الأدب المهجري ونزعته الإنسانية

غاية الأدب كانت أن يصل إلى البلاط مسبحا بحمد الحاكم آناء الليل وأطراف النهار لتحقيق مآرب شخصية.
الأدب المهجري خرج من رحم المعاناة مبشرا بعصر الخصوبة وبقيام طائر العنقاء من رماده صحيحا معافى
عولمة حولتنا إلى كائنات طفيلية مستقبلة ومستجيبة لكل المثيرات الواردة من الضفة الأخرى

حظي الأدب المهجري بعناية الدارسين ونقاد الأدب ولا يزال كذلك، ولهذا الأدب محبوه ومتذوقوه، فقد كان فتحا في أدبنا الحديث، فتح عيوننا على مباهج الحياة، وروعة المغامرة وإغراء الحرية، بعد أن ظل أدبنا أحقابا طويلة نائما في مغارة التاريخ مغمضا عينيه على مستجدات الحياة مكتفيا بالاجترار من الكتب القديمة، وكد الذهن لا في توليد المعاني البكر، بل في تنميق الكلام والولوع بالأسجاع واللهاث وراء التورية، وفي مباركة الأوضاع القائمة، وهي أوضاع مزرية تميزت بالركود الاجتماعي والتأسن الثقافي والاستبداد السياسي، وكانت غاية الأدب أن يصل إلى البلاط مسبحا بحمد الحاكم آناء الليل وأطراف النهار لتحقيق مآرب شخصية مضحيا بمصلحة الجماعة لحساب المصلحة الشخصية. 
خرج الأدب المهجري إذا من رحم المعاناة مبشرا بعصر الخصوبة وبقيام طائر العنقاء من رماده صحيحا معافى، وهو يحمل معول الهدم منقضا على سفاسف الماضي معليا صرحا جديدا من الأدب الخلاق المتميز بصدق الشعور ونزعة التجديد والغيرة على حاضر الأمة ومستقبلها متزودا من الثقافة العربية الأصيلة والغربية البناءة، مستفيدا من أرض ترعرع فيها هي الأرض الجديدة – أمييكا الشمالية والجنوبية – حيث للفرد قيمة وللعلم المكانة الأولى - إنها مجتمع الصناعة والتقدم والإبداع والرفاه المادي والمعنوي، وكل هذه العوامل مجتمعة وجدت صداها في عقول وضمائر وإنتاج أدباء المهجر الأدبي والفكري.
ونحن في هذا المقال راصدون لقيم إنسانية تضمنها الأدب المهجري تاركين القيم الأخرى كالجمالية والفكرية لمقالات أخرى، وإنه لحقيق بنا نحن ورثة هذا التراث الأدبي الضخم أن نتمثله كما يتمثل الجسم الغذاء صانعا منه نسغ الحياة وأسباب الحصانة وعوامل القوة خاصة ونحن نعيش في عصر تميز بالتطرف الديني والنزاع الطائفي وسيطرة الفكر العبثي السلفي أو العدمي التغريبي، خاصة ومجتمعنا العربي يحمل في ثناياه اختلافات مذهبية هي في الأصل مصدر ثراء له ولو أنه يراد لها أن تكون عوامل تصدع وفرقة، أضف إلى ذلك انفتاح العالم وتطور المعلوماتية في أرقى تجلياتها - أي الثورة الرقمية – وسيطرة المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات والتي غزت أسواقنا بمنتجاتها الغثة والسمينة، وما نحن في حاجة إليه وما نحن في غنى عنه والتي أدت في النهاية إلى تسطيح الفكر والشعور والجري وراء بريق الألفاظ دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن المضمون.

الأدب المهجري كان فتحا جديدا في حياتنا الأدبية والفكرية وهو ميراث فني وفكري وإنساني نعتز به

إنها عولمة حولتنا إلى كائنات طفيلية مستقبلة ومستجيبة لكل المثيرات الواردة من الضفة الأخرى، وكأن صرخة المهجريين في النصف الأول من القرن الماضي ذهبت أدراج الرياح، فقد عدنا إلى الدجل على حساب العقلانية وإلى الطائفية على حساب التسامح الديني وإلى التقليد على حساب الاجتهاد وإلى العبودية على حساب الحرية وإلى الشكلانية على حساب المضمون، وما أحرانا اليوم أن نعود إلى تلك القيم الإنسانية التي تضمنها الأدب المهجري وصدع بها وعاش لأجلها فهي التي ستعصمنا من الغرق في خضم الحضارة الحديثة. فما مجمل القيم الإنسانية التي تضمنها هذا الأدب؟ 
لعل أول قيمة من قيم الأدب المهجري هي التسامح الديني ولقد عبر عن هذا المعنى أبلغ تعبير الأديب اللبناني الكبير مارون عبود، وهو إن لم يكن مهجريا فقد تميز في حياته وفي فكره بهذه الخصيصة، خصيصة التسامح الديني قال عبود: "سميت ابني محمدا نكالا في أبي الذي أسماني مارون".
وإن كان فحوى هذه المقولة التأكيد على مبدأ العروبة فاسم محمد ألصق بالفكر والانتماء العربيين من اسم مارون، إلا أن العروبة والإسلام لصيقان ببعضهما البعض، لا يمكن الفصل بينهما، وهذا ما عناه كاتب عربي ماروني هو مارون عبود، وهو بذلك يؤكد انتماءه  لحضارة الإسلام، لقد كان شعراء المهجر وجلّهم من المسيحيين يعتبرون الإسلام بُعدا روحانيا وفكريا مهما في تكوينهم النفسي والعقلي فضلا عن كونه رابطة قومية لذا تراهم يذكرون الإنجيل إلى جانب القرآن ومحمدا إلى جانب يسوع في تآلف ومودة. قال الشاعر رياض المعلوف وقد كان مغتربا في البرازيل من قصيدة "الله والشاعر":
الشعـر في إنجيلنا وكتابنا ** والشاعران هما المسيح وأحمد
وأما الشاعر القروي رشيد سليم الخوري المغترب في البرازيل والذي عرف بنزعته القومية الحارة وغيرته على الأمة العربية وقد كرس شعره داعيا إلى الحرية والعزة، ها هو في صرخته ضد الباطل يدعو إلى الأخذ بأسباب القوة والتضحية في سبيل عزة الوطن مقتبسا عن القرآن الكريم معنى الآية الكريمة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، ولم تثنه مسيحيته عن الانتصار لهذا المبدأ القرآني يقول القروي:
أحبوا بعضكم بعضا وعظنـا ** بها ذئب فما نجَّتْ قطيعـا 
إذا حاولت رفع الضيم فاضربْ ** بسيفِ محمدٍ واهجـرْ يسوعا
ويصر الشاعر إلياس فرحات المغترب في البرازيل على انتمائه العربي فوطنه هو الشام والعراق وأرض الكنانة وأرض الجزيرة التي توحي في الوجدان العربي بظهور الدعوة الإسلامية وانتشار الإسلام، وهذا المقطع من أشهر ما انتشر من شعر المهجريين:
إنا وإن تكن الشآم ديارنا ** فقلوبنا للعرب بالإجمال 
نهوى العراق ورافديه ومــا على ** أرض الجزيرة من حصا ورمـال 
وإذا ذكرت لنا الكنانة خلتنا ** نروى بسائغِ نيلِها السلسال 
بنا ومازلنا نشاطر أهلهـــــــــــــا ** مـرّ الأسى وحلاوة الآمال
أما زعيم أدباء المهجر وكبيرهم الذي علمهم السحر جبران خليل جبران فقد تميز بتسامح ديني ظاهر في كتاباته وهو كصحبه يعتبر الاختلاف المذهبي في الشرق مصدر غنى، وما ذكر المعبد في كتاباته إلا ذكر الجامع وما ذكر الهيكل إلا ذكر المحراب ولو أن فلسفة جبران وموقفه من الأديان يختلف عن موقف صحبه إلا أن الجامع بينهم جميعا هو نبذ العصبية الطائفية والفرقة على أساس اختلاف الدين، فالدين لله والوطن للجميع .
وتسلمنا قراءة آثار المهجريين إلى اكتشاف خصيصة ثانية تنم عن نزعة إنسانية مكينة في أدبهم أصيلة في أنفسهم وهي الصفح حين الخطأ في حقهم مع الحب الخالص ولسان حالهم يقول مع المثل العربي: "إذا عز أخوك فهن". 
يقول الشاعر زكي قنصل المغترب في الأرجنتين:
أنا إن شكوت فدمعتي من جفنكم ** وإذا شدوت فصوتكم قيثـاري 
مرحى بني أمي لأنتم مفزعي ** في النائبات وأنتمُ  أظفاري 
في ظلكم نبتت  خوافي شهرتي ** وزها جناحي واستطار غباري 
ولإيليا أبي ماضي صاحب "الجداول" و"الخمائل" في هذا المضمار صولات وجولات وهو صاحب القصائد البديعة الداعية إلى الحب الإنساني والتحلي بآداب الاختلاف والاعتصام بمبدأ التسامح وهذه الأبيات خير ما ندلل به على هذه النزعة: 
إني إذا نزل البلاءُ بصاحبي ** دافعت عنه بناجذي ومخلبي

ولا يمكن أن نغفل "ناسك الشخروب" ميخائيل نعيمة المغترب في أميركا قبل التوحد في مغارة بمسقط رأسه "بسكنتا"، وله قصيدة رائعة طافحة بالمعاني الإنسانية النابذة للحرب الداعية إلى الأخوة والتسامح وهي من قبيل الشعر المهموس، كما وصف هذا اللون من الأدب الناقد الكبير الراحل  الدكتور محمد مندور، ذلك الأدب الخافت الصوت الذي يلج إلى القلب مباشرة ويستقر في قراراته محولا سلوك الإنسان إلى سعي حثيث نحو معارج الإنسانية الحقة يقول نعيمة: 
أخي إن ضجّ بعد الحرب غربي بأعماله 
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله 
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا 
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام 
لنبكي حظ موتانا 
وفي مطولة "على بساط الريح" للشاعر الشاب فوزي المعلوف الذي قضى في ريعان العمر تنديد بهذه المظالم يقول فوزي:
أنا عبد الحياة والمـوت أمشي ** مكرها من مهودها لقبـوره 
عبد ما ضمت الشرائع من جور ** يخط القوي كـل سطوره 
بيراع، دم الضعيــــــف له حبر ** ونوح المظلوم صوت صريره 
وتعتبر قصيدة "المواكب" لجبران إنجيل الثورة ضد تردي القيم وميوعة الإنسان وتحلل القيم ونشاز النفس الإنسانية فيصير الاستغلال قيمة والظلم مبدأ إنسانيا يقول جبران: 
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا       
به ويستضحك الأمـوات لو نظروا 
فالسجن والموت للجانين إن صغروا           
والمجد والفخر والإثراء إن كبروا 
فسارق الزهر مذمـوم ومحتقر                  
وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وإذ يتأمل الأديب المهجري من موقعه الجديد في واقع عالمه العربي المتردي في دركات الجهالة، المتخبط في غياهب الاستبداد، يحزنه غياب الحرية فتراه يثور في أدبه محولا شعره أو نثره إلى شواظ من جمر ولهيب من نار عسى أن ينتفض الشعب في سبيل نيل حريته، واقرأ هذين البيتين للشاعر السوري نسيب عريضة المغترب في أميركا يخاطب وطنه:
مشت القرون وكل شعب قد مشى ** معا وقومك واقفون ونــوّم !
لم تـــرتفع كــف لـصفعة غاشم ** فيهم ولم ينطق بتهديد فـمُ 
واقرأ الشاعر القروي تلقه نفسا ثائرة وضميرا معذبا وعقلا حرنا على شيء واحد هو الحرية:
أنت حر فاستوطن البلد الحـر ** وصاحب من أهله إخوانــــــا 
مثلك الكون والزمان فلا تلح ** مكانا ولا تسب زمانـا
ليس في قضمك الحديد هوان ** إن في بثك الشكاة هوانـا 
ونختم هذا المقال بذكر قيمة إنسانية أخرى حوم حولها الأدب المهجري وما كان له أن يغفلها وهو الأدب الباحث عن دروب الحرية والكادح في سبيل كمال الإنسان ونعني بها نزعة التأمل تلك النزعة التي تنتهي بصاحبها إلى رمي القشور والاكتفاء  باللباب، ولا تقنع بالألفاظ  وأكثرها براق ورصيدها من الحقيقة الإنسانية قليل، وقد حوم الأدب المهجري حول مفهوم السعادة ونسبيتها وركز على ما هو جوهري في الوجود الإنساني، وما الرفاه المادي إلا وسيلة يفترض أن تزيد من سعادة الإنسانية ككل، لا أن تتحول إلى غاية وامتياز للبعض دون الآخر ومظهر من مظاهر الطبقية والاستغلال.
إذا فقد حوم الأدب المهجري حول هذه المعاني وامتد حومانه إلى الميتافيزيقا ووقف أمام الموت وقفة الخاشع لمواجهة هذا المصير الحتمي لا على أنه عدمية بل رحلة إلى عالم آخر، وليس شرطا أن تكون هذه الرحلة متفقة مع المفاهيم الدينية بل بعضها مستمد من الفلسفة الإشراقية والهندية، وكالقول بوحدة الوجود أو الفيض أو تناسخ الأرواح، وكلها بهدف تفسير الوجود الإنساني والموت وبث السكينة في النفس الإنسانية الحائرة المعذبة القلقة.
والخلاصة أن هذا الأدب كان إذًا فتحا جديدا في حياتنا الأدبية والفكرية وهو ميراث فني وفكري وإنساني نعتز به.