'أكثر من طفل' يوثق لشكل المجتمع الصيني أثناء فترات تنظيم الأسرة

الكاتبة شين يانغ تروي قصتها بصفتها طفلة ولدت في أعنف فترات سياسة الطفل الواحد التي اتبعتها الصين في الثمانينيات. وهي الابنة الثانية للعائلة التي جاءت مخالفة للقانون مما دعى والديها لإخفائها وتربيتها سرًا.

هدفت سياسة الطفل الواحد التي فُرضت عام 1979 للحد من النمو السكاني في الصين، وبموجبها تم فرض عقوبات على المخالفين شملت دفع غرامات والطرد من الوظيفة أو مواجهة الإجهاض الإجباري أو الإخصاء ووأد البنات والاتجار في البشر، لكن هذه السياسة كان لها آثار  تأثيرات وخيمة على المجتمعوالاقتصاد، حيث تسببت في عدم التوازن بين الجنسين في الصين، الأمر الذي تم التنبه له في العام 2015 حيث تم انهائها والسماح لكل الأزواج بإنجاب طفل ثان.

في تلك الفترة ولدت الكاتبة شين يانغ عام يناير/كانون الثاني 1986 في مدينة شاندونغ الصين، ضمن ملايين "الأطفال غير المرئيين" الذين انتهك آباؤهم القانون ولم يلتزموا بسياسة الطفل الواحد، ليعيش هؤلاء الأطفال في الظل داخل مجتمع لا يرحب بوجودهم ولا يعترف به. من هذه الطفولة المضطربة جاءت الكاتبة التي درست الأدب وتخصصت في اللغة الإنكليزية. و أكملت بعدها دورة في كتابة السيناريو في أكاديمية بكين للأفلام، وتعيش الآن في شنغهاي.

تروي شين يانغ في روايتها "أكثر من طفل" التي ترجمتها يارا أيمن وصدرت عن دار العربي، قصتها بصفتها طفلة ولدت في أعنف فترات سياسة الطفل الواحد التي اتبعتها الصين في الثمانينيات. وهي الابنة الثانية للعائلة التي جاءت مخالفة للقانون مما دعى والديها لإخفائها وتربيتها سرًا.

ننتقل معها بداية من نشأتها في منزل جديها في قرية نائية واللذان عاملاها برفق، ثم نقلها بعيدًا إلى منزل عمتها وعائلتها غريبة الأطوار الذين لم يرحبوا بوجودها ووجدوها عبئًا زائدًا عليهم. ثم عيشها بهوية مزيفة عانت بها من الإهمال والذل والخوف الذي رافقها جميع مراحل حياتها.

تتجاوز الرواية دورها كقصة سيرة شخصية لتعد توثيقًا لشكل المجتمع الصيني في أثناء فترات تنظيم الأسرة، وكيف عاش ملايين الأطفال الذين ولدوا وهم "أطفال زائدة" ورحلتهم في التغلب على هذه الوصمة التي لم يكن لهم الاختيار في إلصاقها بهم.

مقتطف من الرواية

دخلت قوانين تنظيم الأسرة في حيز التنفيذ عام 1979 وكانت صارمة إلى حد ما في السنوات القليلة الأولى. خُففت على نحو ملموس بحلول عام 1984 أو 1985، وأنجب عدد من العائلات أكثر من طفل واحد سرًّا رغم أنهم لم يجرؤوا على تقديم طلب للحصول على بطاقة "هوكو" لهم. لذا عندما حان موعد الإحصاء السكاني عام 1990 (الإحصاء الرابع منذ التحرير)، عرضت الحكومة عفوًا، فرصة لتسجيل الأطفال غير المسجلين مجانًا، للحصول على نتيجة أكثر دقة. ظهرت أعداد غفيرة من الأطفال في جميع أنحاء البلاد، وتعجبت الحكومة المركزية عندما رأت الأرقام. لذلك أعادت الحكومة فرض حظر صارم على المواليد الزائدة في عام 1991، إذ كان عليهم خفض معدل المواليد بطريقة أو بأخرى.

بدأ مسؤولو تنظيم الأسرة يداهمون القرية على نحو متكرر وأنا وأختي الصغيرة لم نعد آمنتين عند نانا وجدي. كانت أختي الرابعة مجرد طفلة فأرسلها نانا وجدي إلى خالتي التي قضينا عندها الليلة مرة أخرى لأنهما خشيا من أن تصدر الكثير من الضوضاء وتجلب المسؤولين عند بابنا. أمَّا أنا وبعد خمس سنوات من الأمان والسعادة، كان عليَّ أن ألعب مع مسؤولي تنظيم الأسرة لعبة القط والفأر.

كانت المداهمات في أثناء النهار في البداية، لكنها أصبحت في الليل أيضًا فيما بعد. أتذكر بوضوح إحدى الليالي عندما كنت أغط في سبات عميق وأنا أعانق نانا وهرع جدي علينا من الغرفة الكبيرة وحملني بين ذراعيه. حملني بيد وأحضر سلم الخيزران بالأخرى. أحكمت نانا قبضتيها على السلم وصعد هو بسرعة إلى السطح. تكومنا بأمان فوق العوارض الخشبية المتقاطعة ثم خبأت نانا السلم بسرعة في الأسفل.

- افتحوا.. افتحوا، أسرعوا.. افتحوا البوابة.. سنكسرها إن لم تفتحوا.

حدث هذا في منتصف الشتاء، وفي جوف الليل وكان صوت طرق الباب يصم الآذان. انكمشت خوفًا بين ذراعي جدي وتشبثت بسترته السميكة المبطنة وأنا أحدّق بعينين مذعورتين إلى بصيص الضوء الخافت المنبعث من بين ألواح الأرضية.

ترنحت نانا في الخارج على قدميها المدببتين وفتحت البوابة الخشبية الكبيرة بيدين مرتجفتين. أسرع مسؤولو تنظيم الأسرة بالدخول وراحوا يقلبون المنزل رأسًا على عقب، لدرجة أنهم حتى قلبوا السرير الكبير.

كنت خائفة للغاية فدفنت رأسي في سترة جدي وسددت أذنيَّ. لم أستطع النظر أو الإصغاء، كنت أخشى أنهم إن اكتشفوا وجودي سأختفي في ظلام الليل ولن أرى جدي وجدتي مرة ثانية.

من بعد تلك الليلة، إن ظهرت أي شائعات بأن مسؤولي تنظيم الأسرة كانوا سيداهمون القرية ليلًا، كان يأخذني جدي للنوم على السطح، ويترك نانا منتظرة في الأسفل على أحر من الجمر.

منحتني رائحة الكحول المألوفة في جدي إحساسًا كبيرًا بالأمان. أويت بين ذراعيه واستمعت إلى ضربات قلبه القوية وشعرت بدفء شديد. ظننت أن هذا الدفء سيدوم للأبد وأنني سأكبر بسعادة في أمان ويحاوطني جناحي جدي وجدتي. لكن في أحد الأيام نانا المحبة للغاية، التي لم تضربني أبدًا لا هي ولا جدي مهما كنت مشاغبة، قالت مزحة بشعة. أتتنا سيدة في منتصف العمر في نهار ضبابي وقالت إنها أخت أبي الكبرى. كنت في الخامسة من عمري لكني لم يسبق لي أن رأيتها من قبل. كان اسمها "شين واندچي" وانتقلت إلى مقاطعة "خينان" في مدينة "نانيانج" عندما تزوجت.

أرسل أبي إليها خطابًا يخبرها فيه أن لديه أربع بنات وأنه غارق في الديون، ولهذا حزمت حقائبها وركبت القطار الليلي. كانت خطتها هي أن تأخذ، "نجمة"، الأخت الرابعة معها، لأنها ما زالت صغير، أصغر من أن تتذكرنا وتفتقدنا، كما كانت العمة "واندچي" مستعدة لتبنيها.

عمل جميع أبناء عمتي "واندچي" في المصانع، لم يكن وضع العائلة سيئًا في الوقت الحالي. علاوة على ذلك، بعدت مدينة "نانيانج" مئات الكيلومترات عن المكان الذي كنا نعيش فيه بـ"چيننج"، استغرق السفر بينهما اثنتي عشرة ساعة بالحافلة أو القطار. إن ذهبت "نجمة" إلى هناك، فسيكون وجودها هناك آمن بكثير من وجودها في "سانزها". رغم ذلك، عندما اعتقد الجميع أن عمتي على وشك أخذ "نجمة" بعيدًا، قالت نانا الكلمات التي غيرت مجرى حياتي:

- خذي "يانج يانج" معكِ يا "واندچي". لقد أصبحت شقية للغاية، وتقضي اليوم كله في الجري بأنحاء القرية. عظامي المسنة لا يمكنها ملاحقتها بعد الآن.

كنت طفلة شيطانية في نظر نانا مقارنة بأختي الصغيرة الوديعة. كنت أركض بجموح في جميع أرجاء القرية، أخرج في الصباح وأعود متسخة إلى المنزل في الليل، ووقعت في أنواع المشكلات كافة كل يوم. أخبرت نانا عمتي "واندچي" أنني حسدت جاري "دجينج دجينج" على مسدسه اللعبة وكانت هذه هي الطريقة التي رشتني بها لأذهب معها، إذ قالت:

- "يانج يانج"، أنتِ تريدين مسدسًا، أليس كذلك؟ العمة "واندچي" ستأخذكِ إلى المدينة لتشتري لكِ واحدًا.

لم أستطع منع نفسي من الركض لإخبار "دجينج دجينج" بالأخبار الجديدة قبل أن نغادر. تباهيت وقلت له:

- أنا سأحصل على مسدس، انتظر فقط حتى أعود وسنلعب بالمسدسين.

وقف جدي في ذلك المساء عند مدخل القرية مشبكًا يديه خلف ظهره ليودعنا. لوّحت له بسعادة من النافذة الخلفية بالسيارة وقلت:

- جدي، انتظرني حتى أعود وأريك مسدسي.

فغر جدي فاه كأنه سيقول شيئًا، لكن صوته لم يخرج. ابتعدت سيارتنا أكثر فأكثر حتى غابت عن ناظريه الفتاة الصغيرة التي لازمت خطوات أقدامه منذ أن استطاعت المشي. ارتجف فمه بعدها ثم استدار وسار في طريقه إلى المنزل. كانت السماء قد أظلمت تقريبًا عندما تعثر خيال جدي الوحيد بين الأشجار.

أخبرتني أمي بعدها بسنوات طوال أن جدتي كانت محطمة بعد رحيلي. كانت تبكي بصمت في كل مرة تفكر بي. ظلت مستيقظة طوال الليلة الأولى وهي تتلفت وتتقلب ثم صاحت الديكة وبزغ الفجر. أدركت حينها فجأة أن "يانج يانج" حفيدتها قد رحلت حقًّا. جلست ببطء ووقع نظرها على شريط الحقيبة القماشية الصغيرة التي صنعتها لي عالقة في شق بالسرير. جذبت الحقيبة وأخرجتها لتنفجر في البكاء وتفيض الدموع من عينيها في النهاية.

توسلت إلى جدي وقالت:

- أرجوك، اذهب إلى "دونج دجا" بأسرع طريقة ممكنة واعرف إن كانت "يانج يانج" غادرت بالفعل أم لا. إن كانتا لم ترحلا أحضرها مرة ثانية!

بكت بمرارة وتابعت:

- أنا أفتقد حفيدتنا "يانج يانج".. أفتقد حفيدتنا "يانج يانج".

نظر جدي إلى زوجته المضطربة واغرورقت عيناه بالدموع هو الآخر، ثم قال:

- لا تحزني.. أنا ذاهب الآن!

قاد جدي عربته ذات العجلات الثلاثة بأسرع ما لديه على الطريق الأسفلتي وحبات العرق تسيل على وجهه، لكنه ما زال يأمل أن يستعيد حفيدته المفضلة مرة أخرى. لم يكن يعلم أنني بالفعل في القطار الذي سيحملني بعيدًا عنه.

أجهشت بالبكاء وأنا أكرر:

- أريد نانا.. أريد نانا.

بينما كان القطار المكسو باللون الأخضر الداكن منطلقًا عبر الغابة، كان بإمكان جميع من في العربة سماع صرخاتي المُفجعة. انهمرت دموعي على شطيرتي الكبيرة المطهوة على البخار التي ظللت أمسكها في يدي دون أن آكلها. توجه إليَّ بعض الركاب بنظرات لم تكن ودودة بالمرة. شعرت عمتي بإحراج شديد وكانت قد سئمت مني بالفعل فهددتني:

- إن لم تكفي عن البكاء، فسألقي بكِ من النافذة.

اختفى تمامًا الوجه الدافئ والودود الذي ظهر لنانا وجدي، وانجلى وجه وحش مزمجر.

تجاهلتها وواصلت البكاء بصوت عالٍ. اختلطت دموعي بمخاط أنفي وتجمع هذا المزيج في قطرة كبيرة عندطرف أنفي. كانت العمة في غاية الغضب لدرجة أنها جلست تحدّق إلى وجهي وهي تطوي ذراعيها إلى صدرها. سئمت الراكبة الشابة الجالسة أمامنا في النهاية فأخرجت بعض المناديل الورقية من حقيبتها وانحنت عليّ لتمسح أنفي، لكن قبل أن يمكنها أن تضغط بثنايا المناديل على فتحي أنفي، مسحت أنفي بنفسي في كُم سترتي. وهكذا صار أنفى نظيفًا وجافًا ببساطة، لكن جميع من كانوا يشاهدون هذا المشهد القصير جعدوا أنوفهم في اشمئزاز. ظلت هذه الفتاة الطيبة ممسكة بالمناديل في إحراج دون أن تدري أتعطيني المناديل أم لا.