أطلس المخاوف السردي والفانتازيا الشجرية

رواية "لايورونا" للروائي الشاب محمود عبدالرحيم جاءت بأسوب رشيق ومتداخل ومشوق لأجوائه السحرية.
"لايورونا" مشتقه من كلمة إسبانية (لايورونا) أو المرأة الباكية، وهي أسطورة إسبانية
الرواية عامرة بمجموعة حيوية من الشخصيات المنوعة من مهن وجنسيات مختلفة

رواية "لايورونا" للروائي الشاب محمود عبدالرحيم جاءت بأسوب رشيق ومتداخل ومشوق لأجوائه السحرية. ويأتي اسم الرواية العلم وغير المألوف ليشير إلى شخصية أسطورية، ويجيب الروائي للتعريف بها: "لايورونا" مشتقه من كلمة إسبانية (لايورونا) أو المرأة الباكية، وهي أسطورة إسبانية تتكلم عن امرأة جميلة أحبت رجلا وتزوجته وأنجبت منه طفلين ولكنه هجرها لأخرى، وعندما شاهدته قدرًا معها قامت بإلقاء طفليها في النهر لكي تحرق قلبه وبعد إفاقتها من تلك اللحظة المجنونه قامت بإلقاء نفسها خلفهم لتغرق. وتقول الأسطوره إنها تخرج ليلا تنتحب وتبكي لجذب الرجال لتأخذهم إلى قاع النهر معها، ويقولون إن من يلقاها لا يظهر بعدها هو أو جثته". وتقبع شخصية "النداهة" بالتعبير الشعبي في خلفية الأحداث ولا تظهر سوى عند تشبيك الخيوط الروائية في النهاية.
والرواية عامرة بمجموعة حيوية من الشخصيات المنوعة من مهن وجنسيات مختلفة، وهي في نفس الوقت أوعية في الأساس لتقديم ظاهرة الخوف المرضي "الرهاب" في تجليات هذه الظاهرة النفسية المنوعة: (رهاب الحشرات / رهاب الدمي / رهاب الظلام / رهاب الأماكن المغلقة / الرهاب الاجتماعي / رهاب الموت / رهاب الماء / رهاب المرتفعات / رهاب الأشباح / رهاب لكائنات غريبة / رهاب النيران)، والصخب النفسي جعل شخصيات الرواية تمور بالحركة، وذات تأثير. وتبدو الصلة بين الروائي وشخصياته في الإهداء: "إلى زوجتي العزيزة التي تحملت جنوني وقت الكتابة ومزاجي المتقلب مع الشخصيات التي أكتبها"، في إشارة لقاعدة الكتابة القصصية الذهبية "أطلق سراح شخصياتك"، حيث يكون لها كيانها المستقل، فينشب الشد والجذب بينها وبين الروائي، وتحاول أن تتمرد على منشئها ليكون لها هويتها الخاصة.

لا يمكن أن يكون هذا هو الموت، لا ليس الآن!، ما زال أمامي الكثير لأفعله، ما زال لدي مال أريد أن أنفقه في الخير، ما زال لدي صلوات لم أتمها، لدي أناس لم أسامحهم ولم يسامحوني

كان د. أحمد خشبة من كتاب الفانتازيا ينتقد تعامل الجيل السابق الذين ذاقوا الأدب الواقعي الاجتماعي، فلم يعرفوا سواه، يقول: "لا تزال مشكلة النقد قائمة لتمثل العقبة الكبرى الحالية والمستقبلية لدى كتاب هذا الجيل من أصحاب الأقلام الجديدة والشابة". 
وتقدم الرواية فكرة النقد الأدبي الظالم، الذي يكون في حقيقته نقضا للعمل الأدبي. حيث اكتشف "شكري" أحد شخصيات الرواية أن والده قام برشوة مجموعة من "النقاد" الذين سلخوا عمله الفني. وللأسف يرى البعض أن النقد لا يكون إلا بالسلخ والتمزيق، بينما نرى وجهة نظر شيخ القصة العربية محمود تيمور بالرفق في نقد الشباب الواعد دون المخضرمين المتحققين، فالحساب حينها يكون أشد، حيث تأثير النقد على الأديب الشاب جسيمًا – كما حدث بالرواية - فبكلمة عنيفة قد تكون سببًا في تدمير موهبة شابة تحتاج إلى الصقل لا التقريع والسلب.
ومن ضمن كوكبة أبطال الرواية، يوجد الرواة المشاركون، فهناك الرواي المركزي "المعالج النفسي"، د. فاضل مختار السويفي، وهو الرواي الذي بدأت به الرواية بإدارته لحلقة الإرشاد النفسي، التي يكتشف القارئ بعد ثلث الرواية أنها حلقة نفسية لما يعرف بالسيكودراما، لمعالجة المعالج "د. فاضل" نفسه، ثم يحضر طبيب نفسي آخر "د. صادق" ليكون راويا مركزيًا أيضًا لسد فجوات السرد وتنظيم الإنتقال في احداث الرواية لفصل جديد. والأمر مبرر لإصابة الرواي الأصيل الأول "د. فاضل" بحالة فقدان ذاكرة، ثم يعود مرة أخرى بعد مرور عشرة شهور لنبحر معه في رحلة اكتشاف ماذا حدث للراوي المركزي الثاني "د. صادق" في تطور الأحداث ونسبر تجربته المذهلة في عالم المخاوف. 
وتحضر الأصوات الممثلة لحالات الفوبيا في نسيج حواري متعدد. وبالطبع لن نفصل بشكل أكثر – إلا بمقدار كشف أسلوب السرد بضمير السرد الذاتي وتعدد الأصوات - حيث متعة الرواية في اكتشاف القارئ لمفاجأت تأتيه كل حين في حبكة مطولة.
وحيث إن الخيال المحلق هو أكسير أدب الشباب، فارتفعت بشكل كبير نسب مقرؤية هذا اللون من الأدب بين الشباب، ومؤشرات معارض الكتب تحكي هذا، كما تكونت الروابط والمجموعات واقعيًا وافتراضيًا لهذا النوع خصيصًا، إذن ولهذه الحيثيات يجب الإعتراف بهذا اللون وتفهمه – إذا كان مجيدًا - وسبر بواعثه والعوامل المؤثرة في تأسيسه وإنتاجه وإبداعه ونشره. فالأدب الفنتازي شجرة نابتة تفارق الأدب الواقعي يقبل على قراءته بشغف الجيل الجديد. 
ويتميز النص الروائي الماثل بأنه يميل لنقاء النوع ومحكم بدرجة جيدة، بداية بتهيئة الأجواء بفكرة الرهاب المركزية ذاتها والمشمولة بنسيج السرد جميعه، طوابق أسفل الأرض أو عبر الأماكن المغلقة والبحار ... إلى آخره، فالرواية حلقة نفسية تغلب على حكايات روادها الطابع الماورائي.
وتشرق الفانتازيا الشجرية عبر تقنية الراوي، فالراوي المركزي إخصائي الطب النفسي "د. فاضل" كان راويًا خارجيًا مهمته تأسيس الإطار الروائي الشجري عبر تقنية "القصة الإطار"، وهي فكرة تراثية في الحكي باستعمال القصة من داخل القصة. يقول في الاستهلال: "لذلك أريد أن يحكي كل منكم حكاية حدثت له ارتبطت بخوفه"، هذا الوعاء الروائي أصاب التوفيق لأن حلقة الإرشاد النفسي الجماعية ضم مجموعة متنوعة المشارب من جنسيات ومهن مختلفة ورابط المجموعة هو الرهاب المنوع الذي يعني: الخوف المتواصل المستمر وليس الخوف العابر لكنه الخوف المرضي المبالغ فيه وغير المنطقي والمسبب للقلق الشديد، ويحيلنا هذا لنص مواز ورد بالرواية: "ما يجب أن تخافه هو الخوف نفسه". 

Egyptian novel
الخوف أشد فتكًا بفرائسه 

إن توطئة الراوي المركزي مؤسس القصة الإطار تعني أن قماشة السرد متاحة للتشغيل عليها ومبررة، كما أنها تحيلنا للظلال النفسية في الحكي، بما يذكرنا بقصص أحسان عبدالقدوس، والاتجاه النفسي في الإبداع، كما تؤكد أنه أدب ينتمي للأدب الأمومي (الأدب البوليسي) الذي تفرع عنه، حيث إن الطبيب النفسي يمارس جولته ويبذل جهده لمعرفة جذور مختبئة للقلق النفسي في أدغال النفس الإنسانية، فكأنه محقق من طراز خاص، وهذا يلقي ظلال التشويق الروائي.
والراوي المركزي يتناوب مع مركزي آخر، ويتدخل عقب كل حكاية بالتعقيب والتأصيل العلمي للحالة، بل وتأسيس قصص جديدة في إطار الحكي الكلي، ثم انضم هو نفسه لموكب الحكائين يعرض ظاهرته النفسية على طاولة التشريح الروائي. 
ويبدأ التشبيك بعد التفريع، والشواهد النصية كثر، تقول الرواية (ص 174 بتصرف): "أرى أن الخيوط بدأت بالتشابك ببعضها، كل الحكايات ترتبط بشكل أو بآخر ببعضها / لقد بدأت الأمور في الوضوح، لقد بدأنا في معرفة العوامل المشتركة التي تربط تلك الحكايات ببعضها / إن لم تذكر لي كل الحقيقة سيكون تحليلنا ناقصا وغير مكتمل)، وأتي التشجير أيضًا بالإضافة للحلقات النفسية بفكرة الأبواب وفكرة الصندوق الذي مثل بوابة سحرية للمخاوف.
وساهم تشبيك الخيوط تدريجيًا وانخراط راو مركزي وآخر معه وتداعي الحكايات في كسر أفق توقع القارئ، تقول الرواية (ص 117): "هل تجمع بداخلي ما تفرق بينهم جميعًا؟، يبدو أنها أسئلة لن أحصل على أجوبة في الوقت الحالي على الأقل"، وحققت الرواية التشويق بالإنتقال من البسيط إلى المعقد، ومن الحبكة السهلة عبر تقنية الحكايات في وعاء واحد، إلى سلسلة من المفاجآت وتماهي خيوط الرواية ببعضها البعض. يقول د. فاضل في الثلث الأول من الرواية: "فهل من الصدف أن تكون كافة الحكايات مخيفة وليس فيها شيء طبيعي؟"، ثم مرة أخرى: "أمن الصدف أن تسلم كل حكاية الأخرى بهذا الشكل؟ تتزايد الألغاز في هذه الجلسة العجيبة".
أرى الرفد المعلوماتي للرواية المعاصرة، وبما لا يهزم الفن ضرورة رغم انتقاد البعض، لأسباب عدة منها أنها تغذي فكر القارئ للرواية وتخدم أفكارها، ومنها أن مقروئية الرواية عالية، فيمكن استثمار هذا الشأن بحضور هدف التغذية المعرفية إضافة لهدف الإمتاع الفني الذي لا غني عنه للرواية الجيدة. وأتت الرواية بمعلومات تعاضد الإطار الروائي: عن الرهاب وظواهر الباراسيكولوجي، وعلم الخوارق، والطاقة، وما وراء علم النفس، وأساطير، ومعرفة نفسية حول فقدان الذاكرة المؤقت، والعلاج النفسي بالسيكودراما. 
حين تجهزت لمقاربة الرواية طالعت كتابا مترجما بعنوان "لا تخف"، ووجدت فيه عبارة مهمة: "الخوف أشد فتكًا بفرائسه من السرطان والسل والزهري مجتمعين، والمصابون به أكثر عددا وأشد آلامًا". وهنا تشرق أهمية مغزي الرواية، تقول (ص 198 بتصرف): "نعم عدوك الخوف، هو عدوك وعدو الإنسان الأول .. إنه الخوف، العدو الأخطر للإنسان منذ القدم، .. شعور يجتاح جسدك ويسبب لك الرجفة". بالتالي قصدية الرواية بإيضاح لا لبس فيه الدعوة لتكسير الخوف وترويج مصل الضمير، تقول عتبة للفصل الثالث: "غالبًا ما يقود الخوف من شر إلى شر أسوأ".
يبقي لمحة عن لحظة عظة عميقة في الإطار الحكائي، عبر مناجاة صاخبة: "فلا يمكن أن يكون هذا هو الموت، لا ليس الآن!، ما زال أمامي الكثير لأفعله، ما زال لدي مال أريد أن أنفقه في الخير، ما زال لدي صلوات لم أتمها، لدي أناس لم أسامحهم ولم يسامحوني"، وهو تتناص مع الآية الشريفة: "قال رب ارجعون".