الألمان يعملون الأفضل دائما

المانيا تعلمت ما لم يستطع غيرها تعلمه من التاريخ، بل تعلمت أكثر مما يقدمه التاريخ نفسه، والأهم من ذلك أن الكثير مما تعلمته لا علاقة له بالحروب التي عاشتها.
عندما سأل هنري كيسنجر ذات مرة “إذا كنت أريد التحدث إلى أوروبا، فبمن أتصل؟” وتأتيه الإجابة بشكل غالب، ألمانيا هي حاملة لواء القارة

ثمة مقولة لأشهر معلق رياضي بريطاني يقول فيها غاري لينكير إن كرة القدم عادة ما تقام في ملعب بين فريقين متنافسين، كلاهما من أحد عشر لاعبا، لكنها دائما تنتهي بفوز ألمانيا!

ويمكن أن نجرب هذا الكلام بكل ما يتعلق بألمانيا من اقتصاد وصناعة إلى سياسة وثقافة وطبيعة حياة، هناك قصة نجاح ألماني مستمر، كان آخره تطويق وباء كورونا بأقل ضرر على الاقتصاد. يكفي أن ألمانيا تزود العالم بملايين الأطنان من المنتجات، حتى الدول التي تنتقدها، تمارس نوعا من النفاق عصيّا على التصنيف عندما تبرم معها الصفقات المليارية.

هذا لا يعني أن الألمان مثل أي بلد آخر لا يواجهون المشاكل، لكن تلك المشاكل لا تعطل دوران ماكينة الاقتصاد وبقاء البنوك مصدر قوة لها، فألمانيا تعمل “العمل ليس مرادفا للكسل هنا” وفق إعلان تلفزيوني عن السيارات الجديدة يعود إلى سبعينات القرن الماضي، ذلك ما يجعل من جون كامبفنر المراسل الصحافي المخضرم الذي خبر البلاد على مدار أربعة عقود، لا يتوقف عن التفاؤل، مثل تفاؤل الألمان بشأن مستقبلهم بسبب المساءلة الذاتية التي لا هوادة فيها والمتأصلة في الإحراج من الماضي.

يكتب كامبفنر: لديهم الكثير ليفخروا به، لكن القليل منهم يمكنهم الثناء على بلدهم. ويقتبس من كاتب العمود الأميركي جورج ويل، الذي كتب مؤخرا أن “ألمانيا اليوم هي أفضل ألمانيا شهدها العالم”.

​  الألمان لديهم ما يفخرون به  ​
الألمان لديهم الكثير مما يفخرون به

في كتاب كامبفنر الجديد “لماذا يعمل الألمان الأفضل” يرى أن ألمانيا لن يوقفها النجاح للتفكير بنجاح مضاعف، الأمر الذي دفع صحيفة التايمز البريطانية إلى مخاطبة السياسيين المبتهجين في لندن ببريكست إلى التعلم من برلين، وعدم الاكتفاء بتوقيع العقود الاقتصادية معها، فألمانيا تنفق على الثقافة مثلا بعدالة مع ما تنفقه على مصانع السيارات. وأنا في حقيقة الأمر لا أجد جدوى في البحث عن معادل سياسي عربي لأعيد عليه تلك النصيحة، الخيبة لدينا أكبر من كل النصائح.

كتاب كامبفنر يقدم لنا صورة باهرة عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سيدة الدولة الأوروبية الأكثر روعة في القرن الحادي والعشرين حسب تعبير التايمز البريطانية، فعندما سأل هنري كيسنجر ذات مرة “إذا كنت أريد التحدث إلى أوروبا، فبمن أتصل؟” وتأتيه الإجابة بشكل غالب، ألمانيا هي حاملة لواء القارة، لم تكن بريطانيا ولا حتى فرنسا. ذلك ما يفسر لنا الصورة الشهيرة لميركل وهي تضع يديها على طاولة دونالد ترامب الجالس أمامها كتلميذ مطيع، دعك من الإهانات الكلامية التي وجهها لها مرارا.

هذه المرأة التي ينظر إليها السوريون والعرب المتعاطفون معهم بأنها أشرف من كل الزعماء بعد ترحيبها بملايين المهاجرين، يتجلى هدوؤها الخارق والاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على دوافعها، أمام أقسى الكلام، فعندما أطلق فلاديمير بوتين شروره الاستخبارية عن كرهها للكلاب، لم تنخدع بلعبة القيصر الروسي وكانت واقعية بشأن الحاجة إلى التعايش معها.

ولأن ميركل زعيمة حقيقية، فقد قادت وتبعتها أمتها إلى أفضل سنوات ألمانيا، ستتخلى عن السلطة قريبا تاركة فراغا في قمة البلاد. ومع ذلك هناك الكثير من الأسباب تجعل الأمل قائما في ظهور مستشار جدير بخلافتها، ببساطة لأن بلدها أنتج العديد من رجال الدولة البارزين منذ عام 1945: كونراد أديناور، ويلي براندت، غيرهارد شرودر، هلموت كول، جميعهم شخصيات كبيرة، سواء أحببناهم أم لم نحبّهم.

في النهاية يرى كامبفنر في كتابه العاطفي عن ألمانيا هي أفضل أمل لأوروبا في عصر التعصب القومي والشعبوية والتفكك، لأنها بلاد تعلمت ما لم يستطع غيرها تعلمه من التاريخ، بل تعلمت أكثر مما يقدمه التاريخ نفسه، والأهم من ذلك أن الكثير مما تعلمته لا علاقة له بالحروب التي عاشتها.