إنهم يقاتلون الديمقراطية الزائفة بالديمقراطية الحقة

حكومة جاءت عن طريق صناديق الاقتراع لا يعقل أن تقوم بقتل الشعب الذي انتخبها. هناك خطأ في المعادلة. ولكن ما هو الصح في العراق؟

لن يزعج تزايد أعداد القتلى بين المحتجين الحكومة العراقية. بل قد يشعرها ذلك بالاطمئنان إلى أن خطتها في الترهيب تمضي قدما.

ولكن الحديث عن شرعية مستمدة من صناديق الاقتراع بعد كل هذا القتل لن يكون ممكنا. فحكومة جاءت عن طريق صناديق الاقتراع لا يعقل أن تقوم بقتل الشعب الذي انتخبها. هناك خطأ في المعادلة.

لا تملك الحكومة حجة مقنعة لاستعمال العنف ضد المحتجين.

حتى هذه اللحظة لم يهدم أو يحرق المحتجون مبنى. لم يعتدوا على أي من الممتلكات العامة والخاصة. لم ينهبوا محلا تجاريا واحدا. بالرغم من أن كل شيء في العاصمة والمدن العراقية الأخرى صار تحت أيديهم.

لا تملك الجهات الأمنية دليلا واحدا على أنهم حملوا عصا واحدة. خرجوا من بيوتهم إلى الشوارع سلميين وهم يصرون على البقاء كذلك بالرغم من أن الإصابات بينهم تجاوزت العشرة الاف إصابة.

لقد تصدوا للعنف الحكومي بالأغاني والمنشورات والسخرية الموجعة. سلاحهم الوحيد هو ايمانهم بوطنهم الذي خرجوا محتجين من أجل استعادته. ولأن الحكومة لا تفهم مثل ذلك الهدف التجريدي فقد عز عليها أن تخسر مليارات الدولارات التي كانت ستذهب إلى جيوب اللصوص.

يدرك الشباب أنهم يقاومون سلطة لا تفهمهم ولا يمكنها التعامل مع مطالبهم بإيجابية، ذلك لأنها لا تريد أن تفهمها. ما من لغة مشتركة بين صاحب البيت واللصوص المسلحين الذين سطوا عليه. فهم يفكرون بقتله إن لم يلذ بالصمت. ذلك هو الوصف المثالي لعلاقة الحكومة العراقية بالشعب.

لذلك كفت الحكومة العراقية عن الحديث المتملق عن الديمقراطية والشرعية. لقد صار واضحا أن هناك نظاما ديكتاتوريا قد قرر الدفاع عن نفسه بالقتل في مواجهة شعب ثائر.

تلك معادلة لا يمكن تغييرها. وهي معادلة استطاع الشعب العراقي بصبر عجيب أن يثبتها باعتبارها حقيقة تاريخية. ففي حال انتصرت الحكومة على الاحتجاجات عن طريق استعمال العنف فإنها لن تسترجع شرعية، كانت قد فقدتها. أما الديمقراطية فإنها ستكون في منأى عنها.

ما لم تفقده الحكومة العراقية عن طريق الاحتجاجات ستفقده حين تتمكن من فضها وهو أمر غير مؤكد. ذلك لأن العنف الذي تمارسه يزيد من سعة دائرة تلك الاحتجاجات.

ما من جهة في العالم سوى إيران يمكنها ان تؤيد استعمال العنف ضد المتظاهرين السلميين في العراق. تلك حقيقة لم يصرح بها أحد حتى هذه اللحظة للأسف.

ما يسبب للمحتجين الشباب شعورا عظيما بالقرف أن المجتمع الدولي لا يزال صامتا في مواجهة القتل المنظم الذي يتعرضون إليه. غير أنهم لم يُظهروا أي نوع من اليأس. كما لو أنهم كانوا يعرفون أنهم سيقاتلون وحدهم.

لقد كانت الوقائع على الأرض مناسبة بالنسبة لهم لاكتشاف حقيقة أن ما جرى لبلادهم عبر العقود الأربعة الماضية لم يكن عبارة عن سلسلة من الكوارث التي أفضت الواحدة منها إلى الأخرى بالصدفة، بل كان كل شيء مبرمجا لتنتهي الأمور تحت الولاية الإيرانية.

ذلك ما دفعهم إلى البدء باحتجاجاتهم من السطر الأخير فذهبوا مباشرة إلى هجاء المشروع التوسعي الإيراني الذي يكاد أن يبتلع بلادهم. من خلال ذلك الموقف الذي اُعتبر انتحاريا عبروا عن وعي سياسي متقدم، سعى المجتمع الدولي إلى عدم الخوض في أسبابه، ذلك لأن تلك الأسباب لا تزال غامضة وهي تتعلق بالضرورة التي دفعت الولايات المتحدة إلى تسليم العراق إلى إيران من غير مقابل معلن.

كل هذا يعرفه الشباب العراقي المحتج. مظاهراتهم كانت اختبارا للديمقراطية الزائفة التي فرضتها الولايات المتحدة من أجل استيلاء الأحزاب الدينية على السلطة. فكان أن دافعت تلك الديمقراطية عن نفسها من خلال القتل.

لا تملك الولايات المتحدة أن تقول شيئا دفاعا عن ديمقراطيتها في العراق. وهو ما يدفع المجتمع الدولي إلى الصمت.

وبالرغم من ذلك الصمت فإن الشعب العراقي استطاع أن ينزع ديمقراطيا عن النظام الحاكم شرعيته وهو ما سيؤكد مستقبلا أن ذلك الشعب الذي تعاملت معه الولايات المتحدة باستعلاء وفرضت عليه ديمقراطية زائفة يعرف أصول الديمقراطية الحقة.