أنتولوجيا المحكيات القصيرة جدا تضم 162 ميكروقصة

الأنتولوجيا أبدعها "24" كاتبا من أجيال مختلفة واختارها وترجمها المغربي عبدالسلام بنخدة.
قاصون متميزون من جغرافيات متباعدة
مادة الأنتولوجيا جمعت من مصادر عدة

صور أو لقطات لأحداث أو تخييلات يمكن أن تحكى ويتم الاستفاضة في حكيها بل والذهاب بها إلى قصة قصيرة أو رواية ضخمة، ويمكن تجاهلها وسط ما تموج به الحياة الواقعية للبشر من متخيلات وأحداث ومواقف وصراعات ذاتية وعامة، هذه الصور واللقطات التقطها وصاغها قاصون كبار عربا وغربيين، وصاغوها فنيا في أسطر قليلة جاءت في شكل أطلق عليه عربيا "القصة القصيرة جدا" وغربيا "الميكروقصة"، وقد راجت عربيا تحديدا في فترة من التسعينيات، لكن لم يلتفت إليها النقاد كثيرا فخفت صوت حضورها.
وهذه المختارات أو الانتولوجيا التي انتخبها واختارها وترجمها بجمالية بالغة وحس أدبي متميز عبدالسلام بنخدة من محكيات قصيرة جدا "ميكروتخييلات، ميكروقصص، ميكروحكايات" لقاصين متميزين من جغرافيات متباعدة، تعيد إلى الذاكرة جماليات هذه الفن الجميل للقصة القصيرة جدا.
لفت بنخدة في تقديمه للمختارات الصادرة عن دار ظلال وخطوط بعنوان "تخييلات مضغوطة.. مختارات لأبرز كتاب الميكروقصة" أنها لقاصين من أميركا اللاتينية: الأرجنتين، كواتيمالا، كولومبيا، المكسيك، فينزويلا، وأوروبا الغربية: أسبانيا، فرنسا، إيطاليا، النمسا، ألمانيا، بلجيكا، هنغاريا، وأميركا الشمالية: كندا، الولايات المتحدة الأميركية. ومن اتجاهات أدبية وفنية متنوعة؛ البعض من هذه الأشكال الوجيزة ظهر في بدايات القرن العشرين، "جيل رونار، فيليكس فينيون" والبعض الآخر نشر حديثا في أواخر القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين".

جسده الطويل والنحيف، وروحه الصغير التائهة في الكون، كانا جالسين هناك على حافة النافذة في غرفة الاستحمام

وأوضح بنخدة أن مادة هذه الأنتولوجيا جمعها من مصادر عدة: مجاميع قصصية ودراسات نقدية ومجلات متخصصة ومواقع إلكترونية خاصة بالأشكال القصصية الوجيزة. وقال "لم أشأ وضع تقييدات لقراءتها أي وضع قيود خارج - إبداعية لتسييجها أثناء القراءة مثلا، إخضاعها لترتيب تنازلي وفقا لتواريخ النشر "من الأقدم إلى الأحدث"، أو تجميع إبداعات كل كاتب حسب الفضاء الجغرافي الذي ينتمي إليه "كتاب أوروبا، كتاب أميركا اللاتينية، مثلا"، وإنما وفرت لهذه "الميكروتخييلات" مساحة أوسع من الحرية داخل هذه الإضمامة، لتتبين للقارئ، شساعة وتنوع المتن القصصي الذي غطته أنتولوجيتنا".
ضمت الأنتولوجيا "162" ميكروقصة أبدعها "24" كاتبا من أجيال مختلفة، ومن حساسيات فنية متنوعة: نجد ممثلة داخلها "الحساسية الفنية الإيبيرولاتينية" و"الحساسية الفنية الفرنكونية".
وأكد بنخدة أنه عمل جهد الإمكان أن تكون ترجمة الأنتولوجيا في حلة أدبية رشيقة جدا تمتع القارئ العربي دون إملاله وفقا لأفق انتظاره؛ الإطلاع على نصوص تتسم بالجدة والتنوع. وقال "تكمن أهمية هذه الأنتولوجيا القصصية، من جهة، في كونها تفتح للقارئ العربي نوافذ للقراءة بالعربية لنصوص ومحكيات قصيرة جدا كانت منثورة هنا وهناك، وبلغات شتى. ومن جهة ثانية، الاحتكاك بتجارب أدبية وفنية لأمم وثقافات مختلفة من خارج ثقافته الأم، قد تدفعه، إن وجد في الأمر متعة وفائدة، لإعادة كتابتها أو إنتاجها، من داخل ثقافته الأم، وتلك أقصى أمانينا".
وقبيل البدء في اختياراته وضع بنخدة رؤى جانب من الكتاب والنقاد للميكروقصة، حيث نقل عن الناقد والمبدع فنسان بسطه قوله إنّ "الميكروقصة شكل من أشكال المحكي الأدبي، تتسم بالإيجاز الشديد، وتكتب نثرا، قد يحدث مع ذلك أن يقربها إيقاع الجمل التي تؤلفها من الشعر. لها شعبيتها في العالمين الأدبيين الناطقين بالإسبانية والانجليزية، وتجد دعما لترويجها من الوسائل الإلكترونية "إيميلات، توتير، تيكستو، مدونات". لا يربطها بالهايكو، رغم المظاهر، أي قرابة. إذا كان شعر الهايكو يفسح المجال كبيرا لتأمل الطبيعة والتراث، فإن الميكرو قصة تحجب كل وصف، وتبتعد، بطيبة خاطر، عن سبل الحكمة لتكتفي بنقد المجتمع والهزء منه".
فيما نقل عن دومينيك راباتي بييرشوينتي إشارته "يولد المعنى، في هذه الميكروتخييلات، من خلال تكثيف العبارة وتضييقها. إن الإيجاز في أقصى حدوده، يمنح أحيانا، فضـلا عن ذلك، فهما شبه مباشر لبعض هذه النصوص، وهو أمر يستحيل حصوله في الرواية ـ النهر، التي لا تأخد معناها إلا من خلال اعتبار المعمارية الكلية".
أما لوران بيرتيوم فنقل عنه تساؤله: ما فائدتها العملية؟ حيث قال "مسألة ذوق؟ قلة الوقت المخصص للقراءة؟ في المحكيات القصيرة جدا، يتفوق الضمني على الظاهر أو الجلي، ويصبح البحث جزءا من فعل القراءة". ويضيف "إن كتابة متوالية من الميكروقصة يتطلب قدرات ومواهب أخرى. إذا ما أزحنا جانبا الاقتضاب والإيجاز، فإننا نحتاج إلى متخيل غني وقابل للتجريب: لا يتطلب الأمر فكرة وحيدة بارتدادات كثيرة، وإنما أفكار كثيرة مستقلة لا تتردد سوى مرة وحيدة".
من بين الأسماء التي ضمتها المختارات الفرنسي فيليكس فينيون "1861 ـ 1944"، والروائي أرنست همنجواي "1899 ـ 1961"، والشاعر والمسرحي النمساوي توماس برنهارد "1931 ـ 1989"، والروائي والقصاص الأرجنتيني الفرنسي خوليو كورتاثار "1914 ـ 1984"، والأسباني رامون غوميز دولا سيرنا "1888 ـ 1963"، والألماني إلياس كنيتي "1905 ـ 1994"، والهنغاري فريكي كارينتي، والبلجيكي فنسان بسطه، والأميركي فرنسيس سكوت فيتزرالد، وفرانز كافكا، وجان بول جيرو.
نماذج
** الكاتب الفرنسي فيليكس فينيون
ـ سقطت في الماء، أرتمى لينقذها، فاختفيا
أقدمت كل من السيدة "فورنييه" والسيد "فوزان" والسيد "سبيتاي" على الانتحار:
نهك عصبي، عصبي، وبطالة.
ـ في أحد المقاهي، بشارع فونتين، تبادل "فوتور" و"لونوار" و"أتانيس" بخصوص زوجاتهم الغائبات، بعض الأعيرة النارية.
ـ النوم في عربة القطار كان قاتلا بالنسبة لـ "إميل لوموتان" من مرسيليا، كان مضغوطا على بوابة المركبة، بمجرد انفتاحها سقط.
ـ ببلدة ميركور أطلق النساج "كولا" رصاصة على رأس الآنسة "فليكنجر" وعامل نفسه بنفس الصرامة.
ـ السيدة "بارتيني" من بيزيي، الأرملة "لأنه سبق لها أن قتلت زوجها". قد مزقت برصاصة أنف "رفيني"، "رجل؟"، قالوا "كلب" أجابت. 
ـ "لوفلوش" و"باطاي" و"بيسنار" لم يتمكنوا من جمع سوى كيلومترين من الخطوط الهاتفية، بالقرب من أتيس، حينما تم اعتقالهم.

مرارة الأحلام تركته منهكا عند استيقاظه. ثم ما أن ينصرم نهاره بالتتابع، حتى يستعجل بصرخات كبيرة النعاس، إلى سقوط الظلام

** الكاتب الأميركي فرنسيس سكوت فيتزرالد
ـ جسده الطويل والنحيف، وروحه الصغير التائهة في الكون، كانا جالسين هناك على حافة النافذة في غرفة الاستحمام.

** الكاتب الروائي فرانز كافكا
حديثا، عشت قصة حب. كنت جالسا تحت الشمس في حديقة النباتات.. حينما مرت بي جماعة من التلميذات. كانت بينهن واحدة كبيرة، شقراء جميلة، ومتحررة، التي ابتسمت لي بغنج، وفتحت فمها الصغير وأرسلت لي كلاما. بطبيعة الحال، أجبتها بابتسامة جذابة إلى أبعد حد، وأيضا لما التفت نحوي وزميلاتها، عدة مرات. إلى الحين الذي أدركت فيه ما قالته لي: "عبري"، كانت قد قالت لي.
 حينما أعود إلى بيتي
أية قوة اعتقاد راسخ غير منتشرة بعد الإعصار؟ مزايا تخصني وتلزمني، صحيح أن يقال إنني لا أسعى في مقاومتها. أسير بخطى ثابتة، إيقاعي هو إيقاع كل هذا الجانب من الشارع، إيقاع الشارع بأكمله، إيقاع الحي كله. 
أنا بحق مسؤول عن الضرب على الطاولات بالقبضات، عن قرع الأبواب، ورفع الأنخاب، عن كل العشاق، فوق الأسرة، تحت سواري العمارات في طور البناء، عن المحصورين لصق الحيطان في الأزقة المعتمة، على فوتيلات المواخر.
حين َأزن ماضيّ وأقدر مستقبلي، أجدهما جيدين دون أن أفاضل بينهما، لا ألوم سوى جور القدر الذي دفع في بهذا الشكل. وما إن أدخل غرفتي حتى أحس بأن ذهني أقل تشويشا، في حين أنني، وأنا أصعد درجات السلم، لم أجد شيئا جديرا بأن يشغل أفكاري. لا أجد مسليا إزاحة ستائر النوافذ وأيضا الاستماع بعض الشيء إلى الموسيقى في خلفية الحديقة.

** الكاتب الإسباني المعاصر جاك فوينتيلبا
عندما يسقط الظلام في هذا النصف من الكرة الأرضية، كان الليل قد أرخى أرديته السوداء منذ أسابيع، كما يبدو، ليعسكر إلى الأبد.
من الجانب الآخر، يُروى أن البشر كانوا قد أتلفوا عدسات عيونهم من فرط التحديق في السماء. كانوا يفرون إلى الظل، يبقون لابدين بدلا من أن يواجهوا هذا النهار اللاينتهي.
الناس من هذا المكان، كانوا يرهقون أنفسهم للعثور على أيسر شعاع شمس، يتأسون ما جازلهم، يتشربون النجم العلوي من خلال أجهزة التلفاز، شاشات السينما. يبحثون في عيون جيرانهم عن أيسر بصيص نور، الذي سرعان ما سيخمد. بمجرد أنه قد انتهى من نهش أفئدة ساكنة نصف الكرة الأرضية ذاك، امتد الظل إلى الجانب الآخر. لافتا انتباه ساكنة الجزء الذي لا يزال يضيء من العالم إلى ذكرى الليل. إلى حين أن لا يبقى على الأرض سوى الظلمات.
ظلمات وصمت.
ـ لا أومن بالأشباح، صرخ الجد في وجود أفراد أسرته المتطيرة، محركا سلاسله.
ـ لن يفوت الفرصة لإلقاء تلك النكتة الطريفة على زوجته، بمجرد أن يبلغ الضفة الأخرى. لازال يقهقه من وقعها على نفسه. مع أنه كان متقدما كثيرا في السن ومصابا بمرض القلب، لم يكن يفكر أن بإمكان المرء أن يموت من الضحك تماما. مثل ماذا...
ـ لم يكن يعرف بعد بالضبط كيف ستكون نهاية العالم، لكنه كان يعمل على نحو تكون فيه هذه النهاية كألعاب نارية رائعة.
ـ مرارة الأحلام تركته منهكا عند استيقاظه. ثم ما أن ينصرم نهاره بالتتابع، حتى يستعجل بصرخات كبيرة النعاس، إلى سقوط الظلام. هناك، في دفء الأغطية يعيش مشاهد غربية، التي سيزيل معناها العميق استيقاظه المقبل.