نبيل عيوش يضيء في 'الجميع يحب تودا' على الفئات الأكثر تهميشا
للمخرج المغربي نبيل عيوش رؤيته السينمائية الخاصة، فبواسطتها يقوم بتشخيص الظواهر، ومن ثمة يسعى لوضعها في بؤرة صورته السينمائية، دونما رتوش أو أغطية، لذا فقد اُتّهِمَ من قِبَل نقادٍ "بالجرأة" في الطرح، ويستدلون على ذلك بأفلام سابقة قدّمها بشفافية أسلوبه، وهو يسعى في كلّ ذلك إلى سينما ملتزمة، لا تقفز على الظواهر، أو تسير بجنبها، بل تترصدها عن كثب، وتقدمها كما هي، طازجة وشهية كخبز التنور.
وفيلمه الأخير الذي تم عرضه في مدن مختلفة من المملكة المغربية، ومنها مراكش وفي سينما كوليزي، وأعني بذلك "الجميع يحب تودا" لا يشذ عن نهجه السينمائي الذي اشتغل عليه. لقد انتقى ثيمته من الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشا، ولكنّ المفارقة تكمن ما بين اسم الفيلم الذي يدلّ على محبة الجميع لتودا الشابة التي احترفت مهنة الشيخة، وما بين مضمون الفيلم الذي تعارض مع العنوان، فليس ثمة محبة لتودا، بل هو نوع من الابتزاز والتهميش والاستغلال لها، فقد عانت مطربة فن العيطة تودا الشابة الأَمرّين في حياتها، فلم تتلق محبةً من المجتمع بالمعنى الحقيقي، بل مزيج من فحيح الرغبات المكبوتة التي تود التهام جسدها الطري وهي تسبح في إيقاع الرقص والغناء، يحيط بها ليل غير متناه، وبشر مخمورون، يستأنسون بعناصر الجذب فيها فقط، ولا يعيرون لها احترامًا أو مودة حقيقية. يعبرون في رقصهم عن خواء روحهم ووعيهم، ففي الوقت الذي تقدم لهم أجمل الأصوات مشفوعة بالنغم الموسيقي المندمج بالمعاني الشعرية، لكنهم يواجهونها بامتهان إنسانيتها، بذلك الاغتصاب الجماعي الذي عبّر عن عمى في الوعي والضمير، حيث الانشطار الكبير الذي يعيشه الكثير من الناس، في ازدواجية الحب والكراهية والرغبة والعنف والمتعة والجرح.
فأين يكمن حب تودا إزاء ما عانته لها من بداية الفيلم إلى نهايته؟ وأغلب الظن أن الاسم كان يعبر على عكس ما يعنيه، اللهم إلا إذا كانت تودا تمثل لهم وسيلة الإمتاع والمؤانسة، وعليه فهم متعلقون ليس بتودا الإنسان، وإنما بتودا الظاهرة التي تمثل المتعة.
المرأة الشيخة موضوعا للاستغلال والمتعة حتى من قِبَلِ من يمتلكون المسؤولية الإدارية أو الأمنية، كما ظهر ذلك في الفيلم
من أكثر المشاهد والتي تألق بها المخرج، مشهد تودا وهي تطرب مجموعة من السكارى والراقصين وأبناء الدواوير المحيطة، وهي بهيئة بهية، تتراقص الأضواء على وجهها المتبرج، وملامحها الجادة، وصوتها الذي يخترق عتمة الليل، ليصرخ بتلك المنطقة النائية، ويجعلها وهجا من المتعة والإيقاعات وتموج الأجساد وهي مثقلة بلحظة مرح تصل حتى الجنون، وانسجام مع إيقاع الموسيقى وصوت الشيخة المتفرد وهي تتألق بين لهب الأضواء وعتمة ما يحيط بها من أمكنة مظلمة، بينما صوتها في كبد الليل، وكأنها صرخة أنثى تمتلك طاقات هائلة من لغة الجسد والحنجرة وجمال الوجه والهيئة الأنثوية. تتماهى مع رشاش الأضواء التي تتساقط على كيانها الأنثوي. ولكنّ تلك الجرعات الروحية التي سقتهم بها، من غناء ورقص، لم يشفعا لها، فقد سحقوا جسدها في وحشية، واستباحوها، وتركوها تلعق جراحها إلى الصباح كحطام بشري، يبحث عن وسيلة للعودة من الغابة النائية حتى بيتها.
كان للاغتصاب الجماعي عدة دلالات، نجح الفيلم في إيصالها، كما نجح أيضا في إظهار ضعف هذه الفئات المجتمعية التي تعاني من الفاقة، أعني النسوة اللواتي احترفن الغناء في المناسبات الاجتماعية والوطنية والترفيهية والملقبات بـ"الشيخات" وهو مؤنث شيوخ والذي يُطلق على مطربي "العيطة"، فالمرأة الشيخة موضوعا للاستغلال والمتعة حتى من قِبَلِ من يمتلكون المسؤولية الإدارية أو الأمنية، كما ظهر ذلك في الفيلم من خلال ابتزازها من قِبل البعض، مستغلين مناصبهم، لإشباع رغباتهم المجانية منها.
يتجلى مفهوم البطولة في إصرار "تودا" على الرحيل من المناطق الريفية التي لم توفر لها بعض طموحاتها إلى مدينة الدار البيضاء، لأنها اعتقدت أنها الفضاء الأرحب للحصول على العمل، وتحسين مستوى المعيشة. ومن هذه الزاوية يطرح الفيلم إشكالية المدن الطاردة لأبنائها، وذلك لانعدام فرص العمل، وجدب الحياة، للانتقال إلى المناطق والمدن الجاذبة، والتي تتسع للعمالة الرخيصة من رجال ونساء ينتمون إلى العالم القروي، للهجرة إلى تلك المدن التي تلبي بعض طموحاتهم، وهكذا فعلت تودا حينما غامرت بالوصول إلى مدينة الدار البيضاء، لاعتقادها بأن الفنادق الفخمة والعلب الليلية ستتضمن زبائن متميزين، تحصل منهم على المال لتحسين المستوى المعيشي، مما سيتيح لها أن تتفوق على الطبقات والناس الذين امتهنوا كرامتها الإنسانية.
كما أنها تحمل على كاهلها عبئا ثقيلا، وهو طفلها الأصم، والذي تطمح أن تنتشله من مستنقع وضعه النفسي، ووضع التعليم الذي لا يمنح مثل هؤلاء حقهم الطبيعي في التعلم بما يلائم حاجاتهم، بل فوق ذلك فإنهم يتعرضون للتمايز والتنمر، لذلك فإن طموحها في الإصرار على تعليمه في مدارس خاصة، ينمّ عن نبل المشاعر الإنسانية، ممزوجة بأحاسيس الأمومة، ولا يتم ذلك إلا من خلال الحصول على المال والشهرة، وقد حققت ذلك بصمودها كأنثى، تحمل القدرة على إشاعة البهجة والطرب. من خلال جمال صوتها وجاذبيتها وأناقتها، وهي تتألق متبرجة بين الأضواء، وتتلقى النقود التي تتطاير بين ثنايا شعرها وملامح وجهها.
ولا يكتفي الفيلم بالمظاهر الشكلية للرقص، بل يتوغل في العالم السفلي للعلب الليلية، حيث يتم التلاعب غير البريء بمعطيات المتعة، ومنها إغراء الزبون، وحثه على طلب مشروبات روحية، ممزوجة بالماء، ليتيح الربح السريع لأرباب هذه النوادي في سعيها للمتعة المعجونة بالغش. إنها الرذيلة المزدوجة، والمال الذي سماه شاعرنا السياب "بشيطان المدينة" والذي أحاط بتودا وجعلها أكثر اقتناعا بأن جسدها الذي استباحته رعاع الدواوير، أكثر نقاءً من رياء حياة الليل، لذلك رفضت هذه الأساليب الدنيئة في الغش، وآمنت بمواهبها الغنائية الفذّة التي جلبت الكثير من عشاق "العيطة"، واستطاعت أن تتجاوز الحواجز والتحديات التي تبتزها، وتجعلها مجرد لعبة ووسيلة للمتع الليلية، وهكذا تنتصر الموهبة الغنائية على ما يحيط بها من سمسرة وجشع وفساد.
لقد تألقت الممثلة المغربية نسرين الراضي مجسدة دور الشيخة في هذا الفيلم المرشح لجوائز أوسكار، وقد استطاعت أن تعبر أجمل تعبير عن اللحظات المشحونة بالأصوات التي تنطلق كشلالات من الوجع والأمل والفرح واللحن والصخب والذي يترافق مع الموسيقى، وقد شاركها كوكبة من ممثلين معروفين، كما نجح المخرج نبيل عيوش في تقديم هذه اللوحات الفنية لفيلم يحفل بجماليات السينما، وتقنياتها العالية التي تجلت في لقطات انهمرت بسيولة وإبداع وهي تتغلغل في وعي المتلقي.