أمجد توفيق رجل من خارج سياقات الزمن

في حوار مع برنامج أطراف الحديث، الروائي والكاتب الكبير والإعلامي المخضرم يرى انكل العباقرة والعلماء والأنبياء جاءوا بطريقة مختلفة وكانت أخطاءهم ذهبية.
حاملو الأفكار النقدية هم كانوا أشبه بمجانين أو ممن خرجوا عن قاعدة مجتمعية
القيمة الجمالية في أية ثيمة أو جملة هي بمقدار إنحرافها عن المعنى القاموسي للكلمة

حوار الدكتور مجيد السامرائي مع الروائي والكاتب الكبير والإعلامي المخضرم الأستاذ أمجد توفيق ضمن برنامج "أطراف الحديث" من قناة الشرقية، يوم الاحد السادس من آب/اغسطس 2023، عبارة عن رؤى فلسفية وحكم بلاغية، وغوص في أعماق النفس البشرية، وفي أعماق بحور الإبداع، وكيف يكون الرجال العظام، ومن يصنعون الكلمة، ومن يختارون حروفها وثيمتها، وكيف يتم إختيار الكلمة، وكيف يعيدون تهذيبها وصقلها، ليتسنى  للكاتب والروائي تحويلها الى لقمة سائقة، تتلذذ بها الأنفس وترتاح لها الضمائر، ويجد فيها الضمآن مبتغاه!!

وحين تتمعن في خفايا حوارات الكاتب الكبير أمجد توفيق وجمله وعباراته وما ينطق به، حتى تتخيل أنك امام رجل قادم من خارج سياقات الزمن، حين يؤكد لك أن العظماء والعلماء ماكانوا ليكونوا على هذه الدرجة، لو لم تكن في حياتهم "أخطاء ذهبية"، هي من رفعت من مقاماتهم حتى تسلقوا قمم المجد، من خلال ما قدموه للبشرية من إنجازات كبرى ومكانة رفيعة، حتى أصبحوا نجوما وكواكب لامعة، ومضرب مثل على كل لسان!!

الخطأ الذهبي

أجل.. تمعنوا في الفقرة التالية لتروا كم أعطى الروائي الكبير أمجد توفيق لـ "الخطأ الذهبي" أهمية في حياة العبافرة والعلماء.. ليقول: كل العباقرة والعلماء والأنبياء جاءوا بطريقة مختلفة، وكانت أخطاءهم ذهبية، في وقتها، وفي الزمن الذي نحتكم في تأسيسها ووجودها ..عندما أنطلقت الأراء النقدية أو السلوك المرتبط بهذه الآراء.. ويضيف: أعتبر حاملي هذه الأافكار أنهم كانوا أشبه بمجانين، أو خروج عن قاعدة مجتمعية.. وكلنا نحاول أن نبحث عن الزمن الأجمل.

أما مقدمة حوار الدكتور مجيد السامرائي فكانت عن أول إبداع قصصي أو روائي تحدث عنه الروائي والكاتب والإعلامي أمجد توفيق، مشيرا الى أن قصص: الثلج .. الثلج كانت "مفارقة" وفي حوار في هذا الجو القائض الذي تعدى المقاييس المعقولة لدرجات الحرارة، حيث يتذكر أن المجموعة القصصية الأولى التي كتبها عام 1974 هي الثلج الثلج، التي كانت تجربته الأولى، التي كانت تضم تسع قصص، وكانت تستوحي طبيعة المنطقة والبيئة، وهي دهوك تحديدا التي تربى فيها، وعاش مرحلة طفولته وشبابه، وهي في المنطقة الشمالية من العراق.

كاتب الجبل

وعن وصفه بـ "كاتب الجبل" يقول أمجد توفيق انه جرى توصيفي على نمط روايتي الأولى طفولة جبل وهي نمط الكتابة العراقية، حيث نمط الطبيعة الجبلية هي الغالبة للمبدعين العراقيين.

ويضيف: الثلج الثلج ينطبق الوصف على الرواية أكثر مما ينطبق على قصص صغيرة..قصص الثلج الثلج، عندما تتحدث في القصة كأنك تتحدث عن غرفة، بينما في الرواية يمكنك أن تتحدث عن مدينة.. فالقصص ليست بالضرورة أن تكون معبرة عن حياة الكاتب، برغم أن الحياة الشخصية للمؤلف هي موجودة في بقية أعمالي، ولي في أغلب روايتي كما يقول، شخوص كثيرون مايزالون حاضرين ضمن رواياتي، وبعضهم يرد ذكره أكثر من مرة..أما تفسيره لرواية وعنوان" الساخر العظيم " فأكد أن "الساخر العظيم هو الزمن الذي يسخر من الجميع ".

ويؤكد الروائي والكاتب أمجد توفيق أن العمق في الكتابة يأتي من خلال التجربة، الكاتب الحقيقي ليس فأرة كتب، ربما تقرأ آلاف الكتب، ولكن دون موهبة حقيقية معمدة بتجربة، فالحياة وجدت لأن تعاش، لا لكي نتفرج عليها، نحن ممثلون حقيقيون نعيش حياتنا في الزمن المكتوب علينا، مهما طال أم قصر، وأما أن نكون متفرجين، وانا من الناس خياري هو أن أعيش الحياة وأن أكتب عنها هذا المصير.

ويشير الى أنه في الرواية يكون المكان هو جزء أساسي، إذ لاتوجد رواية بلا مكان، واذا اختفى المكان من الرواية يؤثر على صيرورة الرواية والموقع ايضا يحدد معالم الرواية وبيئتها، والحركة هو مكانها.

الإبداع يمحني الحرية

وبشأن سؤال عن متى يشعر الكاتب بالحرية يقول أمجد توفيق :  الابداع عادة يمنحني ما ينقصني من الحرية.. لاتعتقد أن هناك إنسانا ما في حياتنا الا وكانت حريته بشكل ما منقوصة، هناك العمل، هناك العلاقات الاجتماعية السياسية، البيئة، حتى الجو يؤثر عليك، ويعتدي على الحرية، ولكني أعتقد أن الإبداع قدم لي حرية ثمينة بأن منحني قدرا كبيرا من الحرية، فأنا حر عندما أكتب بحرية، أفتقدها في حياتي اليومية التي تتعرض الى مجموعة مؤثرات، هذه المؤثرات ليس لدي القدرة في السيطرة عليها، ولكن في الرواية لدي القدرة على أصنع عاطفة ثلجية أو عاصفة ترابية.

وعن "الخطأ الذهبي" الذي صنعه أمجد توفيق قال أنا ككاتب أفرق بين نوعين من الخطأ، هناك أخطاء ترابية وهي أخطاء صغيرة وقد تنال من قيمة من يرتكبها، ولكن هناك أخطاء عظيمة، أخطاء ترفع من قيمة صاحبها.

ويضيف.. الرواية تمنحني ما ينقصني من الحرية، حيث ينقصني الكثير من أراه ..أنا لا أنتظر من الحياة أن تمنحني..أنا رجل وانا أستطيع أن اضع نفسي في المكان الذي أعتقده مناسبا، فالرجل حيث يضع نفسه.

وأبطال رواياتي، كما يقول، كانوا يمارسون حريتهم، وهم يموتون يكون لهم راي وموقف، وهم لم يكونوا أناسا عاديين، كانوا أصحاب مشاريع، وكانوا محبين بطريقة رائعة، وعشاقا لطيفين، وهم مؤمنون أن الحياة لن تعاد مرة أخرى..وكل بطلاتي لي علاقة عاطفية معهن، وقت كتابة روايتي ينال، وهن متخيلات.

وعن علاقة القاريء بالكتاب يوضح : الكتاب عبارة عن جسم ميت، وتبعث به الحياة في لحظة القراءة، وليست هناك قراءتان متشابهتان، وكل قراءة تستوجب أن تستحضر خزينك المعرفي، فالكاتب ليس بمقدوره ان يطلب من القاريء ان يتمعن كتابه صفحة بعد صفحة، مايدفعه للقراءة هو المتعة التي تتحقق لحظة القراءة، ودون هذه المتعة فإن من حق أي قاريء أن يقرأ صفحة او صفحتين ويترك الكتاب، ليحوله ثانية الى جسم ميت.

قيمة الكلمة بقدر إنحرافها عن المعنى القاموسي

وعن كيفية إنتقائه للمفردة في الرواية يقول: المفردة التي أستخدمها، الجملة وطبيعة التراكيب، أمنحها شيئا من روحي ومن قدرة ميكانيكية على تعريف الأشياء، وهناك من يقول أن القيمة الجمالية في أية ثيمة أو جملة تستخدمها هي بمقدار إنحرافها عن المعنى القاموسي للكلمة، فكلنا نتحدث عن 28 حرفا من حروف لغتنا العربية، ولكن ليس هناك كتاب يكتبون بنفس الطريقة، أنا أؤمن بالتامل وأؤمن بالتجربة، وما لم أأخذ إستحقاقي الى اللحظة الأخيرة قبل أن أموت.. لن أتردد في قول أو فعل أجده صحيحا، وغالب هذه الأشياء كانت من الأخطاء الذهبية أن أقرر المكان الذي أكون فيه، وأقرر موعد المغادرة، ولن أسمح لأحد أن يتدخل..ويضيف: كنت مدير عام مؤسسة، وكان صاحب المؤسسة أقول له بكل وضوح، القرار النهائي هو لك  وليس لي، ولكن القرار الذي أتخذه أنا ليس من حق أحد أن يناقشه معي، أنا أقرر متى أبقى ومتى أغادر، أنا الان في جو ذهبي، أعيش في مكتبتي بالبيت أقرر وأكتب كما أشاء، وأسافر كما أشاء،والتقي بمن أشاء.

وعن روايته ذائة الصيت "ينال" قال الروائي أمجد توفيق: رواية ينال كانت قضية فكرية فلسفية، كان يبحث عن الحقوق التي لن تقرها البشرية، فالانسان ليس صخرا، يتغير رايه، وينمو ويرحل، والحق في الرحيل المطلق، الذي يهضم حتى الحق في الانتحار، الذي لايقره دين أو شريعة أو منظمة مجتمع مدني او منظمة أممية، من أبطالي ينال (انتحر) وعندي شخص آخر في رواية أخرى إنتحر أيضا، وفي لحظة إنتحار ينال، عادة المنتحرون هناك أسباب تدفعهم للإنتحار، أما أن تكون أسبابا مالية، أو مشاكل عاطفية، أو أسبابا مختلفة، وينال كان سيئا جدا، وعلاقاته العاطفية نال منها الكثير، ولكن كان يعتقد أن الاكتمال غائب.

الموصل أشم فيها رائحة التراث

وعن الموصل وذكرياته الجميلة فيها قال: أنا أعشق الموصل، الموصل القديمة التي أشم فيها رائحة  التراث والأصالة والحياة الموصلية ..الساحل الايمن هو الأصل، الايمن الذي لايزال اربعين الف بيتا مهدما، انا عشق البيوت القديمة المبنية من الجص والحجر، والمرمر الموصلي، الان أشياء كثيرة تغيرت، ربما نحاول إستذكار طفولتنا فيما مضى، ولكن لن تحدد علاقتي بالموصل بدعوات لحضور مهرجان، احتفالي في الموصل في أن أبحث عن مكان للباجة قديم، أبحث عن مطعم للكباب، أرتاح عادة لمناطق شعبية، ومناطق رخيصة جدا ولذيذة جدا. واحب أكل اللحم على طريقة الاديب الكبير نجمان ياسين، حتى أبطالي يتلذذون بالأكل، كما يقول.

حوار أكثر من ممتع.. وجدنا فيه أنه من الحوارات المتميزة والخارقة التي يجد فيها المثقف والاديب والمتتلقي عموما ما يشفي غليله، وما يرفع من قيمة الإنسان، ومن سوء الأقدار عندما تداهم بني البشر، وهم لديهم آمال وطموحات لم تكتمل بعد..

شكرا للمحاور الرائع الزميل العزيز الدكتور مجيد السامرائي، ومن كانت تربطنا به منتصف السبعينات علاقة من نوع خاص، بمنطقتي الكسرة وباب المعظم وفي  اكاديمية الفنون الجميلة وفي كلية الآداب وقسم الصحافة  في السبعينات ومعهد الإدارة، وفي جريدة الجمهورية، في أيام عزها الذهبي، مع الزميل صباح ناهي ومحمد صاحب سلطان وجلال النداوي وزملاء آخرين، فله منا كل تحية وتقدير..وشكرا لكل تلك الحوارات الاكثر من روعة مع أناس ومبدعين عراقيين تركوا بصماتهم وإبداعهم في الساحة العراقية، وهي محط إشادة وتقدير كل من عرفهم، من ضيوف الدكتور مجيد السامرائي، حيث يجيد الرجل إختيار ضيوفهالمميزين لبرنامجه الشيق "أطراف الحديث".. وله منا وللروائي والكاتب الكبير أمجد توفيق كل تحية وتقدير.. وأمنياتنا لهم بالتوفيق والتألق الدائم..