أيمن صادق بين سمريات وسمر .. وحلم النوارس

للصدق مظهران في أعمال الشاعر؛ مظهر راصد يلمس سطوح الصور، ومظهر يخترق العظام بألم ليصل إلى الجوهر.
أيمن صادق ينتمي إلى جيل له تجربته المعاندة في ساحة الشعر
في أعمال الشاعر نماذج مباشرة تقريرية تفتقر إلى الوهج الشعري وإلى الغوص إلى الجوهر بعيداً عن السطح

أمامنا الآن ديوانان صدرا في وقت واحد، يؤكدان خطوتين متتابعتين وإن كان المدى بينهما بعيداً بعداً كبيراً. ويبدو ذلك واضحاً من القراءة الأولى، ويبدو أيضاً أن الشاعر أيمن صادق عبر هاتين الخطوتين أراد أن يقف بالقارئ على تجربته بعناصرها التي بدأها متأرجحة، متوجسة شأن بداية أي تجربها، ثم يتلوها بتجربة أخرى مستوية، ممشوقة القوام، مؤكدة الملامح ثرية. هذا ما أحسسته من الديوانين: سمريات، وسمر وحلم النوارس، وأزعم أن (سمريات) تعبر عن تجربة حاول أن يجمع فيها شتات نفسه ونثار حياته، فجاءت بعض قصائده تنحاز إلى التقريرية والظرفية وبعضها الآخر تنحاز إلى الشعر المتدفّق المتوقّد بالحيوية. 
ولا بد أن أيمن صادق رغماً عنه ينتمي إلى جيل له تجربته المعاندة في ساحة الشعر، جيل أحترم فيه تجربته الجامحة التي تتمثل في تمرده على عطاء الأجيال السابقة عليه، وفي الوقت نفسه أرفض فيه مجرد نزعة التمرد بلا مشروع متكامل، وفي ظني أن سلاح التمرد له لونان دائماً، تمرد إيجابي يضيف ويتفاعل ويستفيد من إنجاز من سبقه من التجارب، ويملأ فراغ العصر والوجدان، وتمرد عشوائي يقوم على ثورة الشباب والصراخ الأجوف الفارغ من الفكر والإضافة. وكلا اللونين يأخذ مكانه في جيل أيمن صادق، لكن أيمن صادق كان واعياً ـ وهذا يُحسب له ـ لوظيفة الشاعر وخطواته المؤكدة فانحاز إلى إيجابية التمرد مستفيداً من تجارب الأجيال السابقة عليه، إنه يعزف على محاور الحب والغربة والحلم، وهي وإن كانت المحاور نفسها التي عزف عليها جيل الستينيات وجانب من جيل السبعينيات، لكنه يحاول دائماً أن تكون له رؤيته الخاصة حينما يتعامل معها.

المعجم الشعري لدى أيمن صادق ظل متأرجحاً بينه وبين الآخرين في ديوانه الأول حتى قارب على الاستقلال والتفرد في ديوانه الثاني

إن من واجبنا أن نعترف للشاعر بالصدق في تجربته الشعرية وإن كان للصدق لديه مظهران، مظهر راصد يلمس سطوح الصور، ومظهر يخترق العظام بألم ليصل إلى الجوهر، وتكثر الصورة الأولى في ديوانه الأول، على حين تكثر الصورة الثانية ـ بحكم خبرته الشعرية ـ في الديوان الثاني.
إنه يقول في ديوانه الأول مثلاً:  
ما للدموع أناديها فتعصاني
والهف نفسيَ مَنْ يغتال أحزاني
أينّ المفرّ وهذا الحزن يعصرني
أين المفر، وهذا الكبر سجّاني 
أو يقول:
إذا ما الليل يطويني
وأرحل في متاهاتي
تلومين الذي أبُدى
وتخشين انفعالاتي
فعذراً مهجتي أني
شقي من خيالاتي
فَديني في الهوى روح
وليس الجسم غاياتي
أو يقول في الإسكندرية:
كم من طغاة قد غواهم مجدُها
كم من كريم صاح هبوا نفتدِ
لكنَّ لومي في القصيد أسوقه
للأهل لم يحموا جلال المعبدِ
يا كعبة حجَّ الجمال لركنها
حسب افتخاراً أن أرضك مولدي
 إلى آخر هذه النماذج المباشرة التقريرية التي تفتقر معظمها إلى الوهج الشعري وإلى الغوص إلى الجوهر بعيداً عن السطح، أما الجانب الإيجابي الذي يقف على مشارف هذا الوهج فنجده أيضاً في ديوانه الأول بصورة ملحوظة، هذه مثلاً قصيدة "امرأتي .. وأنثاه"، وهذه القصيدة تحكي تجربة إنسانية طريفة، تجربة جديدة حقاً تجسد الحيرة الإنسانية بين الحلم الذي يمتلئ به قلب الشاعر، والواقع الذي لا مفر منه. والجديد في هذه التجربة أن الشاعر يقع بين طرفيهما وكأنه بين فكي الرحى فكلا الطرفين مُرُ في حلاوته صعب المنال، يقول مثلاً:
"هي الحلم الأسير/تحط على نوافذها عصافيري/تنقّر في زجاج الغيب/تشرخها انهزامات النبوءات/وليل خلف أسئلة / يعري سوءة الغافي على وجع الإجابات".
لقد أصبح الغيب زجاجاً شفافاً لأنه حقيقة بين يديه ماثلة بالهزيمة والنبوءات المحبطة وصار الليل أسئلة مدببة عارية إذا أجاب عليها أصيب بالوجع. 
كان لا بد إذاً أن نبحث عن خلاص من هذه الحياة، هل تكون في شكل مقامرة وأكاذيب ملونة؟! لو فعل ذلك لوجِه بحقيقة قاتمة، إلا أنه سرعان ما تتجسد أمام عينيه الألوان بلا زيف وتصاب أغنيته بالنزيف وتشتعل جذوة الحرمان في داخله، ماذا يمكن أن يفعل هذا العاشق الحائر؟! إنه يعيد إلينا عصر العاشق القديم (أمارسها على وجع القصيدة حين تنتحب/يمارسها على حرث الملذات/وحين يشي إليَّ النجم بالتفاح يُغتصب/أسائله/ لماذا يهدأ الغضبُ) تلك هي الصورة المتناقضة التي تنسحب بالضرورة على إنسان العصر وحيرته في مواجهة تناقضات العصر والقضاء على إنسانيته.
وقد استطاع أيمن صادق أن يصور قدر الإنسان من خلال تجربة ذاتية تتجاوز ذاته الخاصة إلى الجماعة والإنسانية، وركب الشاعر هنا جواد أحد البحور الشعرية المعاندة المراوغة فعانده قليلاً ولكنه استطاع أن ينتصر عليه كثيراً.
ومن القصائد الجميلة التي تؤكد قيمة الوفاء قصيدة "الأميرة تنتظر" التي كتبت عن عاطفة صادقة لأستاذه الشاعر الكبير عبدالمنعم الأنصاري، يقول فيها: 

Poetry
تجربة مكثفة تحمل الحكمة والدهشة معاً

وكم توضَّأ في عينيكِ محترقاً
فاقتاتَ أنَّتَه وأستمرأ الجمرا
ولم يكن شهده من روض غانية
ناموا بمخدعها فاستحلبوا الزهرا
أو قصيدة "وما قتلوه" التي يقول فيها:
إن تصلبوه فإني لست أرثيه
فلن يموت ومن نزفي أغانيه
إني بريءُّ إذا اغتلتم مواسمه
وإن كفرتم بنور جاء يهديه
فإن قتلتم نشيداً جاء يحمله
فألف أغنية تنمو على فيه
أما قصيدته "عندما تتساوى الأشياء" فهي تجسد ظاهرة الحزن عند الشاعر، هذه الظاهرة التي جردت وراءها اليأس والأسى وربما الموت، وهي تمثل القصيدة المكثفة في التعبير والصورة والتي يقول فيها:
أمضى ومصباحي بلا زيت
أمضى .. أتوه في مسافاتي
في الصدر شرخ من يداويه
في البحر صمت أين موجاتي
مُهري قضى والسيف من خشب
والعنتر المهزوم مأساتي
والليل زنديق يحاصرني
كيف المفر بكبر دمعاتي 
فعلاً .. عندما تتساوى الأشياء وتنعدم المسافة بين طرفي الفعل والقدر، تُرى ما الذي يبقى؟! ينطفئ المصباح وكأنه يخلو من الزيت، وينشرخ في الصدر، وكأنه يعاني وجعاً بلا شفاء وتهرب موجات البحر، ويموت المهر ويتحول السيف إلى خشب دون كيشوتي وينهزم عنترة، إنها تحولات تأتي من داخل الشاعر نفسه، من داخل نظرته ورؤيته وتجربته هو.
ومرة أخرى نجد أنفسنا نتوحد مع هذه القصيدة خاصة في لحظات الإحباط واليأس ونشعر أنها تعبر عن أي تجربة متشابهة نفقد معها الحلم، ونشعر بالغربة عن هذا العالم ويتعذر الخلاص. ولقد ساق لنا الشاعر هذه الدراما الذاتية في بساطة تكاد تصل إلى العفوية، لكنها تبتعد عن التقريرية كثيراً لأنها منحوتة من ذاته، مشحونة بالصراخ الداخلي، وبالإحباط العميق، وبالصمت الذي يعلو دخانه، وكأنه ناتج عن جمرة مشتعلة في النفس، وهذا هو سر الصدق وسر التواصل مع هذه التجربة الحية الإنسانية.
أما قصيدته البديعة "طيَّرتُه" فهي قصيدة أو قصة شعرية قصيرة، أنها تحكي موقفاً لخصه في أول سطر (طيَّرتُه .. ونزعتُ عن عنقي حبائله/فماتْ) ثم أخذ يحكي لنا الأحداث أو عناصر الموقف في صورة تلغرافية حذف فيها كثيراً من التفاصيل تاركاً للقارئ تخيلها، أو ملء فراغاتها ليعود مرة أخرى ليكرر السطر الأول وليغلق القوسين على عناصر الوقف. وأرى أن أيمن صادق قد بلغ في هذه القصيدة المكثفة قمته، ويؤكد لنا بها أنه قادر على نقلنا إلى عالم من الحكمة والتساؤل والاستفزاز والدهشة.
***
أما ديوانه الثاني "سمر .. وحلم النوارس" فنلاحظ أننا أمام شاعر شحذ أدواته بحق فاستوى عوده ونضج فكره وثقف وجدانه بحيث استطاع أن يجذبنا إلى عالمه وهو الحائر أن يكون له صوته الخاص متخلصاً من التأثيرات المختلفة في عوالم الآخرين ولنتخيل نورساً يحلم، تُرى بماذا يحلم النورس؟! إنه يحلم بأشياء كثيرة في رحلته الطائرة دائماً ولنقرأ بعضاً من أحلامه (فإمّا أكون .. وإمَّا أكون/وإمَّا يكفنّ عمري العفاء) أو يقول (أزيلي غبار الطريق/وملح الموانئ/نزف السنين/فقد تمنحين شتاءات عمري فصولاً جديدة .. فإن المغني/ يرتّق بالانتظار نشيده).
أو يقول: (فالهوى عندي جنون واقتحام/حاولي أن تفهميني كي تكوني/غيّري كل الموازين بفكري/غيّري شكلي ولوني غيريني/فجّريني وأنثريني كالشظايا/ثم عودي من جديد واجمعيني).
أو يقول: (سئمت الصلاة بهذي الطقوس/ فكل القرابين أضحت رياء/ دعيني أحبك نوراً وناراً/ وكوني بقلبي جميع النساء/ دعيني أفجر فيك جنوني/دعيني أحبك كيف أشاء).
أو يقول: (قدر أنت واحتراقي وبردي/ وانطلاقي إلى الحياة وقيدي).
بل يقف بتجربته في القصيدة التي عنونها باسمه (إنّه أيمن صادق/ يمتطي صهوة أوجاع القصيدة/ وعلى خاصرة الحرف/ يشد الحزن/ والعمر الذي خان قيوده).
(إنه أيمن صادق/ يصطفي فاطمة والشعر/ في كل صباح/ يرتدي عمراً جديداً/ وإذا ما عاد في الليل/ تراه يخلع الموت/ ويهديها نشيده).
(إنه أيمن صادق/ شاعر ما زال يحبو للحقيقة).

أيمن صادق قد بلغ في هذه القصيدة المكثفة قمته، ويؤكد لنا بها أنه قادر على نقلنا إلى عالم من الحكمة والتساؤل والاستفزاز والدهشة

وأعتقد أن أيمن صادق هنا هو كل شاعر على وجه الأرض، فالشاعر دائماً يحبو للحقيقة في تأمل وحلم وإحساس شفيف بمأساة الإنسان.
تلك هي أحلام النورس الطائر، لا يريد الأرض بل يرفض القيد، يقتحم الصعاب من أجل فضاء لا حدود له، ومواجهة لعجز الحروف، وخطوات لعواصم مجهولة يريد اكتشافها لأنها حُبلى بالجنين المنتظر، لهذا امتزج الحلم عند الشاعر بكل عناصر الشوق الصخري، إنه حلم مستحيل، لكنه في اقتحامه لهذا المستحيل مسلح بالشعر والحب معاً.
ولا بد أنه في خطى الاقتحام والانتظار يؤكد إنسانية الإنسان الذي لا يستسلم بالهزيمة ولا يفرح كثيراً بالفوز، ومن ثم يصاب بالأرق السرمدي (جسد .. وثنْ/ وثنَ .. جسدْ/ وثنَ .. وثنْ/ أطعمتُ محرقتي هزيمتنا / وتبغَ الانكسار/ لكي أنامْ) إنها في رأيي من أكثر القصائد تكثيفاً وحكمة وواقعية، لأنها ترسم لنا حيرة الإنسان ومأساته وإحباطه وعجزه عن السيطرة على أحبابه، تلك التي تصيبه دائماً بالأرق. إن الأرق هنا وثنُ إنساني يصيب كل مقتحم متمرد ويصيب كل فارس يجرؤ على اقتحام كل الثوابت في محاولة لتحريكها ولو كلفه ذلك عمره (ويمضي السفينْ/ بعشرين عاماً وخمس عجاف أسنبل حين تجوع النوارس/ قحط السنينْ/ وعمراً طوته فصول الجفافْ).
ثم يقول: (وفي كل حينْ/ يرتق قلبي الحزينْ/ ثقوب الشراع/ ويكبح بالأغنيات/ جموح العواصف حول القلاعْ/ فأمضي/ ويبقى السفينْ).
***
هي إذن رحلة شاعر عاشق مجذوب مدفوع حالم للتغيير مقتحم لكل صعب محلّق كالنورس، تمنى لو أن له جناحيه يظلان في الآفاق بلا عودة، بلا عودة للرمل ولسواد الأرض.
 وهناك أمر له أهميته في هذه التجربة، ذلك أن الشاعر ليس وحيداً في هذا الاقتحام، فإن سيفه الحب وجواده الصدق ورفقته سمر، لهذا فإن عناصر إنسانية الإنسان تجتمع في قبضته وفي قلبه وفي عقله جميعاً، وأظن أنها عناصر تجعل من الشاعر شخصية مجتازة متجاوزة طموح.
بقي أن أقول إن أيمن صادق جمع في شعره بين القصيدة العمودية والقصيدة الحرة، وجمع أحياناً بين اللونين في محاولة جيدة "طليقاً .. كيف أرسمه" أو استخدم بعض البحور المهملة النادرة في قصيدة "غاضبة" مما يؤكد رغبته الدائمة في التجريب والتحديث، على أن المعجم الشعري ظل متأرجحاً بينه وبين الآخرين في ديوانه الأول حتى قارب على الاستقلال والتفرد في ديوانه الثاني، أما قصائده فهي تتراوح بين الطول والقصر وأعتقد أن قصائده القصيرة سوف تغريه على اقتحام هذه التجربة المكثفة التي تحمل الحكمة والدهشة معاً. وأزعم أن هذا ما سوف نجده في دواوينه القادمة.
وأخيراً لقد استمتعت وسعدت بهذين الديوانين بالرغم من الملاحظات التي قد يختلف فيها معي الشاعر، لكن الخلاف لن يفسد للود جسراً.
لقد أحسست أننا بدأنا من خلال شعر أيمن صادق أصدقاء.