أندريه جيد بين الجزائر وتونس

الروائي والمفكر الفرنسي يقدم نصا رائعا لرحلاته إلى شمال أفريقيا قبل نحو قرن من الزمن برؤية كلية يلخصها بقوله 'يجب تذوق الصحراء لفهم ما معنى الثقافة'.

قام الروائي والمفكر الفرنسي أندريه جيد (1869-1951) في مقتبل حياته برحلة إلى كل من تونس والجزائر، كان لها تأثير كبير على مسيرته الأدبية، فبعد أشهر أمضاها في الصحراء والواحات وعلى شاطئ البحر، عاد إلى باريس ليكتب روايته "اللاخلاقي" مستلهما أجواءها من رحلته للبلدين.

"يجب تذوق الصحراء لفهم ما معنى الثقافة"، هذه هي الرؤية الكلية لرحلات أندري جيد إلى شمال أفريقيا، إلى تونس والجزائر على وجه الخصوص، وهو يقول هذه الجملة، يقدم هذا النص الرائع "رحلة إلى الجزائر وتونس" الذي ترجمه محمود عبد الغني وصدر عن دار خطوط وظلال. لقد التقى جيد وتأمل في رحلته وخلال تجوله المدن والقرى والصحاري وانغمست أحاسيسه بكل شيء تقريبا، الناس والحيوانات، العيوب والمحاسن، لكنه لم يبد أي نبرة احتجاج أو تأفف؛ الرحالة نظرة تأمل وشغف بكل ما يشكل ثقافة الآخر.

تونس 1886

ذات ربيع، منذ ثلاث سنوات خلت، كان مجيئنا إلى تونس رائعا. كانت مازالت مدينة كلاسكية جملية، رغم تشوهها بالشوارع الكبرى التي تخترقها، مدينة متسقة ومتناغمة. بيوتها البيضاء تبدو كأنها مضاءة في الليل بحميمية، مثل فوانيس مرمرية. ما إن غادرنا الميناء الفرنسي، لم نعد نر شجرة واحدة. بحثنا عن الظل في الأسواق الكبيرة المقببة أو المغطرة بالقصدير والخشب، لا يخترقها إلا ضوء منعكس يكللها بجو خاص.

تكشف هذه الأسواق التحت أرضية عن مدينة ثانية داخل المدينة. شاسعة كما لو أنها ثلث تونس. لا نرى من فوق السطح، حيث ذهب "ب.ل" ليرسم حدود البحر، باستثناء درج أسطح تقطعها ساحات تشبه حفرا يتوارى فيها ضجر النساء. في الليل يصبح اللون الأبيض بنفسجيا، والسماء تصبح بلون هو مزيج من الوردي والأخضر. وفي الصباح يصبح الأبيض ورديا في سماء بلون بنفسجي خفيف. لكن بعد أمطار فصل الشتاء، تنبت أعشاب في الحيطان، يغطيها زبد أخضر فتظهر حواف الأسطح مثل سلة أزهار.

لقد تأسفت على تونس البيضاء، الجدية، الكلاسيكية في فصل الربيع، التي تدفعني إلى التفكير، في الليل، وأنا أتجول في شوارعها المنظمة، في هيلين يتجول فاوست الثاني في ممر مقبرة، والفانوس الزجاجي في اليد". يغرسون أشجارا في الشوارع وفي الساعاات، ستزداد تونس جمالا، لكن لا شيئ يمكن أن يشوهها، منذ سنتين كان شارع "مار" وساحة "الخرفان" مجهولي الوجهة، ولم يكن للشرق الأقصى وأفريقيا الأكثر سرية، كما أعتقد، أي طعم غريب أو مذهل. شكل الحياة مختلف حيث كل شئ ينجز في الخارج، حياة جد ممتلئة، قديمة، كلاسيكية، ثابتة. ليس هناك أية تسوية بين حضارات الشرق وحضارتنا التي تبدو بشعة، خصوصا عندما تروم الإصلاح.

أندريه جيد
الرحالة نظرة تأمل وشغف بكل ما يشكل ثقافة الآخر

بـسـكـرة

وصل جيد الجزائر عام 1893، واستقر به المقام في مدينة بسكرة للعلاج من داء السل، حيث وثّق انطباعاته عن رحلته لبسكرة، يقول "كنا بالأمس داخل الحدائق، كنا نتبع الممرات التي قادتنا في البداية إلى "نمسيد"، ثم إلى باب الدرب، وصلنا إلى القلعة العتيقة فدخلنا عبر سيدي بركات، كانت النزهة طويلة أتبعت "م" كان عثمان في رفقتنا. كان معنا "ر" والعربي أيضا شربنا القهوة في مدخل "نمسيد"، أمام بطن "الوادي" و"لاليا" وجبال "الأوراس". لم أحبب هذا المشهد الطبيعي، مثلما أحببت جانبها الآخر حيث الامتداد الشاسع للصحراء.كان العربي الذي يلعب معنا الدومينو، غشاش ولطيف، كنت أنتظر "جيمس" بنفاذ صبر لذيذ. الأرض هنا تتكلم لغة مختلفة، لكنني أفهمها الآن.

في الليل كنت أكتفي بإغلاق مصراعي النافذة، فتدخل كل أصوات الخارج، وفي كل صباح كانت توقظني قبل الفجر، فكنت أذهب إلى حافة الصحراء لأرى شروق الشمس، في تلك الحظرة كان يمر قطيع "لصيف"، المكون من ماعز الفقراء الذين لايملكون مرعى يوكلون إليه ماعزهم كل صباح. فكان "لصيف" يجلبهم إلى الصحراء للرعي. كان ينتقل مرن باب إلى باب وهو يطرق، قبل الفجر، فو فكانت الأبواب تفتح وتخرج نحوه بعض الماعز.وعندما يغادر القرية تكون في حوزته أزيد من ستين رأسا.

يذهب بها إلى الجميع بعيد جدا، نحو النبع الدافئ، حيث ينبت الجعفيل والفربيونات، كان في رفقته تيس كبير، يصعد فوقه أحيانا عندما تتبعه الطريق، وكان أيضا يتسلى به لأنه لم يكن يعرف العزف على الناى. ذات صباح ذهب دون أن يمر أمام نافذتي، فالتحقت به في الصحراء.

أحب الصحراء حبا لا حد له. في السنة الأولى كنت أهابها بسبب ريحها ورملها، ثم، وفي غياب أي هدف، لم أعد أعرف التوقف فكنت أتعب بسرعة. كنت أفضل الطرق الظليلة تحت النخيل، حدائق الوردي، والقرى. غير أنني في العام الماضي قمت بجولات كبيرة، لم يعد لي هدف آخر غير اجتناب رؤية الواحات. كنت أمشي وأمشي إلى أن أشعر في الأخير شعورا قويا بالوحدة في السهل. حينئذ أبدأ في النظر. كان للرمال ظل مخملي عند منحدر التلال، في هبوب كل ريح يوجد حفيف رائع، بسبب الصمت الكبير يسمع أدق الأصوات. أحيانا كان ينطلق نسر من التل الكبير. من يوم إلى آخر كان يبدو لي أن هذا الامتداد الرتيب يتضمن تنوعا خادعا. من يوم إلى آخر كان يبدو لي أن هذا الامتداد الرتيب يتضمن تنوع خادعا".

موسيقى الزنوج

بـسـكـرة تثيرنا أصوات الطبل الزنجي، الموسيقي الزنجية! سمعتها أكثر من مرة في العام الماضي! أكثر من مرة استيقظت لأتابعها! ليست هناك نبرات نبرات، فقط الإيقاع. لا وجود لآلات نغمية، لاشيء غير آلات الدق. طبول طويلة والطمطم والأجراس.. الأجراس تحدث بين أيديهم صوت مطر غزير. ثلاثتهم يعزفون قطعا إيقاعية حقيقة. إيقاع فردي يتم كسره بنبر غريب يذهل ويثير كل نبضات اللحم البشرية. هؤلاء هم العازيون في المناسبات المأتمية، والاحتفالية والدينية. رأيتهم في المقابر رفقة الباكيات المترنحات. وفي مسجد بالقيروان يهيجون جنون "عيساوة" الأسطوري، رأيتهم يهيجون الرقص بالعصي والرقصات الصوفية في المسجد الصغير "سيدي مالك"، ودائما كنت الفرنسي الوحيد الذي يشاهدهم. لا أعرف إلى أين يذهب السياح أظن أن مرشدين. سياحيين معتمدين يهيئون لهم إفريقيا نفيسة حتى يريحوا العرب، أصدقاء السر والسكينة، من إزعاج اللحوحين. لأنني لا أصادف هناك أبدا أي سائح أمام شيء ذا قيمة. وحتى، من حسن الحظ في القرى القديمة، والواحات، التي أزورها كل يوم وأعود دون أن أزعجهم. رغم ذلك فالفناق مليئة بالمسافرين، لكنهم يسقطون تحت رحمة حشد كبير من المرشدين الدجالين، ويؤدون ثمنا باهظا في الحفلات المزيفة التي تنظم لهم.

أيتها الموسيقى الزنجية! كم مرة ظننت أنني سمعتك، بعيدا عن إفريقيا. وفجأة يتشكل الجنوب حولك من جديد. في روما أيضا، "فيا غريغوريانا"، تحضرين عندما تأتي الشاحنات الثقيلة في الصباح الباكر فتوقظني. على إيقاع وثباتها الخرساء على بلاط الشوراع، وأنا نائم، أسئ الظن، ثم أحزن لوقت طويل.

موسيقى الزنوج، سمعناها هذا الصباح، لكنها لم تعزف في حفل عادي، كانوا يعزف في حفل عادي، كانوا يعزفون في الفناء الداخلي لبيت خاص. بعض الرجال أمام العتبة أرادوا صدنا، لكن بعض العرب عرفوني فأمنوا لنا الدخول. فوجئت منذ البداية بالعدد الكبير من النساء اليهوديات المجتمعات هنا، جميلات جدا ومرتديات ألبسة فخمة. كان الفناء ممتلئا. بصعوبة بقيت مساحة مخصصة للرقص في الوسط. نختنق بالغبار والحرارة. شعاع كبير يلج من فتحة في الأعلى، يتدلى عبرها عنقود من الأطفال، كما لو كانت شرفة.

الدرج الصاعد إلى السطح كان أيضا مكتظا بالناس المنتبهين، مثلما سننتبه نحن بدور فيما بعد. في قلب الساحة يوجد حوض كبير من النحاس مملوء با لماء. نهضت ثلاث نساء، ثلاث عربيات، تجردن من لباسهن الخارجي من أجل الرقص، وسرحن شعرهن أمام الحوض، ثم، وهن مائلات، مددنه فوق الماء. الموسيقى، التي كانت مرتفعة، ازدادت ارتفاعا. تركن شعرهن المبلل يقطر فوقهن، ثم بدأن الرقص. كن رقصا وحشيا، مجنونا، و هو بالنسبة للذي لم يره قط، رقص لا يخطر على البال. زنجية عجوز تقود الرقص. كانت تقفز حول الحوض وبعصا تمسكها في يدها، كانت تضرب الحراف. بين الفينة والألخرى. أخبرنا فيما بعد، وهو ما بدأنا نستوعبه، أن كل النساء اللواتي يرقصن في ذلك اليوم (أحيانا يكون عددهن وافرا على مدى يومين) كن مسكونات بالجن، اليهوديات منهن أكثر من العربيات.