إبداع سينما الرعب النفسي في 'الهاتف الأسود'

فيلم المخرج الماهر المتمرس والمتعلِّم جيدا فوق تعليمه فن السينما سكوت ديركسون يحافظ على إطار الرعب النفسي الهادئ والمتصاعد وشعور المقاومة ولذة النجاة.

مع أوائل المَشاهد في فيلم "The Black Phone" (الهاتف الأسود) يشعر المُشاهد بالاختلاف، ومع تقدُّم المُشاهدة يتأكد المُشاهد أنه أمام فيلم جدير بالنجاح، فيلم مصنوع بمهارة وحُسن اختيار. جعلته يحقق أرباحًا تربو على مئة مليون دولار فوق تكلفة إنتاجه.

مشكلة الأنواع الجماهيرية من الأفلام

تعاني بعض أنواع الأفلام من ضعف شديد في الإبداع. وأقصد هنا الأفلام الجماهيرية التي تُصنع للجمهور العام، وتهدف أولًا وأخيرًا للربح. وأبرز هذه الأنواع أفلام الكوميديا والرعب؛ فهُما على رأس قائمة الاستهداف الجماهيري الشعبي. ولأن هذين الصنفين يتمتعانِ بإقبال جماهيري ضخم تحرص بيوت الإنتاج الضخمة -وغير الضخمة- على إنتاج عشرات الأفلام كل عام منهما. بل هناك شركات تخصص كل جهودها لإنتاج أفلام الرعب مثلًا.

بسبب هذا الإقبال الذي يعدُّ ميزة؛ تعاني مثل هذه الأنواع من الابتذال العام والتكرار وإعادة الإنتاج للقصص نفسها. مما يصعِّب -وقتًا بعد سابقه- من مهمة صانع هذه الأفلام في الإتيان بجديد. فهو لا يواجه جمهورًا وشركة إنتاج؛ بل يضم إليهما تاريخ الفن نفسه الذي يقف منه موقف العداء.

وقد استطاع "The Black Phone" المقتبس من قصة بالعنوان نفسه، والذي ألَّفه بالاشتراك -مع سي روبرت كارجيل-، وأخرجه منفردًا المخرج الماهر المتمرس والمتعلِّم جيدًا -فوق تعليمه فن السينما- سكوت ديركسون؛ استطاع أن يتفرَّد، ويتغلب على مشكلة فيلم الرعب؛ الذي صار من النادر إنتاج عمل جيد وجديد فيه. ولهذا يستحق أن يتناول بجدية تليق بإنجازه. فما هو سر تألق الفيلم؟ هذا ما سأورده في السطور التالية باختصار شديد.

"The Black Phone" صنع مفاجأته الخاصة

إنها القاعدة الذهبية في الفوز؛ اصنع مفاجأة! فعندما تكثر المنافسة يجب أن تعلي سقف مغامرتك. وفي هذا الفيلم نطالع قصة الأخوين فيني (ماسون ثامس) وجويني (مادلين مكجراو) اللذين يعيشان مع أبيهما السكِّير؛ الذي دفعته ظروف انتحار زوجته المُستبصرة (أيْ التي ترى أشياء حدثت قبلًا أو ستحدث في حلم نوم أو حلم يقظة)، وتركها إياه مع الصبي والصبية إلى الانفعال والعصبية ومعاقرة داء الخمر.

يعيش الولدان في قرية هادئة، تبدأ تعاني من خطف الأطفال واحدًا بعد الآخر. حتى يأتي دور الصبي فيني الذي يُختطف من قبل الشرير (إيثان هوك) المهرِّج الذي يلبس السواد، ويركب شاحنة سوداء، ويترك بالونات سوداء في موقع اختطافه للأطفال. ثم تبدأ الأحداث وفيني مختطف في قبو واسع ليس فيه إلا حشوة نوم.

قد تبدو كل هذه التفاصيل عادية ومُكررة في أفلام الرعب؛ لكن هذا الفيلم صنع مفاجأته الخاصة. وأضاف إلى قبو الاختطاف هاتفًا أسود؛ هذا الهاتف غير متصل بشبكة الاتصالات العامة؛ أيْ أنه -بعبارة أخرى- مجرد خردة. لكن العجيب أن الهاتف يرن، والخاطف يسمعه وهو يرن؛ لكنه لا يعرف سر رنينه، ويؤول هذا الرنين بفعل الكهرباء الساكنة في الأسلاك. لكن الطفل فيني مع أحداث الفيلم يعرف أن هذا الهاتف الأسود هو طريقه للاتصال بأرواح زملائه في المدرسة الذين اختطفهم الشرير من قبل، وقتلهم.

تخبره الأرواح ببعض طرق الهروب والانتقام -الذي تكنُّه للخاطف-. كما تخبره بحقيقة ما يجري؛ حيث يترك الخاطف باب القبو وراءه مفتوحًا ليبدأ الطفل في محاولة الهروب؛ فيجد الخاطف مبررًا لمعاقبته حتى الموت. هذه هي لعبة الخاطف. وتمضي الأحداث في الإبانة عن مصير فيني، وهل سيستطيع أن يتغلب على خاطفه؟

الفيلم بهذا التشكُّل هو فيلم يتبع تصنيف الرعب، والإثارة، والخيال؛ لا الخيال العلميّ -كما يصف الكثيرون أي فيلم يحمل غرابة في تكوينه-. بل محض الخيال دون وصفه بالعلميّ. والخيال يتمثل في الهاتف الأسود الذي هو طريق للاتصال بأرواح من ماتوا في هذا القبو، والذين نشاهد أشباحهم في الشريط السينمائي.

"The Black Phone" أبدع في الاعتياد

القاعدة الثانية -بعد صناعة المفاجأة- هي أن تتقن عملك الاعتيادي. وكثير من الأفلام تصنع مفاجأة واعدة بجذب انتباه المشاهدين، لكنها تخفق في المهمات الاعتيادية -ارتكانًا على قوة المفاجأة- فتُفسد العمل كاملًا. لكن فيلمنا لم يفعل؛ فقد قام بمهامه بجودة وإتقان. صنع تعاطفًا منذ البداية، فجعل البطلين طفلين؛ ومعروف أن كسب التعاطف للأطفال أعظم ممن هم أكبر سنًا. كما أسَّس بعض تفاصيل حياتهما التي تميل للشقاء: الوالد السكير الذي يضربهما -رغم حبه لهما-، وتعرُّض فيني للتنمُّر في المدرسة من زملائه، الذي يصل إلى حد الإيذاء الجسدي الشديد، وشجاعة أخته جويني التي تدافع عنه أمام هذا التنمر بيدها ولسانها، وطِيبة الطفلين وبساطة حياتهما؛ فأقصى أحلامهما هو قضاء وقت أمام التلفاز مع بعض المُثلَّجات.

ثم وضع البطلين في خطين متوازيين: أحدهما داخل القبو يصارع الشرير مباشرةً، والأخرى خارج هذا القبو تمر بجواره في البلدة الصغيرة الهادئة؛ تحاول أن تستغل هبة الاستبصار -التي تتمتع بها أيضًا- في الوصول إلى أي معلومة تقرِّبها من نجاة أخيها. خطَّانِ لا يفصلهما إلا المكان؛ فهدفهما واحد، وكلاهما ساعد المُشاهد في تجربة الإمتاع في الرواية وصولًا إلى خط النهاية.

وقد اختار الفيلم تهميش الشرير؛ فلم يصنع له تاريخًا، ولا مبررًا لهذا الشر، ولا نكاد نعرف عنه شيئًا -إلا ما توحي به تصرفاته-. وهذا التصرف قد يعده الكثيرون عيبًا؛ لكنني لا أعده عيبًا دراميًا، بل اختيارًا فنيًا -طالما ظهر أنه اختيار فعلًا وليس فشلًا من الصانع-. وهذا التصرُّف في الدراما يُسطِّح الشرير، فلا يبقي له علاقة مع المشاهد إلا أنه تعبير عن الشرّ. ولعلي أتعجب من اختيار ممثل ماهر وقادر على الأداء مثل إيثان هوك وعدم استغلاله إلا في تعزيز شعور الشر، ودافعية البطل الطفل إلى الخلاص. لكنْ يبقى اختيارًا للصانع السينمائي.

ومن إبداعه في المهمات الاعتيادية استحضاره لسياق الأحداث الزمني، بدايةً من عام 1978؛ في التفاصيل كلها: المنازل، الملابس، أساليب الحياة. وقد استفاد مرات ببرامج أرشفية تلفازية حقيقية، بل استغلّ بعضها استغلالًا معنويًا لا مجرد تعبير عن زمن الأحداث. كما امتاز باختيار أقنعة الشرير التي لاءمتْ وجه الممثل، وبثَّتْ الرعب في المشاهد.

وعلى صعيد الموسيقى اختار أن يتدخَّل بها في الوقت المناسب وحسب؛ في لحظات الاختطاف أو لحظات النهاية. وكان غالبها لآلة الكمان وتنويعاتها. لكنَّ الأجمل هو إضافته لشريط الصوت الكثير من المكونات: أصوات ضحكات، وخبطات، وطنين طائرات، وطنين عجلات الدراجات الهوائية التي كان يركبها الأطفال المختطفين. لقد صنع شريطًا صوتيًا مميزًا وواعيًا.

تنفيذ صحيح لتقنية الحُلم

ومن أهم نجاحات الفيلم هو تنفيذه الصحيح لتقنية الحُلم؛ وهي تقنية سردية تستغل الأحلام البشرية في فعل الرَّوْي والحكي. وهي من التقنيات المنتشرة في الرواية والسينما؛ بل إن كثيرًا من أعمال المجالَيْنِ تقوم عليها بشكل كامل (يكون الفيلم أو الرواية كلها حلمًا). لكنّ غالب هذه الأعمال لا تنفذ الحلم تنفيذًا صحيحًا؛ فنرى في الحلم سردًا مستويًا متتابعًا واضحًا كل الوضوح، موصلًا لمعناه وغرضه. وهذا مخالف للحُلم؛ الذي يمتاز بالومضات السريعة زمنًا، التي قد تكون بطيئة داخليًا. وإذا أردت أن تقرأ تنفيذًا صحيحًا لتقنية الحلم روائيًا فاقرأ "أحلام فترة النقاهة" لنجيب محفوظ مثلًا، وبعض رواياته التي استعمل فيها هذه التقنية.

وفيلمنا هنا استغلَّ هذه التقنية في هبة الاستبصار عند جويني، ونفذها تنفيذًا صحيحًا. فجاءت الأحلام الاستبصارية في صورة ومضات متتالية لا تستمر إلا دقيقة أو أقل، ولا تكون واضحة كل الوضوح، بل غائمة تشير إلى الحقيقة ولا تدل عليها. ومن أبرع المشاهد تضفير هذه التقنية بعد حديث فيني مع أحد أرواح الصبية الموتى، وانتقاله لاستبصار جويني في اللحظة نفسها؛ فمن جهة يستغل التقنية في السرد، ومن أخرى يربط الحدث داخل القبو وخارجه لحظيًا من خلال الاستبصار.

متعة تكوين الكادر السينمائي

ولعل التميز الفيلمي لا يكتمل إلا بالحديث عن الصورة السينمائية في الفيلم. وقد أجبره على هذا سياق القصة التي اعتمد عليها. فأنْ تقضي حوالي ثُلث الفيلم في قبو بممثل واحد أساس، وممثل آخر يظهر في مشاهد، وممثلين مساعدين يظهرون نادرًا هو أمر يشكِّل معضلة لصانع الصورة السينمائية. كيف سيشد انتباه المشاهد؟ وما المميز والجميل في قبو مُعتم؟ والسؤال الأشد قلقًا بالنسبة للسينمائي: كيف أمنع شعور الملل في النفوذ إلى المشاهدين؟

كان الحل لكل هذه المشكلات هو صناعة صورة سينمائية ممتازة. وأنوه هنا على الدرجة اللونية للفيلم كله؛ فقد حافظ مدير التصوير "بريت جوتكيفيتش" على مستوى ألوان باهت طوال الفيلم؛ ليدخل المشاهد في جو القتامة والرعب قبل بداية الأحداث. لكن المهارة الأكبر للمخرج ومدير تصويره هي عنصر التكوين في الكادر السينمائي (محتوى الذي تراه أمامك وترتيبه وتنسيقه، مع الكادر الثابت والمتحرك)؛ الذي أبدع فيه صناع الفيلم.

ولننظر إلى مَشاهد القبو جميعها، وتكوين كادرها وسنرى كيف وقف الشرير وأين، وكذا الطفل البطل، وكذا الطفل مع بقية الأشباح التي تظهر، وتحركات الكاميرا في المشاهد وثباتها لصناعة كادر مميز. وساعتها سنكتشف أن أناسًا فاهمين واعين لجمالية الكادر الصحيح بل الإبداعي؛ من حيث تكوينه، ومن حيث ألوانه، ومن حيث إضاءته في ظل وجودنا في قبو مظلم ذي شبَّاك واحد يسقط منه الضوء. يا له من مجهود قاموا به!

لقد حافظ فيلمنا على إطار الرعب النفسي الهادئ والمتصاعد، وشعور المقاومة، ولذة النجاة. ومن أهمّ ما حرص عليه في النهاية مشهد معنوي يُظهر رئيس الشرطة في البلدة ومعه جهاز الشرطة، يتفاخر فيه الرئيس بكل "البطولات" التي قام بها "أبطال" الشرطة في حل جرائم الاختطاف التي روَّعت البلدة. ومن المعروف من سياق الفيلم أن الشرطة لم تفعل شيئًا، بل كانت حائرة بليدة كل البلادة. وهذا الملمح مقصود بالقطع من مخرج الفيلم، بل أنهى به الشريط لغرض معروف عن مَن هُم الأبطال الحقيقيون والأبطال الزائفون المُزيِّفون للحقائق أمام شعوبهم.