إستيقاظ ذاكرة خالد البوشي وإنبعاث لذكرياته اللاشعورية

عمل التشكيلي السوري ابن حماه مشحون بالطاقة والحركة غير ساكن وغير مستقر، ويخلق الكثير من السجالات إن كان في عالمه الداخلي بشظاياه المتناثرة ومحاولته في ترميمه كنوع من استيقاظ الذاكرة وانبعاث للذكريات اللاشعورية المرتبطة بثقافات مختلفة، أو كان في شكله الجمالي.

إذا كانت الموسيقا ترمز إلى شكل العاطفة الإنسانية، وتصوغ الحياة الإنفعالية للإنسان وتعبر عنه حسب تعبير سوزان لانجر ( 1895-1985 )، فإن الفن التشكيلي لا يقل عن الموسيقا بفعل ذلك، بل يضاف على ذلك بأنه الأكثر تعبيرية عن الذات، أسوق هذا القول وأنا بصدد قراءة أعمال خالد البوشي (1985- حماه)، الأعمال التي لا تهدف إلى التوصيل والتخاطب فحسب بل إلى إلتقاط ما يمكن إدراكه حدسياً، بل العمل الفني عنده تعبير عن هذه الحدوس، فهو يتعامل مع مفاهيمها من منطق علاقاتها مع جوهرياتها وكيفياتها بوصفها تفاعلات تتم داخل كل مستوى من مستويات بنية العمل الفني، فعمله مشحون بالطاقة والحركة، غير ساكن وغير مستقر، ويخلق الكثير من السجالات إن كان في عالمه الداخلي بشظاياه المتناثرة ومحاولته في ترميمه كنوع من استيقاظ الذاكرة وانبعاث للذكريات اللاشعورية المرتبطة بثقافات مختلفة، أو كان في شكله الجمالي ومصدره المتسم بالمرونة كنوع من الإمتلاك لحركات تثير تحولاته وما تمثلها من أحكام جمالية عميقة ومناسبة، فالتوقف عنده أقصد عند عمله يبدأ من اللحظة التي فيها يكشف عن نفسه، وبلغة الذات وحضورها، ولا نغفل عما تحمله من مجازات كل منها تحمل قراءة مختلفة، فعالمه كائن قابل لأكثر من قراءة دون أي شجب لمفرداتها، بل وكأنها برك مزروعة بالحلم المستغرق في سباتها، وحدها أصداؤها تدركنا بمحاورات توحي بإنسانيتنا التي تلفها الكثير من السقوط في دالها ومدلولها، التي بات الماء يهجرها بحكمة الآلهة، فتلك البرك يجب أن تجف ليموت الحلم عطشاً .

خالد البوشي يركز إنتباهه على مفاهيم غير تقليدية، على مفاهيم تساعده في السيطرة على تصنيفاته نفسها، لا بوصفها مصادفات مفتاحية للإعلان عن " سفر تكوينها " بل بوصفها سلسلة من الإشارات تأخذ على عاتقها وميض كل أثر لتولداتها، ويولي الأهمية في حقله بالكشف عن شكل منطوق لا يمكن إسكاته، ولا يمكن التنبؤ برباطة جأشه، فالإنشطار قائم لا محال، والإنفصال عن السياق العام كامن منذ الإشكالية الأولية، منذ بلورة العمل تخيلياً ثم سرده في نص / منتج السيرورة فيه تخمين عائم في مسار يصعب الدخول إليه دون ترددات قد تطفل على فضاءاته مهما أدخل السجال فيها، فهو يقدم مفهوماً بريئاً كأداة داخلية تحاكي تأملاته دون أي إستبعاد لرؤيته أو ما يغلفها، فهو يوزع حلوله التنفيذية بما يتناسب مع الفراغ في تشكيلاته، وبما ينظم علاقات الأبيض بالأسود وإن كان المتدفق منهما رماداً مسافراً في تفصيلات اللحظة، أو ضباباً منفعلاً يبرز خبايا الريح، أو دخاناً محتدماً بمرارة المشهد، بما يوحي بأشكال تغطي بؤر النص/المنتج ويمنحه ملامح شديدة الغموض تشتمل على الإدانة ومشتقاتها لكل التصادمات بترساناتها المشتعلة بالغضب والفوضى، والمتصدعة بالحضور بكل زهوه ونهوضه، فحين يبالغ البوشي في السواد تكون الحكاية داكنة وأشياؤها مطعونة بالدموع، أو بأمكنة تسمح بالجدل العقيم مع الكتل الخرساء التي تترك إيقاعها داخل تلك الأشياء بزخمها وبما ترسمه داخل ذاتها، فكيف لا تسقط من إنتماءاتها الحافلة أقدارها المشؤومة، وكيف لا تخرج من دوائرها المريرة ومن حواجزها التي تمتطي خطوط المغامرة أسرارها المشبعة بلهفة الغياب، وأصواتها السجينة بقلق المقدمات، وحكمة النهايات.

يشرع خالد البوشي بكل جرأة في تتبع أثر المجادلات بين المكونات الفاعلة في صيغه الساعية إلى التمايز، والمستغرقة في تقطيعات ضمنية تحمل من الذرائع ما يخفف من وطأة الرتابة عليه، ومن مستلزمات المجاورة، فهو لا يهمل الجمالي ولا يعارض مقاييسه لا الداخلية منها ولا الخارجية موضحاً أن المسألة هنا هي الوصول إلى حقول فيها من التناغم بقدر ما فيها من الإختلاف، فيها من التفخيم وكأنها تروى تلاوة بقدر ما فيها من الترقيق وكأنها رهافات صوفية، وتحريكها في دوائر زمكانية تجعلها في حالة نهوض حتى تغدو مفجرات إبداعية مفتوحة على مشاهد لافتة في مدرجات السواد وإستخداماتها من ولادة قيمها الجمالية إلى ولادة قيمها التعبيرية، تجعلها في حركة صعود بدءاً من المرتبط بعمليات البحث القابع في الحقب المركزية لألحان مساراته، والمرتهن لحداثة خاصة، إلى التعريض الضمني لكل مفصل من مفاصل منتجه وبأمانة نمطية يفصل جوانب طاقته في صورها المتحورة ويمنحها رؤية مناهضة لإغلاق مخيلة المتلقي، مكثفة تذهب به إلى جعل خياراته مفتوحة قد تأخذه إلى فضاءات أخرى مستخدماً كل وسائطه لضرورات بحثية تحسب له، فيعطي كل وقته لتجليات المشهد وما ستنشده من سرود بصرية تشكل بمجملها مؤشراته الملموسة التي لن يغيب عنها الإهتمام والإنتباه ولفت النظر لمدة طويلة.