الإرهاب الأسود أهدافه وغاياته

دأبت وسائل الإعلام العالمية، وكذلك كثير من مراكز البحوث والسياسيين في الغرب على تقديم عملية 11 سبتمبر وما تبعها من سلسلة هجمات ضربت لندن ومدريد وباريس وبرلين وموسكو وغيرها، دأبت على تقديمها كنتيجة حتمية للفكر الإسلامي الذي يحض بزعمهم على الكراهية ونبذ الآخر ورفض الحداثة وكل ما يمت إلى "العالم المتحضر" بصلة. وقد رسخ ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" وتوجهاته وإعلامه هذا المفهوم لدى الرأي العام. وبات أي مشروع سياسي يتخذ من الإسلام هوية وعقيدة ومنهجاً له موضع اتهام، يتم التعامل معه كتهديد إرهابي مباشر أو كحاضنة لمشاريع إرهابية محتملة. وصارت الدعوة للإسلام وتطبيق شريعته مثار ريبة ومدعاة لمراقبة ومحاصرة ولجم القائمين عليها، لاسيما في الغرب، حيث يتم إبراز الإسلام (صراحة أو ضمناً) على أنه دين إرهاب بطبيعته، وأن المسلم الجيد، أي المسلم الملتزم بدينه، هو المسلم الأكثر قرباً من ممارسة الإرهاب، وأن الذي يعتنق الإسلام من الغربيين بحثاً له عن ملاذ للطمأنينة، إنما يسير في طريق الإرهاب الأسود. ولم يعد هؤلاء يفرقون كثيراً بين إسلام "معتدل" وآخر "متطرف"، حيث بات يُعتبر المعتدلون مجرد "منفذ لمنظمات أكثر عنفاً، من بينها الجماعات الإرهابية، التي تستطيع أن تقود الأفراد إلى طريق التطرف نحو جماعات أخرى مثل تنظيم «القاعدة» وحركة «الشباب» و«بوكو حرام» وتنظيم «الدولة الإسلامية»".

وقد اشتغل ساسة الغرب ووسائل إعلامه ومراكز الفكر والبحوث لديه جاهدين على الترويج لهذا المفهوم وتعميمه على نحو أو آخر. وعليه، صارت المشاركة بسحق المسلمين، فضلاً عن الصمت على ما يرتكب بحقهم من جرائم، أو تبني قوانين تعسفية تمسهم أمراً مبرراً لدى الرأي العام في الغرب. وهنا ترد أسئلة كثيرة حول ماهية الحرب على الإرهاب، وحول غاية حملة الغرب المسعورة على الإسلام، وحول ذلك الإصرار على إطلاق مصطلح "الإرهاب الإسلامي" أو "الإسلام الإرهابي"، مع علم ساستهم وأصحاب الرأي وصناع القرار فيهم، أن هذا أبعد ما يكون عن الصحة، وهو ما أدلى به الصحفي الأسترالي جون بيلجر بقوله: "أسجل اعترافاتي للتاريخ، لتقرأها الأجيال القادمة، نحن في الغرب مصدر الإرهاب في العالم.. والمسلمون هم الضحايا".

إذن لماذا يصرون على تلك الافتراءات؟ وماذا يريد الغرب حقاً من المسلمين الذين ترزح بلادهم تحت الهيمنة المباشرة له ولأعوانه وعملائه، الذين ينهبون ثروات المسلمين ليل نهار ويستغلون مقدراتهم أبشع استغلال.

لذلك كان لا بد من قراءة الوضع بشكل متأن، في محاولة لفهم ماهية هذه الحرب الشعواء، التي يتم تحت مظلتها التهجم على الإسلام والنيل من المسلمين، إضافة إلى قتلهم وتشريدهم بشكل مفجع ومستمر ومستفز مباشرة أو من خلال زجهم في صراعات وحروب مشبوهة، تُخاض بهم وعليهم، ليس للمسلمين منها إلا نزف الدماء ودفع التكاليف وذرف العبرات واجترار الحسرات.

في هذا الإطار لا بد من ملاحظة أن الحملة المزعومة على "الإرهاب" شكلت تحولاً نوعياً في تعامل الدول والمنظمات والمؤسسات المرتبطة بها مع القضايا العالمية والمحلية على حد سواء، ما يعبر عن كونها سياسة عالمية متناسقة تتناسب مع مخططات الدول المؤثرة في هذا العالم، التي باتت تستعمله كذريعة رخيصة لتبرير وتمرير سياساتها. ولو لم تكن هذه الحرب المزعومة على الإرهاب محل اتفاق عالميا، لوجدتها بعض الدول فرصة لفضح من يستعملها من منافسيها، لاسيما أن هذه الحملة مشبوهة في مجملها، ومتهافتة في ذرائعها. إلا أنها في الواقع حملة متوافق عليها، وهي حملة إجرامية تمارس بشكل منهجي ومدروس لتحقيق أهداف متعددة، من إهمها أنها تمثل مظلة واسعة للتنافس الدولي.

فالغرب الذي يحكم العالم ويتحكم به ليس كتلة سياسية واحدة، رغم أن دوله جميعاً تعتنق النظام الرأسمالي، ورغم أن لديه طرازاً خاصاً متجانسا (لحد ما) يستند إلى ذات المنظومة الفكرية، التي تفصل الدين عن الحياة وتجعل تحقيق المنفعة المادية طريق السعادة وغاية الغايات، مُشكّلة بذلك القاعدة الفكرية لأي نهج أو فكر أو سياسة معتمدة من قبل دولهم ومجتمعاتهم وأفرادهم، ما يشعل التنافس والصراع والحروب بينهم جميعاً، أفراداً وشعوباً ودولاً وأمماً. وقد أدى هذا إلى إغراق العالم في صراعات وحروب كثيرة، كانت الحربان العالميتان المدمرتان أبرزهما. إلا أن تلك الحروب، رغم فظاعتها، فإنها تبقى "محتملة" لطبيعة الأسلحة التقليدية المستعملة فيها، أما في ظل الأسلحة الحديثة، فإن أية مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى باتت فوق قدرة أي منها على احتمال تداعياتها، لأنها تعني حروب إبادة شاملة بسبب الأسلحة التدميرية الهائلة المتوفرة لديها. لذلك اتخذ الصراع بين هذه الدول أشكالاً جديدة، تحُولُ دون الاصطدام المباشر بين بعضها البعض. من هنا وُجدت الحرب الباردة، والحرب بالوكالة، وتغيير النفوذ عبر الانقلابات والثورات، التي تظهر في جلها محلية وذاتية، فيما تعكس في واقع الحال صراع نفوذ وهيمنة بين القوى الكبرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، فالصراع الذي دار في فيتنام كان في حقيقته صراعاً بين القوى الدولية الكبرى، وإن كانت أدواته فيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية. كذلك فإنَّ الصراع الذي دار في أفغانستان ضد الحكومة الشيوعية في أواخر العهد السوفييتي، كان في حقيقته صراعاً بين الولايات المتحدة زعيمة حلف الأطلسي من جهة وروسيا التي تتزعم الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو حينها من جهة أخرى، ولا يغير في تلك الحقيقة أن المقاتلين على الجبهات كانوا إسلاميي الهوية والخطاب. فقد كانت المخابرات المركزية الأميركية ترعى هذه الحرب وتدير عمليات التسليح والتمويل والإعلام مباشرة أو عبر وسطاء وعملاء، ما أدى بالمحصلة إلى انسحاب الروس من أفغانستان وسقوط الاتحاد السوفييتي لاحقا.

ولا يقال أن الصراع والتنافس بين دول العالم قد انتهى، فهذا غير وارد أصلاً لطبيعة المبدأ البشع الذي يسيطر عليها، وتظهر هذه الحالة بأشكال مختلفة، على نحو أزمات اقتصادية أو توسع عسكري أو دخول في أحلاف أمنية وسياسية واقتصادية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها، أزمة الولايات المتحدة مع أوروبا والصين واليابان بما يتعلق بالتجارة الدولية، وكالقضايا الشائكة والمعقدة بين روسيا وأوروبا، وكالتوسع العسكري الملحوظ لأميركا وبريطانيا وروسيا وفرنسا في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي والشرق الأوسط وغيرها.

في هذا السياق، تجد هذه الدول في "الحرب على الإرهاب" ذريعة مناسبة لتوسعها وتنافسها وتنفيذ أجنداتها، فتستخدمها كستار تختفي وراءه، يؤمن لها بيئة آمنة تحول دون وصولها إلى حالة صدام مباشر، حيث تبادر كل منها إلى وضع مخططاتها ورسم سياساتها محليا وإقليميا ودوليا، ثم تبدأ بتنفيذها، فتستفز بعضها البعض حينا، وتبتز بعضها البعض أحياناً، وتقودهم لعقد صفقات وشراكات خبيثة بغية تمرير سياساتهم القذرة، التي يدفع المسلمون والأبرياء أثماناً باهظة لها، كل ذلك باسم الحرب على الإرهاب. هكذا فهمت الدول الكبرى وأتباعها وأشياعها اللعبة، وصاروا يمارسونها باحتراف، وصارت وسيلة رائجة وسهلة الاستخدام، في الوقت ذاته فإنها تحول دون حدوث صدام مباشر فيما بين تلك الدول.

لذلك ترى هذا الأخير (أي الإرهاب) منتشراً في كل بقعة صغيرة أو كبيرة يدور فيها أو عليها أو حولها صراع نفوذ وهيمنة. والأمثلة على ذلك يصعب عدها أو حصرها، وتجدها أحيانا محيرة ومتضاربة بشكل لافت، وما يحدث في سوريا أبرز مثال على ذلك، حيث احتلت أميركا ثلثها عمليا بحجة الحرب على "تنظيم الدولة" المصنف إرهابيا عالميا، بعد أن تركه العالم برمته سنتين يسرح ويمرح كيفما يشتهي في سوريا والعراق، على مرأى ومسمع الجميع، كذلك فعلت روسيا لتدخلها في سوريا، وشملت مع تنظيم الدولة كثيراً من التنظيمات الأخرى التي يتم دعهما وتمويلها من دول أخرى، فيما اجتاحت تركيا شمال سوريا وأقامت حزاماً أمنياً واسعاً بذريعة القضاء على تنظيم العمال الكردستاني وملحقاته الإرهابية (التي تدعمها أميركا)، كذلك تجد القوات البريطانية والفرنسية منتشرة علناً في عدة مناطق في سوريا بنفس الذريعة، فضلاً عن القواعد العسكرية التي باتت منتشرة لجميع هذه الدول في سوريا بنفس الحجة.

وهكذا، فحيثما أطلقت ناظريك تجد كرة اللهب الإرهابية تتدحرج أمام اللاعبين، يقذفها كل منهم بوجه الآخر، يقومون باستنساخها من خلال إيجاد مجموعات تبايع بعضها البعض عبر شبكات التواصل الاجتماعي لتأكيد صلة لا مبرر لها سوى منح الذرائع ذاتها، فتشن تلك المجموعات هجمات صادمة وموثقة بتقنية عالية، ثم تجد المُخطِطَ يرسل بقواته لمحاربة الإرهاب المفترض وفرض أجندته، فيحتل البلاد ويقيم القواعد العسكرية ويفرض قوانينه الخاصة.

وبما أن العالم الإسلامي تحديداً هو مركز التنبه والتنافس الدولي كونه مصدر الثروات الهائلة والطاقة الصناعية الضرورية، لذلك تجد ظاهرة "الإرهاب" منتشرة بحرفية عالية حيثما اقتضى الأمر، كما هو الحال في سيناء وليبيا وتونس والصحراء الغربية ومالي والصومال وكينيا وغيرها. على طول هذا الخط، يجب ملاحظة أن نسخة الإرهاب المعتمدة تختلف من مكان لآخر لتتناسب مع حجم المُخطَط ونوعه، فإذا كان المطلوب إنشاء نظام عالمي جديد، فإن الإرهاب المفترض يجب أن يشكل طاقة كافية لإطلاق هذا المشروع، وينبغي أن يكون كافياً لإجراء التغييرات المطلوبة في الموقف الدولي. لذلك شكلت أحداث 11 سبتمبر صدمة عالمية بحجم الغاية المقصود منها، وكان من تداعياتها احتلال بلدين ضخمين بحجم أفغانستان والعراق في إطار تشكيل نظام دولي جديد. وأما إذا كان المطلوب هو حماية الشبكة الأمنية المعقدة والمركبة من عدة دول باسم حلف الممانعة، وترسيخ الشقاق بين المسلمين (سنة وشيعة)، وإبادة مدن بأكملها، وتغيير التركيبة السكانية القائمة بما يتناسب مع أجندات غربية معينة، فإن المطلوب هو إقامة "خلافة الرعب" التي تضرب شمالاً ويميناً، تسبي النساء وتبيعهم وتحرق الأسرى بشكل سينمائي موثق يضاهي في إنتاجه وإخراجه صناع الأفلام العالمية التي تنتجها هوليوود نفسها. كما تصل يد الإرهاب إلى عواصم الغرب، تضرب شمالاً ويميناً في عمليات ينفذ أغلبها مشبوهون وملاحقون أمنيا وجنائياً. فيما نجد في المحصلة أن هذا كله من مقتضيات المخطط، الذي يحتاج إلى تربة خصبة تعج بالشباب المتحمس الذي يمكن تفعيله وتوجيهه من وراء ستار، كضرورة لازمة لنجاح المخطط.

خلاصة القول، إن الحرب على الإرهاب هي استراتيجية غربية بامتياز، تمنح القوى الكبرى الغطاء المطلوب لتمرير سياساتها. كما أنها استراتيجية خبيثة تمنح الدول الكبرى والمرتبطين بها "الحق" في ممارسة أسوأ أنواع البلطجة والبطش والقهر وتمريرها في هذا العالم دون رادع. تلك السياسات التي لم تكن لتمر في الشكل أو المضمون دون وجود مثل تلك الذريعة.