أسير المفاتيح السبعة وهيمنة العالم الرقمي

رواية الكاتب العراقي طالب عبدالأمير "أسير المفاتيح السبعة" تجمع بين متعة الرواية الأدبية، وبين وفائدة البحث العلمي.
الضوء الفضي المنبعث من أجهزة المحمول كان إلى زمن قريب أشبه بالسحر منه إلى الحقيقة
الروايةُ توهمنا بأن ثمة بحثا محموما عن البدايات الأولى للجهد البشري للحصول على وسائل المعرفة

رواية الكاتب العراقي المغترب طالب عبدالأمير، والتي صدرت عن دار أوروك هذا العام ٢٠٢١، يستهلها بمقدمة قد تكشف فحواها:
"يحاول هذا الكتاب من خلال سرد روائي مكثف، أن يسلط الضوء على الانسان في هذا العصر الذي بدا فيه أسيراً للتقنية التي صنعها وطورها لتخفف عنه أعباء الحياة وتسهيل أموره فيها. تمادى هو أيضا في استغلال الطبيعة بقسوة من أجل تكديس الربح المفرط، حتى أصبح نفسه سلعة تباع وتشترى".
ومن خلال توصيفه لروايته، نستطيع الاستنتاج بأنه أراد أن يطرح إشكالية الهيمنة على الإنسان المعاصر من قِبَل القوى الرقمية والتي أدت إلى ما يسمى بالعالم الافتراضي، الذي نسج خيوطه العنكبوتية حول عنق حاضرنا، حتى أضحينا عبيدا لهذه المغارة الساحرة التي دخلنا في متاهاتها، ووجدنا أنفسنا منغمسين في أجوائها، مما أنتج قواعد سلوكية لم نألفها من قَبْلُ، اعتمدت على فكرة الانغماس في العزلة الفردية والانسلاخ عن العوالم المحيطة بنا؛ من أسرة وبيت وأصدقاء وأمكنة، واستبدالها بعوالم افتراضية، وهذا مما جعل الكثيرين يلهثون جريا وراء عوالم أخرى لم يألفوها، وأصدقاء آخرين لا علاقة لهم بهم، في كيفية تدعو للغرابة، بين الانقطاع عن اللحظة المعاشة في إطارها الزمني والمكاني، وبين الذوبان في بحر من الارتباطات غير الحقيقية، والتي توفرت لنا من خلال هذا الضوء الفضي المنبعث من أجهزة المحمول، والذي كان إلى زمن قريب أشبه بالسحر منه إلى الحقيقة.  

رغم نزوع الرواية إلى تشريح العالم الرقمي وخطورته، فإنها أكدت على أن القفزة في هذه العلوم ستقود العالم نحو الأفضل من خلال كسر حاجز احتكار المعلومة وجعلها متاحة للجميع

في البداية تُوْهِمُنا الروايةُ التي تتكون من سبعة فصول، بأن ثمة بحثا محموما عن البدايات الأولى للجهد البشري من أجل الحصول على مثل هذه الوسائل المعرفية للاتصال، وكيفية تأتّى لهذه الأجهزة الألكترونية أن تهيمن علينا، وتلتصق بنا، فاستعان الكاتب بما سماه بالشيخ الجليل، الذي أفاض الحديثَ عن تاريخ الإنسانية وتطورها، من خلال المراحل التي مرت بها، ابتداءً من الصيد والرعي والزراعة ثم التصنيع، وصولا إلى هذا العصر الرقمي. ومن خلال حوار الشيخ نستشف أن ثمة علاقة بينه وبين الراوي، وهي علاقة الذات المنقسمة ما بين ماضيها وحاضرها. فالبطل الذي يقوم بسرد الأحداث وإيصالها لنا من خلال حواراته ورحلاته والعودة إلى ماضيه، من خلال حضور هذا الشيخ مرة واختفائه مرة أخرى، في محاولة لإقناعنا، بأن المعلومات الواردة لا تمت إليه بصلة، وإنما استقاها من مصادر خارج دائرة معلوماته، ومن ناحية أخرى، فقد ظهرَ في حالة من التحفز إزاء ما يرى وكأنه في حالة من الدفاع عن الذات التي أدهشها هذا الطوفان الرقمي، وجعله مطوّقا بجاذبية لا يستطيع الفكاك منها. بينما يعيش حالة من الإعياء، تجعله في حالة من ضبابية الرؤية، يرافقها حالة من الشلل عن ممارسة الأفعال اليومية إلا بالاستعانة بالهاتف الذكي الذي يسميه بـ (اللصيق)  فهو لا يستغني عنه في بحثه وجولاته.   
مما جعلنا نشعر بحجم العلاقة بين بطل الرواية وبين هذا الكائن الذي يلازمه في كل لحظات حياته، كما يكشف لنا الراوي أن هذا اللصيق يتحول إلى مجسٍّ يستشعر الرغبات والميول والدوافع والمزاج والحالة النفسية والجسدية لصاحبه، كل هذه المعطيات يبوح بها السارد الذي يحكي لنا عن هذا المخلوق الآلي وفق تطوراته، والتي جعلته مهيمنا على الإنسان في أدق تفاصيله. وتستمر الرواية لتأخذنا في رحلة إلى بغداد، وشارع المتنبي تحديدا، ولعله اختار هذا الشارع لحمولته المعرفية بوصفه كنزا مكتبيا، يحفل بملايين الكتب التي تتوزع بين جدرانه وتفترش أرصفته، حيث يلتقي بفتاة تبيع الكتب، فتختار بنفسها له كتابا معيّنا، اسمُه "سلطة الاتصال"، وهو من الكتب الحديثة التي تتحدث عن الثورة في عالم الاتصالات. وحالما يضع الكتاب في حقيبة ظهره حتى يبرز له المؤلف، الذي يتحاور معه عن مصادر القوة في الاتصالات، وكيف تتم السيطرة عليها، وكيف تنسحب تلك السيطرة تلقائيا على مصير العالم وشعوبه من خلال هذه القنبلة الرقمية. 
ثم يذهبُ الراوي إلى مقهى الشابندر، وهي من الأماكن التي رافقت وجود الشارع، ولكنّ انفجارا مزق البناء واختلطت فيه دماء الضحايا بمداد الحِبر. هذه المقهى التي سعى إليها بطل الرواية أو المؤلف نفسه الأرشيف العراقي، من خلال صور السياسيين في المراحل المتعاقبة وعلماء البلد وأدبائه وشعرائه. 
لحظة ارتشاف الشاي في هذه المقهى، هي لحظة تأمل في الزوايا المشرقة التي أومضت في ماضينا، ولكنها أضحت مجرد صور محنطة في حاضرنا. ولعل البطل أراد الاستعانة بها لفك طلاسم اللحظة الراهنة، كي يكون قادرا على مواجهة (سلطة الاتصال) الجديدة. 
يلتقي الشيخ من جديد، ليفهم من خلاله بداية الإعلام والميديا، والإرهاصات الأولية لولادة المعلومة وسرعة انتشارها، والتي كانت تمتد بجذورها إلى عصور نائية، مرورا بسقراط الذي كان يؤكد على المعرفة، من خلال كتابه البلاغة، ثم يليه علماء الكلام والمنطق، ثم يأتي السفسطائيون الذين رسموا شكلا من أشكال التطور في الإدراك الإنساني. ثم يستفيض الشيخ في كلامه عن التطور الطبيعي لوسائل الإنتاج. 
تنقلنا الرواية في رحلة بحرية إلى جزيرة مجهولة، حيث يكتشف قوّة الشبكة العنكبوتية، وكأن ماردا قد خرج من سجنه الأبدي، كي يهيمن على سيّده الإنسان، من خلال هذا السيل الجارف من المجسات الرقمية التي تحيط بالإنسان، وتحصي عليه حركاته، وتعدّ أنفاسه، وتتحسس عواطفه وأمزجته، وتتحرى عن أدقّ رغباته. 

novel
تاريخ الإنسانية وتطورها

ووفق هذه الكثافة المعلوماتية التي تحيط البشرية، وتطوّق العالم جميعا، نتج عن ذلك قفزات وبائية غير معروفة ومنها كوفيد١٩ والذي طرحته الرواية بشكل فني مدعوم ببعض الوقائع التي حدثت فعلا، ومنها اليخت السياحي العملاق الذي أصبح أسيرا لهذا الوباء الغريب من خلال تعرض ركابه إلى انتشار أعراض مرضية لم تكن مألوفة سابقا.
تتعرض الرواية أيضا إلى تنبؤات بيل غيتس في حدوث الجائحة قبل سنوات من حدوثها، مما يوحي بحجم الارتباط بين نشوئها وبين والتطور الهائل الذي شهده العالم الرقمي. 
ورغم أن الرواية تكرّس الجزء الأكبر منها لاستعراض الآثار السلبية لهيمنة العالم الرقمي، ولكنّها في نفس الوقت تتناول الفوائد الهائلة التي جنتها البشرية من هذا التطور الذي يسّرَ الكثير من الصعوبات وذلل العقبات، فأصبح العالم صغيرا، مرتبطا بإحكام من خلال منظومة دقيقة. كما أتاح التواصل العلمي عن بُعد، وكذلك إجراء التجارب والعمليات المعقدة وألغى حواجز المكان والزمان، ولكنّ الرواية تتعرض أيضا إلى أنّ هذه المعطيات قد خضعت إلى الجشع التجاري والاحتكار، مما حدا بمؤسس الإنترنت تيم بيرنزرلي الذي أدان استغلال هذه الوسيلة لجني الأرباح الأسطورية على حساب شقاء الإنسان.  
 تتحدث الرواية عن المفاتيح السبعة التي تتحكم في العالم والتي لها علاقة بالمعايير الميثولوجية المعروفة عن ورود هذا الرقم ورمزيته بالنسبة للأديان ولبعض الأساطير، وبعد ذلك يضع الكاتب نوعا من المقاربة بين ما ورد في رواية جورج أوريل وهيمنة الأخ الأكبر، وبين المعطيات الرقمية التي امتلكت قدرات مشابهة من حيث الهيمنة، ومن خلال الحوار مع سائق التاكسي يتوقع الكاتب بأن الهواتف الذكية التي نندهش من قدرتها في الوقت الحاضر، ستُصبح من الماضي في الأيام القادمة.
كما تتناول الرواية الإنترنت بوصفه فضاءً جديدا غيّر من الكثير من العلوم والمفاهيم والممارسات، كما غيّر وإلى الأبد احتكار الميديا والمعلومة التي أصبحت بفضله مُشاعة للجميع. ناهيك عن إلغائه للمسافات والأبعاد. ولكن الإنترنت الذي اقتحم الحياة من أوسع أبوابها، فقد جعل البشر مستعبدين بإراداتهم، ومن خلاله يصبح المرء عاريا من خصوصيته وأسرار ذاته منشورة على حبال أدوات التواصل، فيتعرفون على أدق النوازع والأهواء، وحتى الرغبة في المشتريات، والوضع الصحي للفرد وإمكاناته المادية أيضا. 
ورغم نزوع الرواية إلى تشريح العالم الرقمي وخطورته، ولكنّها أكدت على أن القفزة في هذه العلوم ستقود العالم نحو الأفضل من خلال كسر حاجز احتكار المعلومة وجعلها متاحة للجميع.
رواية "المفاتيح السبعة" بحثٌ في العالم الرقمي، يعتمد على جملة من المصادر، ولكنّ هذا البحث ارتدى حللا فنية، فهو يجمع بين متعة الرواية الأدبية، وبين وفائدة البحث العلمي.