلق وبناء علاقات جديدة يستثمرون فيها إمكانيات الإنسان في التواصل مع ذاته وتوظيفها من أجل ترويض الموت. هذا ما يذهب إليه العديد من الشعراء المعاصرين من ذلك ان الإدريسي تتخيل الموت في صورة إنسان وتجعله آخر، بحيث تصبح هذه العلاقة غيرية تخضع إلى صراع شديد حول الحياة، المنتصر هو الذي سيفوز بالحياة، لذلك نلاحظ أن أول مرة يرد فيها ذكر للموت في ديوان عُلية الإدريسي ورد في قصيدة "ظلال تخصني" (ص 7): 
هذا الموت الذي
 ليس باستطاعتي أن أقتله 
يقول إنشتاين "الخيال أهم من المعرفة" وهو يقصد أن الخيال هو الذي ينتج المستقبل وإبداعيا يعتبر الخيال قوة الشعر فهو يمكن من تجاوز معوقات الواقع، لذلك يعتمد الشعراء دائما على الخيال لبناء عالم بديل يحقق كل أحلامهم. في هذا الديوان تستعين علية الإدريسي بالخيال لتتخلص من عداوة الموت ويبدو ذلك ممكنا بإلغاء المسافة الفاصلة بين الشاعرة والموت بما هو آخر بحيث تحوله إلى صديق. غير أن اللافت أن الصراع مع الموت يظل حاضرا وهي بذلك تشير إلى صراع أزلي بين الإنسان والموت. تقول الشاعرة في قصيد "أكاذيب تصلح لسقف البيت" (ص 14): 
ثمة موت سيقتلني
وأنا صديقته. 
العلاقة المرتبكة بين الشاعرة والموت تعبر عن علاقة الإنسان الأبدية بالموت والتي لا تخضع إلى ثبات فهي مرتبكة دوما، لذلك يحدث للشاعرة أن تملك سلطة على الموت فتتوعده تقول له ستخسر أشياء ان لم يطعها، كأنها تتحول إلى سيدة على الموت تتحكم فيه كأنه عبدها أو طفلها الصغير، تقول في قصيدة "ارتباك" (ص 25):
(...) أَيْنك؟ 
هَا أَنَا رَتَّبَت الْمزْهِرِيَّة 
هُنَاكَ الْكَثِير لِتَخْسرهُ 
فقط .. التفت 
أَيّهَا الْمَوْت ... (...)
نلاحظ أن بين الشاعرة والموت علاقة شدّ وشذب يحدث أن يسيطر الموت على اللعبة فتفزع الشاعرة خوفا منه ويحدث أن تسيطر الشاعرة على الموت فتهدده فيستكين لها، ومثل أن الروايات يمكن أن تحتوي على نهايات مفتوحة يمكن للقصيد أيضا أن يحتوي على نهايات مفتوحة لذلك نلاحظ أن آخر هذا القصيد تترك الشاعرة قوسين بينهما مجموعة نقاط بما يفيد ان هناك كلاما حُذف وهي تتعمد أن تشير إلى ذلك وتترك القارئ يفكر هل إنها وهي تطلب من الموت أن يلتفت هل كانت ترجوه وتستعطفه أم أنها تهدده وتشتمه؟ 
من أجل التعبير عن حالة الصراع مع الموت توظف الشاعرة الإدريسي للتعبير القصة الغريبة لبنجامين بيتن التي تحكي صراع الإنسان مع الموت وتوقه للخلود من خلال التحكم في الزمن، فقد وُلد بنجامين شيخا ومات رضيعا بحيث يصل الإنسان إلى الموت وهو رضيعا هشا مما يعني أن الموت كتلة من القسوة، إنه مثل حيوان كاسر يأتي فجأة ليسلب الحياة هذا الرضيع المسكين. قصة بنجامين بيتن مع الموت تعري هذا الأخير وتكشف فظاعته الشديدة والإدريسي تستغل لحظة موت بنجامين الرضيع لتقول إنها لحظة عنف مبالغ فيه من الموت.
هذا الارتباك في تناول الموت من طرف الشاعرة تجعله مصدر قلق وحيرة، وقد كان كذلك بالنسبة للإنسان في مختلف العصور منذ ملحمة كلكامش أقدم النصوص الأدبية المكتوبة التي عبر فيها الإنسان عن هاجسه الشديد من الموت وتوقه للخلود الذي لا يكون إلا بدحر الموت غير أن الشاعرة في ديوانها هذا تؤكد أن قدر الإنسان أن يبقى على صراع مستمر في مواجهة الموت.  
 2 / دلالات الحياة:
من الاعتقادات الشائعة التي نحملها عن الشعر أنه يرتبط دائما بالحياة، فقد جاء الشعر ليقول الحياة، هكذا وصلنا من خلال أغلب الشعراء في مختلف العصور وهو ما ذهب إليه الفلاسفة أيضا مثل افلاطون عندما اعتبر "الشعر تقليدا مجردا للحياة"، هذا الربط بين الشعر والحياة أشار إليه العديد من نُقاد الأدب وهو ما ذهب إليه الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري عندما كتب في إحدى مقالاته أن "الموت في الشعر هو ذريعة لأنسنة الحياة والمطالبة بها" (في المجلة الإلكترونية رسائل الشعر) لذلك قد نتفاجأ عندما نجد شاعرا يجعل من الموت تيمة بارزة في ديوانه مثلما فعلت عُلية الادريسي، ويمكن أن تتلاشى دهشتنا عندما ندرك أن الحديث عن الموت يقصد به الشاعر تمجيدا للحياة تقول الشاعرة في قصيد "أغمض قلبي كي أراك" (ص 82):
يَحْتَاج الْمَوْت مِدْفَأَة 
بِلا مَصَابِيح جَدِيدَة 
عندما تؤنس الشاعرة الموت نفهم ماذا تريد منه. إنها تحوله إلى ناطق باسم رغباتها في الحياة وما تريده الشاعرة: ليس أكثر من "مدفأة، بلا مصابيح جديدة". تستخدم المدفأة في الأجواء الباردة طلبا للدفء فنفهم أن الشاعرة تعيش وضعا حسيا يتطلب حضور المدفأة وأغلب الظن أن المدفئة هنا مجرد إشارة إلى طقس حميمي تفتقده من أجل الشعور بالاهتمام والمشاعر الرقيقة التي تعبر عن الحب، لعل المدفأة هنا كلمة - مفتاح تقودنا إلى عوالم الشاعرة فما الذي تتوق إليه وترغب به؟
- المكان: بين الهوية والكينونة 
تحتفي الشاعرة عُلية الإدريسي بالحياة ويبدو ذلك من خلال خصوصية المكان الذي يحضر بشكل لافت في قصائدها، يقول جاستون باشلار وهو من أهم من اشتغل على دلالة المكان فلسفيا إن"العمل الأدبي حين يفتقد المكان فهو يفتقد خصوصيته" لذلك يمثل المكان معنى للإنسان ويفيض برمزية مكثفة تجعله يضج بالحياة، وبهذا المعنى يمكن أن يكون نقيض الموت وهذا ما يبدو جليا في ديوان علية الإدريسي.
إذا كان الروائي يحتاج إلى تخيّل المكان وخلقه حتى وإن كان يعني مكانا بعينه، فإن الشاعر يمكن أن ينطلق من مكان متعيّن وحسي هو مكان واقعي وله رمزيته في وجدان الشاعر.  
في ديوان "أزهار تقلدني في السقوط" تكتب الشاعرة علية الإدريسي عن مكانين وتراوح بينهما: المكان المنغلق والمكان المفتوح.
أ/ المكان المغلق: تأكيد الهوية
تنطلق من مكان مغلق في الغالب هو البيت أو الغرفة لذلك تحضر العائلة بشكل كبير فيتكرر خاصة ذكر الأب والأم، لذلك يبدو هذا المكان خاصا وحميميا يمثل مكان الانتماء وتمثل الذاكرة العنصر المحرك الذي يأتي بالخصائص الدلالية له تقول الإدريسي في قصيدة "أنا لم أمت" (ص 50): 
(...) عنْدَما ذَهَب أَبِي
 تَرَكَنِي فِي حِجْر أمي أَرْضَعُ 

شعر
هَلْ تَهْرَبُ الْأحلَام الَّتِي رَبَّيْتَهَا كَشَجِرَةِ لَوِزٍ؟

إنه المكان الذي يحتوي على المحبة والدفء يعيدها إلى البدايات بكل ما تعنيه من براءة وعفوية وأحلام عالية لذلك يشير المكان عند الشاعرة إلى "أنا". مفارقة المكان هنا أنه يجمع بين فقد الأب وحضور الأم، بين الحرمان والحنان ومن خلال هذه الثنائية المتناقضة كانت الولادة وكان البعث وهذا ما سيجعل من المكان بؤرة تمثل رؤية الشاعرة لذاتها وللعالم، إنه مكان حقيقي ولذلك يمثل وجعا حقيقيا وليس متخيلا.
لأن المكان المغلق حميمي ويمثل أنا الشاعرة تأتي به الذاكرة في كل حين، لذلك يصبح المكان مألوفا وله أبعاده الدلالية التي أشار إليها لوتمان عندما تحدث عن المكان بما هو "مجموع الحالات والصور والرموز" لذلك فهو هوية الشاعرة، المكان هنا هو الذي يشير إلى عمق الشاعرة وجوهرها، هو الذي يجعل منها هي هي. ولأن من خصائص الشاعر عموما أنه على قلق دائما لذلك ستحتاج الإدريسي إلى الإنتقال من المكان المغلق إلى مكان آخر مفتوح.
ب/ المكان المفتوح: إثبات الكينونة
تذهب بنا عُلية الادريسي في هذا الديوان إلى مكان مفتوح قد يكون البحر أو محطة القطارات أو الشوارع أو الحدائق، مكان فسيح تحضر فيه الطيور والعصافير والأشجار والمطر .. الخ. اللافت للانتباه عند الشاعرة أنها لا تسقط ذاتها على المكان الخارجي مثلما عودنا الكثير من الشعراء، لا تجعل شروطها النفسية هي التي تقودها للمكان بل إنها تذهب إليه بحواسها وهذا ما يجعل المكان ليس نفسيا بحيث يتحول إلى مؤشرات لسيكولوجية الشاعرة  بل يظل مكانا ماديا غير أنه يمثل وجودها ويصنع لها كينونتها تقول في قصيد "أنا لم أمت" (ص 50):
تَعَلَّمْتُ كَيْفَ أَسِيرُ 
عَلَى رَصيف قَدِيم 
وَبِيدِي قلبِي 
تَعَلَّمْتُ كَيْفَ أَمْسك بِالْحَزَن 
كَطَائِرَةٍ وَرقية
تَعَلَّمْتُ كَيْفَ أَتْبَعُ 
صَدِيقَاتِي الشجرَات
إذا اعتبرنا المكان المغلق الحميمي والخاص يمثل أنا الشاعرة ويعبر عن هويتها فهل أنها عندما تغادر هذا المكان إلى آخر مفتوح ورحب هل ستفقد هويتها؟
هنا تواجه الشاعرة التحدي الحقيقي في أن تجعل من المكان المفتوح فرصة لتدريب ذاتها على أن تكون، في المكان المفتوح تتجلى لعبة الكينونة عند الشاعرة، بمعنى لأن في المكان المفتوح تتعلم الشاعرة كيف تعيد توازنها وتكتشف عوالمها، وبالتالي تؤسس رؤيتها لكل ما حولها، بمعنى أن المكان المفتوح على رحابته يصبح إناء لتجاربها الوجودية. لعل هذا يعبر عن الشعر كما تراه فقد ذكرت في أحد حواراتها "أنا أكتب تحت تأثير أيقونات تمنحني متعة السفر مع بعض الأسئلة متى ضاجعت الحرف بذهول يخرسني لذا أنا لا أهتم لهذا الالتباس" (حوار أجراه الكاتب أحمد الفلاحي نشر في "المحلق الثقافي" / الرباط 2015).
إذا انتهينا ان في المكان المغلق تحقق الشاعرة هويتها، وفي المكان المفتوح تحقق كينونتها فهل يعني أن الكاتبة منسجمة في عوالمها وتخلصت تماما من القلق الوجودي الذي يحرك كل شاعر؟
يكفي أن نواصل قراءة قصيد "أنا لم أمت" (ص 50) حتى تكشف لنا الشاعرة الإدريس عن هشاشتها المفرطة تقول:
تَعَلَّمْتُ كَيْفَ أسَابق النُّجُوم
 فِي عُيُون صغَار الْعَصَافِير 
حَتَّى أَعَادَتنِي نخلة
 نِصْف مقضومة.
تتحرر الشاعرة من المكان في بعديه المغلق والمفتوح إلى فضاء أرحب فتسابق النجوم غير أنها تعيدها نخلة، رمزية النخلة هنا مهمة من حيث تدل على الأصالة، كما تحيلنا على البداوة بكل ما تمثله من عمق قيمي غير أن هذه النخلة تبدو "نصف مقضومة"، النخلة التي تعاني شرخا هي التي تمثل مبررا لعودة الشاعرة للمكان، لعلها تشير إلى ما نعيشه من تشوه حضاري. عندما تعود الشاعرة من مكان مفتوح وعام فإنها تفعل ذلك من أجل الانتقال إلى مكان مغلق وخاص وهي عودة لها دلالتها الرمزية المهمة تقول الشاعرة في قصيد "أكاذيب تصلح لسقف البيت" ص 14: 
الشَّاطِئ لا يُعْدَم مرَّتَيْنِ 
لِيَكُونَ مَوْجَة 
رُبَّما يَنْتَظِرُنِي وَقْت آخر 
وَقْت يَنْقُصُ مِنْ مَائِي
 وَلَا يَحْفِرُ بِئْرَا
 فِي خَدِّيَّ 
وَقْت يَجْرَحُ آلامي 
وَبِالْغبَارِ يُغَطِّينِي 
لَكِنَّ هَذَا يَكْفِي 
كيْ لا أَكوْنُ هُنَا. 
في هذا المقطع الشعري نجد مكانين مهمين (الشاطئ والبئر)، يمثل الشاطئ بما هو امتداد أفقي رحب جدا يشير إلى دلائل مختلفة فهو يحيلنا على الاتساع والأفق الرحب، كما أنه رمز للحياة يثير فينا روح المغامرة والمجهول، في حين أن البئر يمثل حفرة عميقة في الأرض تنتهي عادة بانسداد وهو ما يجعله مكانا مغلقا وضيقا يثير فينا الفزع والوحشة، تقوم الشاعرة في هذا المقطع بأنسنة البحر الذي تمنحه أفعالا بعينها (يكون، ينتظر، يحفر..). كل ما يحدث هو صراع في الشاعرة التي قد تكون هي البحر وقد تكون الفضاء العام الذي يسع كل شيء وقد تكون هي هي الإنسان الذي يبحث عن كينونته. ما يعنيني كقارئة هذا التضاد الذي تجمع فيه الشاعرة الشاطئ بالبئر وهو تضاد يقدم صورة عنيفة عن خصوصية اللحظة المتشظية التي تعيشها الشاعرة وهي تسعى لإثبات كينونتها، وليست المرة الأولى التي تشير فيها الى تناقض حاد يعكس صراعا داخليا شديد تعيشه، تقول في قصيد "ماذا تفعل الأحزان في رأسي" (ص 19):
وَأَنَا أَنْتَظِرُكَ
 كَبَحْرِ صَامِت 
مَاذَا لَوْ أَصلَحت ثُقْبَ مِفْتَاحِي 
هَلْ تَهْرَبُ الْأحلَام الَّتِي رَبَّيْتَهَا 
كَشَجِرَةِ لَوِزٍ؟ 
التضاد الذي تشتغل عليه الشاعرة هذه المرة يجمع بين البحر والثقب، تُشبّه نفسها بالرحب وتجعل من ثقب المفتاح ممرا للأحلام، بلاغة التضاد الحاد هنا يعكس خصوصية الضد "فالأشياء تعرف بأضدادها" ندرك جمالية الشاطئ إذا ما واجهتنا ظلمة البئر ونتمثل رحابة البحر إذا ما ادركنا ضآلة الثقب، لعل هذا يحيلنا إلى الوجود نفسه المبني على التضاد (الحركة والثبات). شعريا التضاد يعبر عن ثراء لغوي كما يقدم صورا جمالية مغايرة وخاصة أبعادا دلالية مختلفة، في البعد الدلالي يكشف التضاد عن صراع مركّب تعيشه الشاعرة مع ذاتها بحيث كل الذوات المغايرة لها (اللأب، الأم، الحبيب..) وكل الأشياء من حولها (الأمكنة المغلقة والمفتوحة) تصبح عناصر صراع من أجل إثبات كينونة، ونلاحظ أن الشاعرة في مختلف قصائدها لا تستكين لحال فهي على قلق دائم حتى يصبح القلق هو الحالة الوحيدة الثابتة لديها، يبدو هذا جليا في المقطع التالي من قصيد بعنوان "محاولة" (ص20):
(...) بِطَرِيقَةِ مَا 
سَأَدق هَذَا الْبَاب
 أُقْنِعَهُ أَلاً يَفْتَح... (...)
الباب الذي يمثل حاجزا بين مكان خاص ومغلق ومكان عام ومفتوح توكل له مهمة أن لا يفتح بحيث تظل الشاعرة بين المكانين لا تهنأ في المكان الخاص على حميميته ورغم أنه يمثل بشكل ما مجال إثبات لهويتها، كما أنها لا تهنأ في المكان العام على رحابته ورغم أنه يمثل بشكل ما مجال إثبات لكينونتها. إنها تفضل "المنزلة بين المنزلتين" ولعل قدر الشاعرة أن تظل هناك تراوح مكانها بلا يقين. هذا تؤكده الكاتبة في أحد حواراتها عندما قالت" في كتاباتي أنتصر لهواجسي التي تسكنني وأسكنها" (حوار أجراه معها الإعلامي اليمني حميد عقبي في صحيفة "الرأي اليوم"/ فبرار/ِشباط 2015). 
ما يشبه الخاتمة..
أسلوبيا كتبت عُلية الإدريسي قصائدها في هذا الديوان معتمدة على خصائص عديدة من ذلك أنها اختارت أن تكون الجمل الشعرية مختلفة في الطول، أحيانا تكون الجملة طويلة وأخرى قصيرة  قد تكتفي فيها بلفظ واحد يحدث أن يربك ذلك القارئ عندما لا يجد انسجاما في التوزيع اللغوي على الصفحة، ولعل ذلك يعكس روحها القلقة، كما نلاحظ اعتمادها على تقنية التنقيط الذي يرد مرات عديدة بين معقفين للإشارة أن هناك كلاما تم حذفه ربما تريد الشاعرة أن تقتصد  في اللغة من جهة وأن تكثّف المعنى من جهة أخرى غير أنه قد يجعل القارئ مشوشا يفكر في ما تم حذفه في بداية النص الشعري وفي خاتمته.
هذا الديوان الأخير للشاعرة المغربية عُلية الإدريسي يأتي في مرحلة مهمة تشهد تعددا في الأصوات الشعرية المغربية واختلافها، غير أن المشهد الشعري المغربي يبدو أنه غير مهتم بما يروّج الآن لمقولة أن الشعر العربي قد انحسر مقابل تمدد الراوية، المشهد الشعري المغربي فهو في كل مرة يكشف عن تنوع في أصوات الشعراء واختلافهم ليؤكد أنه مشهد ثري، هذا ما يجعل من الشاعرة عُلية الإدريسي في تحد كبير، هل تنجح في أن يكون لها صوتها الشعري المختلف وتنحت تجربة مميزة؟