أضرحة ونذور مصرية

الكهنة في مصر القديمة كانوا يضعون أفخر الطعام أمام تماثيل الآلهة ثلاث مرات يوميا إرضاء لها‏، ‏ثم يعودون بهذا الطعام إلى بيوتهم.
الجدي المنذور لضريح سيدي جابر ذهب إلى بيت من بيوت العاملين في المسجد
حكاية حدثت في شارعنا وأنا صغير

واحدة من أكبر علماء الطب الفرعوني بجامعة مانشستر الإنجليزية، توصلت إلى أن الكهنة كانوا يقدمون للآلهة أفخر الطعام الغارق في الدهون‏: ‏البط المحمر والخبز بالدسم والخضراوات‏؛ يضعونها أمام تماثيل الآلهة أرضاء لها‏ .
وهي الطقوس اليومية التي يمارسونها ثلاث مرات يوميا‏. ‏ثم يعود الكهنة بهذا الطعام الي بيوتهم. وهذا ما يحدث -  للآن – في الأضرحة الكثيرة على مستوى مصر كلها، فقد كانت جدتي لا يعيش لها أطفال -  مثلها مثل الكثير من نساء حينا، يموت أطفالهن في صغرهم- فجدتي ينادونها بأم الشحات، وأنا لم أر الشحات هذا، فقد مات مثل الكثير من أخوته قبل أن أولد، لكن أمي عاشت حتى تزوجت وأنجبت، ثم جاءت جدتي بولد يكبرني بعام واحد، وكان يجلس بجواري على تختة المدرسة، دعته جدتي جابر، على اسم "سيدي جابر"، ونذرت أن تهدي مسجد سيدي جابر          "جِدْي" كبيرا، وأن تدعو نساء العائلة والجيران إلى الطعام حول المسجد، فذهبنا معها راكبين قطار أبوقير، ودخلت المسجد والرجال يشدون الجدي، ثم تركته للعاملين فيه.
واتفقتْ مع مكتب فراشة في المنطقة؛ لعمل دروة من قماش الشوادر بجوار المسجد وقد أخرجت أوانيها الكثيرة، وساعدتها الكثير من سيدات العائلة والجيران في تقديم السمك المقلي والمشوي والباذنجان والفلفل والبطاطس المقلية، والأرز الأصفر والسلطة الخضراء التي تقدم – عادة – مع السمك. 
جلست النسوة خلف المسجد، وأمامه، (ربما كن يجلسن مكان قصر التذوق القائم الآن)، ثم أشعلت النسوة البوابير وصنعن الشاي، وإذ بعربة كارو مربوط بها الجدي، تسير في شارع بورسعيد، ذاهبة إلى بيت من بيوت العاملين في المسجد. 

ويذكر الدكتور حلمي أحمد شلبي في كتابه "صغار ملاك الأراضي الزراعية في مديرية المنوفية 1891 – 1913"  أن أحد القرويين في إحدي المديريات المجاورة للسيد البدوي قد أنجب بنتين ولكنهما توفيتا، فنذر للسيد البدوي إن عاشت الثالثة كان له نصفها، فعاشت وطال عمرها، ولما حان زواجها وأخذ مهرها أثني عشر جنيهاً؛ أودع نصفه في صندوق النذور بضريح السيد البدوي وجهزها بالنصف الآخر. 
**
ودعتني امرأة تسكن بيتنا، لزيارة مسجد سيدي أبوالعباس المرسي، في مولده. عدد كبير من نساء البيت أمسكن أيادي أبنائهن وبناتهن، وركبنا ترام 4 من محطة مصر التي كانت تمر أمام ميدان المساجد، حيث أبوالعباس المرسي وسيدي تمراز وياقوت العرش والبوصيري وباقي المشايخ المشهورة هناك، ثم تصل إلى الأنفوشي -  الشاطئ الفقير الذي يأتي إليه فقراء الإسكندرية من الأحياء الفقيرة حول محطة مصر (الباب الجديد، وراغب باشا، وجامع سلطان وغربال .. إلخ )؛ لكن التطوير الذي أحدثه محافظ الإسكندرية اللواء المحجوب منع الترام من المرور في المنشية، فقطع الصلة بين محطة مصر -  الميدان المشهور - وحي بحري والأنفوشي ورأس التين.
جلسنا في حديقة أمام مستشفي الملكة نازلى المتخصصة في علاج الأطفال، وتابعنا المراجيح، وباعة الحلوى والحمص، ورجل خطرت في "مخه" فكرة عجيبة أن يقيم "تليفريك" في هذا الميدان، فأقام عمودا عاليا جدا، وسلالم تصل إلى أعلاه، وسلك قوي جدا ممدود من أعلى العمود حتى الأرض، ورجل يقف أعلى العمود، لربط الطفل بعناية في عجلة معقودة في السلك، فيهبط الطفل من هذا العلو الشاهق حتى الأرض، ورجل آخر في أسفل، يتقبل الطفل النازل من فوق العمود، ليفك عنه الرباط.
أخرجت كل امرأة من نساء البيت منديلها وأعطت طفلها خمسة مليمات - أجرة ركوب التليفريك -  لم أكن امتلك مليما واحدا، فمصروفي أنفقته في الصباح، وزوجة أبي لا يمكن أن تعطيني شيئا آخر. تابعت ما يحدث في أسى، لكن امرأة اسمها فهيمة بنت قبيصي نادتني، وأخرجت المنديل من صدرها، فكته، وأعطتني الخمسة مليمات، وقالت:

ظننتها الضريح
فحص حالة من يتلقون التبرعات

-    روح أركب مثل باقي الاطفال.
موقف لا أنساه. ولا يمكن أن أنسى هذه السيدة الطيبة، أتذكر أنني دخلت مسجد أبي العباس المرسي مع نسوة البيت والأطفال، وفعلت مثلهم، مسحت على غطاء الضريح، جلستْ النسوة حول الضريح، وخرجتُ مع الأطفال ألعب فوق الحصر في باحة المسجد، وعندما أردت العودة للضريح ثانية؛ أخطأت ودخلت حجرة مجاورة، كانت خالية، ومجموعة من المشايخ - بزيهم المميز - يجلسون في الخارج ينظرون إلى بابها يتابعونه في اهتمام بالغ، ربما كانوا في انتظار باقي أعضاء اللجنة التي ستجرد المودع في صندوق النذور، ليوزعونه. 
لا أدري كيف لم يروني وأنا داخل، لقد شاهدت مجموعة هائلة من المال، فوق المائدة، ومجموعة هائلة من الذهب والفضة في الناحية الأخرى. خرجت مفزوعا، وهب المشايخ واقفين في غضب:
-    ما الذي أدخلك هذه الحجرة؟!
قلت في خوف شديد:
-    ظننتها الضريح.
فسخروا مني غير مصدقين، اعتقدوا أنني قصدت دخولها لأنهل من هذا الكنز الذي يشبه كنز على بابا.
وحكى لي صديق بإنه كان عضوا بمجلس إدارة مسجد فيه ضريح، ولاحظ أن بعض أعضاء المجلس يقدمون كشفا بأسماء أسر في حاجة لرعاية، فيصرفون لهم مبالغ شهرية، فاعترض، وطالب بتشكيل لجنة، لفحص حالة من يتلقون التبرعات، وذهبوا لتفقد حالاتهم، فوجدوهم أغنياء، وبيوتهم أفضل من بيوت أعضاء مجلس الإدارة. 
وكان أعضاء لجنة جرد صندوق النذور يحصلون على مبالغ كبير مما في الصندوق، وهذا حقهم الشرعي. 
وأذكر حكاية حدثت في شارعنا وأنا صغير، امرأة طلقها زوجها، فكانت تبيع القصب وحلوى العسل على ناصية الشارع، فأخذتها سيدة مرتبطة بإحدى المساجد، وقدمتها لإدارة المسجد وللسيدات اللائي يحرصن على الصلاة في المسجد. وحكت للجميع عما تعانيه تلك السيدة من فقر. فقرروا لها مبلغا شهريا، وجمعت لها نقودا من النساء بعد صلاة العشاء، لكن السيدة المطلقة صاحت وسط شارعنا وفضحتها فهي تقاسمها في المبالغ التي تصرفها من إدارة المسجد، ومن النقود التي تجمعها لها.