أفغانستان هزيمة أمة
تبادلت الولايات المتحدة وحركة طالبان المواقع في ما بينهما.
ترغب الإدارة الأميركية في أن لا تكون هناك هزيمة. أما بالنسبة لحركة طالبان فإن انتصارها لا يحتاج إلى ضجيج.
لم تعد التسميات مهمة. إن أرادت الولايات المتحدة أن تسميه انسحابا فليكن لها ذلك. فالقوات الأميركية التي تخلي مواقعها يهمها أن لا يتكرر المشهد الفيتنامي وأن لا تكون هناك فضيحة. اما العشرون سنة الماضية فلتذهب إلى الملفات وقد لا يهتم أحد بدراستها باعتبارها تجربة قتالية فاشلة.
القتلى، الجرحى، المعاقون، المشردون، اليائسون والمحطمون من الأفغان كلهم لا قيمة لهم. إنهم سماد الأرض التي لن تعود إلى أهلها.
ستُسمى العملية كلها الخيار الطالباني. فرضت الحركة المتشددة كل شروطها ولم تخفق إلا في شيء واحد. أن تكون خيارا أفغانيا يمثل إرادة الجميع بكل توجهاتهم الفكرية.
ومثلما كان الاحتلال الأميركي لأفغانستان ملغوما بالمشاريع الشريرة فإن الاتفاق الأميركي الطالباني هو الآخر ملغوم بنوايا شريرة.
لا يبني الأميركان رؤيتهم على توقعات غير متصلة بالواقع. معرفتهم بأفغانستان وبما يحيطها وبحركة طالبان وما يُراد منها ولها لا يمكن الاستهانة بها. لم تُهزم الحركة. ذلك صحيح. غير أنه لا يعني أنها بقيت عصية على الاختراق من قبل جهاز الاستخبارات الأميركية.
إلى نصيحة ذلك الجهاز يعود قرار الانسحاب "انسحبوا. فلا طائل من البقاء. مع كل يوم احتلال تصبح طالبان أقوى. ربما سيكون في الانسحاب مقتل الحركة التي تقع في دائرة انتقام محلي واقليمي".
حين وقع الاحتلال الأميركي لم تكن حكومة طالبان جزءا من المجتمع الدولي. دولة واحدة فقط كانت تعترف بها. من المؤكد أن تلك الدولة ستنأى بنفسها هذه المرة عن دولة يقودها ارهابيون.
لن تجد طالبان من سيتعاطف معها. فهي ما أن تسيطر على كامل التراب الأفغاني حتى تسارع إلى فرض شريعتها التي هي خلاصة عصور الظلام.
يعرف الأميركان أن الحركة المسلحة التي عجزوا عن سحقها لن تكون راغبة في بناء دولة حديثة بل أنها لن تسعى إلى أن يغمر السلام الأراضي الأفغانية ويستعيد الشعب الأفغاني أنفاسه بعد عشرات السنين من الحروب التي تعددت أهدافها واختلفت وجوه المشاركين فيها غير أن الضحية كانت تتكرر. هي نفسها دائما. الشعب الأفغاني.
ستستعيد طالبان إمارتها في أفغانستان. ولأن الأمة الأفغانية هي في حقيقتها مجموعة من الأمم ذات أعراق ومذاهب دينية مختلفة فإن ذلك سيشكل عائقا دون أن تصل الإمارة إلى شكلها النهائي. لا يتمتع البشتون وهم مادة طالبان البشرية بدهاء جيرانهم الفرس الذين أعلنوا الجمهورية الإسلامية في إيران وتجنبوا ولو مظهريا الخوض في مشكلات تعدد الأعراق والمذاهب وإن كان ذلك لم ينه المشكلات التي ظلت قائمة.
ليس صعبا على المرء أن يتوقع ما يلي:
أولا ستعيش أفغانستان في حالة عزلة عن العالم لا بسبب مقاطعته لها بل لأن طالبان لا تملك أفقا واسعا للتعامل مع العالم.
ثانيا ستنفجر المشكلات العرقية والعقائدية في وجه طالبان التي لن تتمكن من اخمادها وستكون طرفا في حرب أهلية متعددة الأطراف.
ثالثا سوف لن يترك جيران أفغانستان "جالياتهم" نهبا للعصف الطالباني وهو ما قد يعرض أفغانستان إلى حروب تشن عليها من قبل الجيران.
رابعا ستكون أفغانستان بؤرة توتر ومكان خطر يجذب الإرهابيين إليه.
بعد كل ذلك وقبله فإن الشعب الافغاني سيكون في وضع رث هو الأسوأ بعد العشرين سنة من الحرب التي حول الأميركان أفغانستان إلى مختبر للموت المجاني، كان بالنسبة لحركة طالبان مناسبة لاختبار قوة انتماء الافراد إلى الحركة وإلى العقيدة.
مَن يظن أن حركة طالبان قاتلت عبر العشرين سنة الماضية من أجل سيادة الدولة الأفغانية وحرية الشعب الأفغاني فهو واهم.
ليست هناك من قضية إنسانية أو وطنية تدافع عنها الحركة.
ما لا تخفيه حركة طالبان أنها عبر عشرين سنة من الحرب قاتلت دفاعا عن عقيدتها ولم تكن أفغانستان سوى الحاضنة المتاحة لتلك العقيدة. وإذا ما كانت تهمة الارهاب قد التصقت بالحركة فإنها ستكون صفة مرحبا بها طالما كانت "قوة الشر" المتمثلة بالولايات المتحدة تقف وراءها.
بعد عشرين سنة من الموت المجاني تترك أميركا الشعب الأفغاني كما لو أنه كان كله طالبان من غير أن تفكر بمصير الفئات التي سعت إلى التغيير والتنوير وتطوير التعليم ونشر الوعي والدفاع عن حقوق المرأة.
لقد مارست الولايات المتحدة واحدة من أكبر عمليات التضليل في التاريخ. وها هي تغادر المسرح وهي تعرف أنه سيشهد فصولا دموية. فإذا كانت حركة طالبان قد انتصرت فإن الولايات المتحدة ليست هي الطرف المهزوم بل الأمة الأفغانية هي ذلك الطرف.