أين لبنان من حركة الأمم

جميع دول العالم تهيأت لإثارة قضاياها المصيرية والاستراتيجية والوجودية مع الإدارة الأميركية الجديدة، فيما المسؤولون اللبنانيون لم يشكلوا حكومة بعد.
ساسة لبنان يتصرفون كأن تأليف الحكومة استحقاق اختياري غير إلزامي
أكثر ما يقلق إسرائيل أن يحاول الديمقراطيون تعديل السياسة الأميركية تجاهها بغطاء يهودي
مني اللبنانيون بطبقة سياسية لا يهزها فقدان السيادة ولا يزعجها الانهيار الاقتصادي والاعتداء على الدستور

مع تسلم رئيس أميركي جديد، تتحرك جميع الـملفات الدولية كأن قطافها حان وحلها هان. هذه طقوس مألوفة تحصل كلما تتغير الإدارة الأميركية. فكيف والرئيس جو بايدن يعقب، هذه المرة، رئيسا (ترامب) عكر انتظام العلاقات الدولية، واختلف مع حلفاء أميركا قبل أعدائها، وخلط بين الديمقراطية والفوضى، وماثل بين الأمن والعنصرية، وربط بين التحالف والخــوات. وما ضاعف رهان الدول على الإدارة الأميركية الجديدة، أن الرئيس بايدن أشاع أجواء تسووية بعد أجواء التشنج الدولي التي رافقت عهد ترامب. لكن، هناك ملفات تستلزم حلولا جذرية لا تسويات، وحروبا لا مفاوضات. لا قيمة لحل يؤسس لمشكلة لاحقة، ولا فائدة من تسوية تفوح منها رائحة التنازلات. ونحن اللبنانيين، ندرك هذه الـمسلمات لكثرة ما دفعنا ثمنها بسبب السياسة الأميركية.

الخشية اليوم أن تدفع شعوب الشرق الأوسط، بمن فيها شعب لبنان، ثمن عدم وضوح الرؤية لدى الإدارة الأميركية الجديدة. قادة العالم الذين اتصلوا بالرئيس بايدن بعد انتخابه استنتجوا أنه حاضر للتفاوض المبدئي حول جميع القضايا من دون التزام مسبق بنتائج المفاوضات. إن التصرف عكس ما تصرف ترامب لا يكفي للنجاح. المعاكسة للمعاكسة لا تصنع استراتيجية ولا تبني قاعدة سياسية.

بين أركان الإدارة الأميركية الجديدة ومؤسساتها خلافات جمة حول شؤون الشرق الأوسط الكبير. منهم من يستعجل فتح الـملفات الخارجية عله يحقق ما لم يحققه أسلافه. منهم من يقترح حصر الاهتمام بالوضع الداخلي إلى حين الانتخابات الأميركية النصفية سنة 2022. منهم من يفضل التروي في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وربطه بسياسة إيران في الـمـنطقة وبأسلحتها البالستية. منهم من يؤثر الهرولة نحو إيران وعقد صفقة قرن معها موازية ومكملة تلك التي عقدت مع إسرائيل. منهم من يتمسك بالتحالف القديم والثابت مع دول الخليج والعالم السني من دون فتح ملفات حقوق الإنسان. منهم من يود طي صفحة الحرب في سوريا والتعاطي الواقعي مع نظام بشار الأسد. ومنهم من يرى في نشر الفدرالية، لا الديمقراطية، حلا لمطالب الشعوب العربية بالحرية وتقرير المصير. ومنهم من يعتبر صيغة لبنان إشكالية مزمنة يستحسن تعديلها في إطار اتحادي. إلخ...

من خلال هذه الخيارات الأميركية المزدوجة، تجد إسرائيل فسحة تحرك للتأثير على منحى السياسة الأميركية في الـمنطقة، خصوصا أن قادة الأحزاب الإسرائيلية، اتفقوا بعيد انتخاب بايدن، على فصل خلافاتهم الانتخابية عن قرار قومي يقضي بمواجهة أي تساهل أميركي تجاه إيران وأي إهمال لإنجازات السلام العربي/الإسرائيلي وصفقة القرن. أكثر ما يقلق إسرائيل أن يحاول الحزب الديمقراطي بقيادة بايدن تعديل سياسة أميركا تجاهها بغطاء يهودي، أي من خلال المسؤولين اليهود الكثر الذين عينهم بايدن في مراكز أساسية في الإدارة الجديدة.

لذلك، ما إن شكل بايدن فريقه حتى بدأت الدول والشعوب تتحضر لطرح قضاياها العالقة: الفلسطينيون أحيوا مشروع حل الدولتين، والإسرائيليون أثاروا صفقة القرن والتطبيع مع العرب والحالة الإيرانية، والإيرانيون تذكروا الاتفاق النووي والعقوبات والحصار عليهم، والأتراك استجمعوا أدوارهم في سوريا والعراق وليبيا ليقايضوا عليها. والروس جددوا معاهدة "نيو ستارت" للحد من الأسلحة الاستراتيجية، والصينيون حركوا إشكاليات التجارة الدولية، والأوروبيون وضعوا على الطاولة مصير حلف شمال الأطلسي ونسب الرسوم الجمركية، ودول الخليج العربي تستعد لمعرفة مصير التحالف المشترك. أما اللبنانيون فتوقعوا أن تتفضل أميركا وتثير معنا ملف الحكومة وترجونا أن نشكلها "ضمانا للسلام العالمي". غرور ما بعده سخافة وما بعدهما قلة مسؤولية.

جميع دول العالم تهيأت لإثارة قضاياها المصيرية والاستراتيجية والوجودية مع الإدارة الأميركية الجديدة، فيما المسؤولون اللبنانيون لم يشكلوا حكومة بعد. ربما يأملون بعقد مؤتمر دولي لجمع رئيس الجمهورية بالرئيس المكلف بعدما ضنى صوت البطريرك الراعي. البعض منشغل في عد الحقائب الوزارية وحساب الأثلاث، وفي "بـعـثـنة" النظام و"فرسنته".

إن أهل السياسة عندنا يتصرفون كأن تأليف الحكومة استحقاق اختياري غير إلزامي، ويتصرفون كأنهم فقدوا الاتصال مع الواقع، ويتناسون أن الشعب في سباق مع الوقت، بل مع اللحظة. قد تجد جميع القضايا الدولية الكبرى حلولا، وتبقى حكومة لبنان الصغيرة معلقة. وأصلا، إن الحكم اللبناني معزول وموضوع في حجر ديبلوماسي عربي ودولي لم يعرف لبنان مثيلا له في تاريخه الحديث. لذا بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأثار موضوع لبنان مع الرئيس الأميركي. ونسأل بعد لماذا قال ماكرون: "قادة لبنان لا يستحقون شعبهم"؟

نحن اللبنانيين نمارس في اللحظة ذاتـها لعبة الأمم وهي أكبر منا، ولعبة الأزقة وقد صارت أيضا أكبر منا. وبين الاثنين نغامر بالوطن ونكاد أن نخسره. البلد أصيب بوباء. سلطات لبنان الدستورية، مؤسساته الإدارية، وقطاعاته الإنتاجية، تتوقف الواحدة تلو الأخرى مثل جسم إنسان يفقد مناعته فتتعطل أعضاؤه تباعا.

ما يجري منذ سنوات قليلة - يكفي التذرع بالسنوات الثلاثين الماضية - يصعب تحديده بصفة واحدة: أهو انقلاب أم فتنة؟ حرب أم مؤامرة؟ ثورة أم انتفاضة؟ احتلال مقنع أم هيمنة سافرة؟ شيء من كل شيء بحيث إذا داوينا شيئا غفلت عنا أشياء. صعوبة التحديد لا تلغي سهولة إدراك النتائج: سقوط لبنان. ورغم ذلك، تواصل الطبقة السياسية التغاضي عن الواقع المأسوي وتقاربه كمن يمارس التزلج على أجساد الناس والسباحة في بحر دموعهم. لقد مني اللبنانيون بطبقة سياسية لا يهزها فقدان السيادة، ولا ينهرها هجرة الكرامة، ولا يزعجها اعتداء على الدستور، ولا يردعها انهيار اقتصادي، ولا يحرك ضمائرها نحيب وعويل.

وإذا كان الحكم غائبا أو مغيبا، فما الذي يمنع منتقديه، أحزابا وقادة، من أن يتحركوا نحو الإدارة الأميركية الجديدة ليضعوا لبنان على خريطة الاهتمام الدولي، وليطرحوا قضية لبنان كحالة قائمة بذاتها؟ الخوف أن نستفيق غدا ونرى جميع دول المنطقة، بما فيها إيران وسوريا، أنقذت رؤوسها، فيما نكون نحن أضعنا وحدتنا واستقلالنا.