أميركا اللاتينية 'القارة الغامضة' أكثر المناطق تفاوتا سياسيا في العالم

الباحثة د.صدفة محمد محمود تحلل الاتجاهات الراهنة في المفاهيم والظواهر والقوى الفاعلة والهيكل الاقتصادي، فضلا عن خريطة العلاقات الخارجية "الإقليمية والدولية" لبلدان المنطقة من المنظور الغربي واللاتيني.

يعد تاريخ أميركا اللاتينية، منذ الحقبة الاستعمارية، مصدرا للعديد من التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. رصد الباحثون مزيجا متنوعا من الخبرات لدراسة الابتكارات الديمقراطية، الثورات، الانقلابات العسكرية، الحروب الأهلية، الديكتاتوريات العسكرية، الإقالة، الشعبوية، المحسوبية، الفساد، استراتيجية الإحلال محل الواردات، النيوليبرالية، الاشتراكية، تغيير النظم، الحركات الاجتماعية، سياسات الحماية الاجتماعية، التكامل الإقليمي، معاداة الهيمنة الأميركية، وغيرها. وتتيح هذه التجارب المتنوعة، والتي تجعل من أميركا اللاتينية أحيانا "منطقة التناقضات"، وهذا ما حاولت الباحثة د.صدفة محمد محمود الكشف عنه في كتابها "القارة الغامضة.. كيف يمكن فهم أميركا اللاتينية؟".

حللت محمود ورصدت في الكتاب الصادر عن مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية بأبوظبي الاتجاهات الراهنة في المفاهيم، والظواهر، القوى الفاعلة، والهيكل الاقتصادي في أميركا اللاتينية، فضلا عن خريطة العلاقات الخارجية "الإقليمية والدولية" لبلدان المنطقة. مستهدفة إلقاء الضوء على بعض الإشكاليات المتعلقة بدراسة التحولات الجارية في أميركا اللاتينية، من المنظور الغربي، مع الاعتماد في الوقت نفسه على المؤلفات التي كتبها باحثون لاتينيون، بهدف تقديم قراءة متوازنة لمجريات الأوضاع في المنطقة.

وأكدت على تعقد المشهد الداخلي في بلدان أميركا اللاتينية، في ظل ما تعانيه من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة، وتنامي الضغوط الدولية التي تتعرض لها بلدان المنطقة، وتفاقم حالة التنافس بين القوى الكبرى في العالم. وقالت "تشهد منطقة أميركا اللاتينية منذ تحولها إلى الديمقراطية، حالة من الديناميكية الشديدة، والتي تصل أحيانا إلى حالة من السيولة، بحكم التطورات المتسارعة في المنطقة والأزمات المستمرة التي تعاني منها والتي كانت لها انعكاسات واضحة على شاغلي المناصب السياسية، من حيث صعود وتراجع بعض التيارات والأحزاب السياسية. ويكشف تأرجح البندول السياسي ما بين تياري اليمين واليسار اللاتيني، عن أن قوى التغيير لها علاقة بالاقتصاد الاجتماعي أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيا، حيث تزامنت مع الأزمات الاقتصادية والسياسية الدراماتيكية التي تشهدها بلدان المنطقة، كما كانت لها انعكاسات واضحة على السياسات الاقتصادية المطبقة. مثلا، كان وصول القوى اليسارية / التقدمية إلى السلطة نتاج استياء المواطنين من الحكومات اليمينية السابقة، حيث طالب الأمريكيون اللاتينيون بالتغيير وتجديد التركيز على السياسة الاجتماعية - مثل تدابير مكافحة الفقر والمزيد من القدرة على الوصول إلى الخدمات العامة - بعد سنوات من الإهمال من قبل الأحزاب السياسية التقليدية.

وأضافت محمود "كان صعود قادة اليمين مرده الأساسي الاستياء الشعبي من انتشار الفساد السياسي وارتفاع معدلات العنف والجريمة، كما كان نتاجا لحالة التغير المجتمعي/ الثقافي في بعض بلدان أميركا اللاتينية، والتي ارتبطت بتصاعد التوجهات الاجتماعية المحافظة، التي تركز على القيم الأسرية والدينية. بصفة عامة، كان التغير المستمر في شاغلي المناصب السياسية، نتيجة مباشرة لسيادة الغضب والاستياء الشعبي من فشل الحكومات، بغض النظر عن توجهها السياسي، في الوفاء بتعهداتها الانتخابية في مكافحة الأزمات المستعصية مثل الفقر والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي".

ورأت أن هناك اتجاها غالبا في دراسة القوى السياسية الفاعلة في أميركا اللاتينية، ينظر إليها ضمن ثنائية جامدة (اليمين/ اليسار(، بينما هناك في الواقع توليفات متنوعة للتوجهات السياسية لهذه التيارات والقوى المختلفة. في هذا الصدد، فإن المصطلحات الدارجة في وصف هذه التيارات والقوى، كوضع اليمين مقابل اليسار، أو الليبرالية مقابل المحافظة أو الراديكالية، أو الديمقراطيين مقابل التسلطيين، تفقد كثيرا من دلالاتها عند تطبيقها على الواقع اللاتيني، سواء بحكم التغير المستمر في المواقف، أو بحكم التماس فيما بينها. وهذا التداخل والتماس في المواقف والاتجاهات يضع الباحث في مأزق يصعب معه التمييز بين المصطلحات. مثلا، لا يمثل اليسار اللاتيني كتلة واحدة متماسكة؛ إذ يضم اليسار المعتدل الراديكالي، التسلطي، واليسار البيئي أو الأخضر، والذي يدافع قادته عن قضايا حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي ودعم الطاقة النظيفة، في حين أن قادة اليسار التقليدي الذي برز في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ركزوا على النمو الاقتصادي القائم على استغلال الثروات الطبيعية والمعدنية.

وأشارت محمود إلى صعود النزعة العسكرية في منطقة أميركا اللاتينية، حيث شهدت بعض المناطق والأقاليم كأفريقيا تكرار حدوث الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال. ورغم تحولها إلى الديمقراطية، لا يزال الجيش يمثل قوة مركزية في الحياة السياسية، ولم يتم فرض سيطرة مدنية كاملة في أي من دول أميركا اللاتينية. وفي الوقت الراهن، عادت القوات المسلحة إلى مركز المجال السياسي كحلفاء لبعض الحكومات اللاتينية، ولعب بعض العسكريين دورا شرعيا في صنع القرار السياسي، كما تنامى اعتماد القادة على القوات المسلحة في البرازيل والمكسيك وبعض دول أميركا الوسطى للقيام بالعديد من المهام والأدوار بما في ذلك الحفاظ على النظام العام، ردا على ارتفاع معدلات الجريمة والاحتجاجات الجماهيرية وغير ذلك من التحديات. في حالات أخرى مثل كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا، تشارك القوات المسلحة مشاركة كاملة في معظم جوانب الحكم والاقتصاد. نتيجة لذلك، سارع العديد من الباحثين إلى إعلان عودة النزعة العسكرية كتهديد للديمقراطية في أميركا اللاتينية، وأشار البعض إلى أن الجيوش كانت تتصرف بطريقة مشابهة للأنظمة العسكرية الاستبدادية خلال حقبة الحرب الباردة.

وأوضحت "مع ذلك، هناك مؤشرات دالة على أن جيوش أميركا اللاتينية مترددة بشكل عام في الانغماس في القضايا السياسية الداخلية المتنازع عليها على وجه التحديد بسبب تجاربها الكارثية في الماضي غير البعيد، فضلا عن قوة المؤسسات الديمقراطية مقارنة ببعض المناطق كما هو في أفريقيا. وفي حال استمر الحكم الديمقراطي والقادة المدنيون المنتخبون ديمقراطيا في الفشل في تلبية توقعات مواطنيهم، فقد يترك ذلك الباب مفتوحا أمام القادة العسكريين للعودة مرة أخرى إلى السلطة، خاصة مع ارتفاع متوسط الدعم الشعبي للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية.

ولفتت محمود إلى أن أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي واقعة في فخ "النمو الاقتصادي المنخفض وعدم المساواة المرتفع"، وفي الوقت الراهن تشهد المنطقة نموا اقتصاديا شديد التقلب، ومنخفضا في المتوسط، يرتبط بانخفاض الإنتاجية وضعف ديناميات الإنتاجية. إضافة إلى أن الانتعاش الاقتصادي لا يضمن النمو المستدام. وقد تحدث البنك الدولي عن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتباره عقد "الحد من عدم المساواة"، بسبب السياسات الاجتماعية وإعادة التوزيع. وعلى الرغم من عقود من التقدم، لا تزال أميركا اللاتينية هي أكثر المناطق تفاوتا في العالم، حيث تظهر بلدانها والكاريبي تفاوتا في الدخل أعلى من مثيلاتها في المناطق الأخرى ذات مستويات التنمية المماثلة. يسود اعتقاد راسخ لدى البعض بأن هذا الوضع متجذر في بنية تاريخية قوية موروثة من الحقبة الاستعمارية، والهيكل الطبقي للمجتمعات اللاتينية حيث تحتكر نسبة محدودة من السكان النسبة الأكبر من الثروة والدخل ومصادر السلطة في المنطقة. إلى جانب عدم استدامة السياسات الاجتماعية الهادفة إلى الحد من التفاوت الاجتماعي.

وفي خضم تعافي أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من جائحة كوفيد - 19 وتداعيات الحرب في أوكرانيا، تظل الحاجة إلى استمرار النمو الديناميكي والشامل والمستدام ذات أهمية قصوى وملحة بشكل متزايد. ولتعزيز التعافي وتعزيز النمو والحد من الفقر وعدم المساواة، يجب على البلدان مواصلة الاستثمار في السياسات الرامية إلى تحسين توزيع الأصول (خاصة التعليم) مع العناصر الهادفة إلى تحسين قدرة الدولة على إعادة توزيع الدخل من خلال الضرائب والتحويلات.

وأكدت محمود على أنه بالرغم من تحول أميركا اللاتينية إلى الديمقراطية وانتهاء سلسلة من الحروب الأهلية طويلة الأمد مع تسويات تفاوضية مستدامة، فإن المنطقة لا تزال الأكثر عنفا في العالم، على الرغم من بعض الاختلافات بين البلدان هناك. يمكن تفسير هذا الوضع باهتمام الحكومات المتعاقبة في غالبية دول القارة بالتغييرات الرسمية، على مستوى التشريعات والقوانين والمؤسسات، أكثر من التركيز على معالجة الجذور الهيكلية التي تعيد إنتاج مظاهر مختلفة من العنف، مثل عدم المساواة والفقر المرتفع.

وكشف عن أن الأحداث العالمية مثل جائحة كوفيد – 19 والصراع بين أوكرانيا وروسيا، وبشكل عام، التغيرات في الظروف البيئية والتطورات التكنولوجية والعولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية؛ في إعادة تشكيل المصالح القومية، وتعديل نظام التحالفات الدولية. في الوقت الحالي، أصبح تركيز السياسة الخارجية الأميركية على المنافسة الاستراتيجية يحظى بدعم واسع النطاق من الحزبين في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، مع دخول الولايات المتحدة مرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي الذي لا يجري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والشرق الأوسط فحسب، بل في الجوار الجغرافي المباشر للولايات المتحدة: داخل نصف الكرة الغربي. ومن المرجح أن تزداد الأهمية الاستراتيجية لأميركا اللاتينية في سياق منافسة القوى الكبرى مستقلا بالنظر إلى عدة عوامل، لعل أبرزها وجود ما يقرب من %55 من رواسب الليثيوم في العالم في أميركا اللاتينية، وبالتحديد داخل مثلث الليثيوم، وهو عبارة عن رقعة من الأراضي تشمل المناطق الشمالية في تشيلي والأرجنتين وجنوب غرب بوليفيا. يمثل هذ المعدن أهمية خاصة في إطار جهود العالم للتحول إلى الطاقة النظيفة، لما له من دور محوري في تصنيع السيارات الكهربائية. تقدر وكالة الطاقة الدولية أنه بحلول عام 2040 سيزداد الطلب على الليثيوم 42 مرة.

ورأت محمود أنه في ضوء تصاعد المنافسة الاستراتيجية بين القوى الدولية على مدار العقدين الماضيين، عززت الصين وروسيا بشكل كبير نفوذهما الاقتصادي والأمني في المنطقة، على حساب الولايات المتحدة وحلفائها. أدى الوجود الاقتصادي المتزايد للصين في أميركا اللاتينية إلى رد فعل عنيف من الولايات المتحدة، التي حاولت صد نفوذ الصين، مما أدى إلى تسييس السياسة التجارية الأمريكية في أميركا اللاتينية، التي برزت كساحة أخرى في الصراع العالمي بين القوى الكبرى. يمكن أن يكون لاحتدام المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى في أميركا اللاتينية، انعكاسات واضحة على دول المنطقة. تواجه البرازيل مثلا ضغوطا أمريكية لمنع شركة هواوي الصينية من بناء شبكتها الخلوية من الجيل الخامس G5. من المرجح أن يكون الجدل الدائر حول عقود بناء شبكات الجيل الخامس هو مجرد نقطة انطلاق لمواجهة أوسع نطاقا بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة خلال السنوات المقبلة. وفي حين أن واشنطن تسعى لنقل مخاوفها الجيوسياسية الأوسع إلى المنطقة، فإنه من غير المرجح أن تنجح جهودها في هذا الإطار، إذ يرى بعض المراقبين أن أميركا اللاتينية لا تريد حربا باردة أخرى. وفي حين ينظر الكثيرون في الولايات المتحدة إلى العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتنامية بين الصين وروسيا من جانب وأميركا اللاتينية من جانب آخر على أنها تهديد كبير، لكنها في الواقع قد تعكس ببساطة نهجا عمليا من قبل العديد من البلدان في المنطقة تجاه أهم شركائها الاقتصاديين.