الأدب والبيئة الإفتراضية

القاريء في عصر العالم الإفتراضي أصبح مراقباً لكاتبه المفضل وقد يفتحُ معه مباشرة حلقة النقاش حول منجزه الإبداعي مبدياً رأيه دون مواربة.
بدلاً من أن ينتظرَ الكاتب آراء النقاد ويترقبُ ما يكتبُ عن إصداراته الجديدة في الصحف يراهنُ على ما يقوله القاريء العادي عن نصوصه
كاتيا الطويل: الكاتب اليوم يستفيدُ من حضوره في وسائل التواصل الإجتماعي ليروج لمؤلفاته

ما برح الإبداع متلازماً بمفهوم النخبوية وكان الإهتمام بالمجال الإبداعي وظيفةً لأقلية محدودة، بالمقابل فإنَّ الجمهور قد انحصر دورهُ في المتابعة دون أن يكون لرأيه تأثير على المنجز الأدبي، كما أنَّ دائرة التواصل بين المبدع ومتابعيه ظلت محدودة، وكل ما يُعرف عن حياة الأدباء وشخصياتهم كان نزراً يسيراً من الصور المنشورة في الصحف، كأن ما قاله ديكارت "عاش جيداً من أتقن فن الإختفاء" كان بمثابة شعار لكثير من المبدعين، وغالباً ما لجأ القراءُ إلى النصوص لتحديد الخلفية الفكرية والأيدولوجية لكاتبهم المفضل وذلك كله أورث نظرة مثالية لشخصية المبدع.
رفض الكاتب الفرنسي موباسان نشر صورته في سلسلة مخصصة لمشاهير الكتاب متذرعاً بأن "حياة الإنسان الخاصة وصورته لا يخصان الجمهور". وكان فلوبير يقول "على الفنان أن يجعل الأجيال اللاحقة تعتقدُ بأنَّه لم يكن موجودا". 
والسؤال الذي يفرضُ نفسه في هذا السياق هل يمكن للأديب أن يتعاملَ بهذا المنطق مع جمهوره في عصر الثورة المعلوماتية حيث يزداد يوماً وراء يوم عدد مرتادي ومستخدمي وسائل التواصل الإجتماعي، وأصبحت منصاتها مفتوحة بوجه المواد المتنوعة؟ إذ أن المجال متاح للجميع للمشاركة بأفكارهم وتعليقاتهم حول ما يضخُ في العوالم الإفتراضية. ومن المعلوم بأنَّ كثيراً من مشاهير السياسة والفن يعلنون مواقفهم ويكشفون عن مشاريعهم من خلال تغريداتهم ومنشوراتهم في صفحاتهم الخاصة، ومن ثمَّ تنتقلُ تلك المعلوماتُ إلى الإعلام التقليدي، وهذا يعني تضخم دور الإعلام البديل وامتداده إلى كل مناحي الحياة.
بالعودة إلى السؤال حول منطق الإديب وسلوكه في التواصل مع الجمهور القراء وما يحتمه الواقع الإفتراضي من التحولات يجبُ إجراء مقارنة سريعة بين دور المطبعة في انتشار الكتب وتأثير الشبكة العنكبوتية على المستوى الثفافي والفكري عبر إنشاء المكتبات الإلكترونية حيثُ يمكن الوصول إليها بفضل محرك البحث.

لم يعد الكاتبُ كائناً يبدع في صومعته ولا القاريء مجرد مستهلك بل ثمة جوائز تمنح باسمه

قبل ظهور الطباعة لم تكن الكتب متوفرة لكل من يرغب في المعرفة والقراءة وركنت المؤلفات النادرة في مكتبة الأرستقراطيين بإعتبارها زينةً أو شهادةً لعراقة النسب. لكن هذا الواقع تبدلَّ مع اختراع المطبعة فبالتالي فرصة إكتساب المعرفة لم تعد حكراً على مجموعة معينة إنما بدأت مرحلة جديدة على الصعيد المعرفي والفكري وتوجَّتها حركة التنوير إذ حل المفكر مكان الكاهن أو رجل الدين في المجتمع، وانتهت شرعية وصاية سلطة الأكليروس على العقل، فأصبح الإنسانُ مُتحرراً من المُحددات اللاهوتية. 
لا شكَّ كان وراء هذا المنعطف الفكري عدة عوامل لعلَّ أبرزها هو المطبعة التي ساهمت في إنتشار النتاجات الفلسفية والأدبية والعملية على نطاق أوسع. 
الغرضُ مما قدم سلفاً هو الإبانة عن وجود علاقة جدلية بين الإنسان وما يخترعهُ من الوسائل عندما نجحَ الكائن البشري في تسمية الأشياء من خلال إيجاد لغة الرموز والإيماءة اتخذ الوعي منحى أكثر رقياً وبذلك تلقي الإنجازات والإكتشافات وإحداثيات العصر بظلالها على النسق الفكري والمسلك الحياتي بحيثُ يجبُ القيام بنحت مفاهيم جديدة لبناء رؤية مواكبة لمتطلبات الواقع واستشراف أفق التحولات فيما يحتدُ النقاشُ حول دور العالم الإفتراضي على اختيارات الفرد وأشكال الحياة وتغذية النزعة الإستهلاكية وابرام الصفقات التجارية ونشر الأفكار المتطرفة غاب الإهتمام برصد مفاعيل هذه الوسائط على المستوى الفكري والثقافي والتفاعل السريع بين القاريء والمنتج الأدبي، فأصبح المؤلف يراهنُ على القاريء الذي يخرجُ نصه من العتمة، وهذا ما ينبيءُ بوجود من يزاحمُ الناقد في وظيفته ولا ينفردُ طرف معينُ بإعطاء كلمة المرور للنصوص وتعميد الأعمال الأدبية، وما دفع بالقاريء العادي إلى الواجهة هو انفتاح البيئة الإفتراضية على الجمهور وهو من فئات وطبائع متنوعة بخلاف ما هو معروف عن الصحف والمجلات التي لا يخلو نظامها من الطابع النخبوي والإعتبارات الآيدولوجية، بينما تتجاورُ في الوسائط الرقمية خطابات متعددة وهذا ما يزيدُ من فعاليتها أكثر إذ بدأَ كثيرُ من الأدباء بفتح قنوات التواصل المباشر مع متابعيهم ويعيدونَ مشاركة التعليقات والآراء في حسابهم الخاص، كما أن غلاف الإصدارات الأدبية تسبحُ على الجدار الأزرق مرفقاً بمقتبسات من المحتوى لذا ليس من المستغرب وجود هذا التنويه "مأخوذ من صفحة فيس بوك لفلان" في أسفل المقالات المنشورة في الصحف والمواقع الإلكترونية مع تصاعد حجم التفاعل مع المنجزات الأدبية ومتابعة الأخبار في العالم البديل يزداد نشاط المبدعين في المساحات الإفتراضية. 
تقول الروائية السورية لينا هويان الحسن إن نسخ روايتها "نازك خان" و"سلطانات الرمل" بيعت منها أضعافاً مضاعفة من "ألما ونساء" علماً بأنَّ الأخيرة وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، وذلك نتيجة تفاعل الجمهور مع مضمون العنوانين المشار إليهما سابقاً على وسائل التواصل الإجتماعي. 

وعن مدى استفادة المبدع من رأي متابعيه وإضافة هؤلاء إلى منجزه الأدبي أشارت هويان الحسن إلى أن "مواقع القراءة تثبت حضورك ورأي القرّاء ببساطة يأتي واضحاً دون فذلكات نقدية"، أكثر من ذلك فإنَّ السوشيال ميديا وصفحات القراءة برأي مؤلفة "بنت الباشا تلعبُ دوراً كبيراً في نقل عدوى الإقبال على أعمال أدبية بعينها. 
ومن جهتها أكدت الكاتبة والروائية اللبنانية كاتيا الطويل على أن الكاتب اليوم يستفيدُ من حضوره في وسائل التواصل الإجتماعي ليروج لمؤلفاته لافتةً إلى وجود التنافس بين صفحات الكتاب الذين ينشرون صورهم ومقتبسات من أعمالهم غير أن خدمة هذه الوسائط للكتاب محدودة بنظر الطويل، لأنَّ النصّ الجيد هو الذي يضمن للكاتب ثقة قرّائه به وحبّهم له وتعلّقهم بأدبه.
وعن رأيها بالسجالات الأدبية التي تدور على مرأى من الجمهور على شبكات التواصل الإجتماعي قالت صاحبة "السماءُ تهربُ كل يوم" لا أظنّ أنّ السجالات عميقة وفظّة في عالم الأدب اليوم، وبخاصّة بين الروائيّين العرب المعاصرين، وبخاصّة بوجود محافل الأدب ومعارض الكتاب والجوائز واللجان، فلم يعد الكاتب يستطيع إشهار عداوته وسخطه من دون أن يخشى العواقب الاجتماعيّة عليه وعلى مبيع كتبه.
وبدوره صرح الروائي التونسي كمال الرياحي بأنَّه يتعامل مع الكتابة بوصفها لعبة وتهمهُ مشاركة القاريء في هذه اللعبة. يُذكر أنَّ مؤلف "البيريتا يكسبُ دائما" يتواصل مع جمهوره باستمرار وينشرُ صور قرائه وهم يحتفون باصداره الجديد على جداره الأزرق.
وفي هذا السياق لا بدَّ من الإشارة إلى عاصفة غضب معجبي الروائي البرازيلي باولو كويلو على روايته (الزانية) حيثُ عبروا بشتى الطرق عن إستهجانهم لهذا العمل الذي خيب بموضوعه الذي وُصف بالمبتذل أفق توقعهم.
إذا فإنَّ القاريء في عصر العالم الإفتراضي أصبح مراقباً لكاتبه المفضل وقد يفتحُ معه مباشرة حلقة النقاش حول منجزه الإبداعي مبدياً رأيه دون المواربة فبدلاً من أن ينتظرَ الكاتب آراء النقاد ويترقبُ ما يكتبُ عن إصداراته الجديدة في الصحف يراهنُ على ما يقوله القاريء العادي عن نصوصه، وقد يكونُ هذا الواقع عاملاً لتشكيل مزاج جديد في الكتابة ونشوء ذائقة حساسة لدى الكاتب.
إذن لم يعد الكاتبُ كائناً يبدع في صومعته ولا القاريء مجرد مستهلك بل ثمة جوائز تمنح باسمه.