الإعلام.. بين الحقيقة والدعاية والإختلاق والتضليل!

خبراء في الإعلام يرون أن الصحافة والإعلام تحولا من مهمة نقل المعلومات والحقائق إلى الجمهور، إلى استخدم مفرط لأشكال مختلفة من أساليب الدعاية والترويج الدعائي.
الإعلام تحول من نقل للحقائق والمعلومات الى الجمهور إلى وسيلة للتضليل

يجمع كثير من خبراء الإعلام، على أن كلا من الصحافة بخاصة والإعلام بعامة، قد تحولا من مهمة "نقل المعلومات والحقائق" إلى الجمهور، إلى استخدم مفرط  لأشكال مختلفة من أساليب "الدعاية" و"الترويج الدعائي"، ما بين ثنايا ومضامين الأخبار والتقارير الإخبارية والمقالات والتحقيقات الصحفية، وحتى ما يطلق عليه الآن بـ "الصحافة الاستقصائية" التي طبل لها هذه الأيام بعض الأكاديميين في المجال الإعلامي، وكذلك تم الترويج لمفهوم آخر هو "الإعلام  الإلكتروني"، وكأنهما الفتح المبين في عالم صاحبة الجلالة، والرسالة الإعلامية التي فقد بريقها منذ أكثر من عقد من الزمان، وأصبحت أقرب الى موضوعة (التهريج) وإلى وعاظ السلاطين من أن تكون سلطة رابعة حقا وحقيقة!
ويبدو أن أكاديميي الإعلام ومنظريه قد أغرقوا أسماع طلبتهم في كليات الإعلام والاتصال والعلاقات العامة والإذاعة والتلفزيون، بالحديث عن أخلاقيات مهنة الصحافة، وأساليب صياغة الاخبار، وفقا للمناهج الصحفية التي كانت تدرس قبل عقود، وهم في قرارة أنفسهم ربما يدركون أن تلك النظريات والمناهج قد عفا عليها الزمن وأصبحت لأغراض الإستهلاك النظري الأكاديمي أكثر من كونها أساليب تطبيقية للصحافة، بل أصبحت تلك المناهج ربما من ذكريات الماضي القريب، بالرغم من أن البعض من محترفي هذه المهنة، ومن يريدون المحافظة على بقايا هيبتها، بذل كل جهد مستطاع لإيصال رسالتهم إلى طلبة الإعلام ومن ولجوا عالم الصحافة، لكن الغزو الدعائي وأساليب الفبركة، وإشاعة أنماط الإختلاق والترويج الدعائي هو من يقف حائلا دون أن تحافظ السلطة الرابعة على سمعتها، حتى فقدت أحيانا احترام الجمهور لها، بعد إن راح كل من هب ودب، يعتلي عرش سلطتها ويركب موجتها، ليظهر على أنه المنقذ من الضلال، وأنه هو من له القدرة على ترويض عقول الجمهور واستغفاله، وهو من يفرض عليهم رؤاه وتوجهاته، ومن يريد استغفالهم، بالرغم من أن الجمهور الواعي المثقف يدرك أهداف أؤلئك وأساليب ترويجهم، وهي لن تنطلي على النخب المثقفة الواعية، بالرغم من أن هناك من النخب، وتحت ضغط العوز، من انغمس في مهاوي تلك اللعبة، وراح مضطرا ربما للمشاركة فيها، لدفع ودرء متاعب العيش عنه، بعد إن بلغت الأحوال ببعضهم حد الحرمان من أبسط حقوقهم الآدمية في الحياة، وبخاصة في العراق. 

وبقيت الغالبية الشعبية المعدمة من ذوي الثقافات الواطئة ومن داست عليهم أقدام الأقدار اللعينة، يجدون في تلك الترويجات فرصتهم، ويتناغمون معها، والبعض يأخذ الكثير منها على محمل الجد على انها حقائق ومسلمات، بالرغم من أنها ليست كذلك!
ومع كل تلك المعاناة القاسية، بقي هناك من الأكاديميين ومحترفي مهنة الصحافة، ومن يتسمون بـالمهنية والمصداقية، من يلقي على طلابه دروسا عن أخلاقيات الصحافة، ومثلها ومبادئها الأساسية، وهي الآن محل جدل ونقاش كبيرين بين الأوساط الاكاديمية والثقافية بعامة، حتى أن الإعلام تحول من نقل للحقائق والمعلومات الى الجمهور، إلى وسيلة للتضليل وتبدو الرسالة الإعلامية، وهي مغرقة في التلوين الدعائي والفبركة والإختلاق الى حد كبير، وما نلاحظه بين ثنايا أطنان من السيل الصحفي والإعلامي والإخباري، بكل وسائله، وبخاصة في الفضائيات والمواقع الإلكترونية، يكاد يكون أقرب كثيرا الى مفهوم الدعاية من أن يقترب من مفهوم الإعلام، بعد أن فقد الأخير الكثير من قيمه وأصوله وأسسه التي اختطها كثيرون ممن ولجوا دروب صاحبة الجلالة في عقود مضت، لكن بريق تلك المهنة راح يختفي وهجه وشموعه المضيئة، حتى أن الكثيرين يقولون على أن من يدخل هذا الميدان هو رجل دعاية أكثر من أن يكون رجل إعلام، وفقا لمعايير الإعلام والصحافة التي أرسى دعائمها الصحفيون السابقون المحترفون والمهنيون، حتى أن هناك من يشير الى أن صحافة الحقيقة والمعلومة قد  أفلت، ولم يعد لها ذلك البريق الذي يكسبها الإحترام!
لقد أغرقت الصحافة نفسها في السنوات الأخيرة وبعد سيادة عهود الفوضى الإعلامية، في إستخدام عمليات التلوين والتضليل والفبركة، والإختلاق والترويج الدعائي، وكانت هذه الممارسات هي السائدة، ولم يكن بمقدور أكاديميي الصحافة ولا المهنيين منها أو أصحاب الخبرة والكفاءة، الوقوف بوجه تلك الحملات الشرسة من الأشكال الطارئة التي غزت عالم الصحافة، وتحولت من مهمتها في الإخبار وعرض الحقائق إلى تبرير الإختلاقات، وحتى التزوير والتضليل لإرضاء الداعية أيا كان هذا الداعية (سياسي، ديني، رأس مالي، تجاري) حتى أن الجمهور أطلق على أية صحافة بأنها كلام جرايد، أي أنه لا يمكن تصديقها، وبهذا فقدت الصحافة بريقها وضوعها العطر الذي كانت تتسم به، وركب موجتها كل من أصبح طارئا عليها أو متطفلا على وسائل إعلامها، وكانت الطامة الكبرى في "غزوة المواقع الإلكترونية" التي أصبح يديرها أشخاص لاعلاقة لأغلبهم بالصحافة من قريب أو بعيد! 

Press and Media
واحد من الكتب المهمة 

ويكاد كتابي "فن تسريب الأخبار.. والحرب النفسية" الصادر عن دار الجواهري للطباعة والنشر قبل عامين، يعد واحدا من الكتب المهمة التي أفردت مساحات واسعة للحديث عن تلك المظاهر المزيفة التي غزت عالمنا الصحفي والإعلامي، وتحدثت فيه عبر فصول عدة ، وبالتفصيل عن مفاهيم "التسريب والفبركة والاختلاق والترويج الدعائي" التي غزت مهنة الصحافة وسلطتها الرابعة، والحال الذي آلت إليه "مهنة الصحافة" التي تحولت من رسالتها السامية في نقل الحقائق إلى "مهنة الفبركة والاختلاق"، وأكاد أجزم بأن 90 % مما ينشر في وسائل الإعلام من صحف وفضائيات ومواقع إخبارية ووسائل تواصل اجتماعي، هي أقرب إلى الفبركة والإختلاق والتضليل، من أن يكون مادة للإعلام ونقل الحقائق، وما يتبقى من الـ 10 % من الإعلام الذي يحافظ على مبادئه وأصوله يكون رواده غالبا هم من بقايا من صحفيي الاحتراف والمهنية الذين يجدون صعوبة بالغة في التأقلم ومسايرة الواقع الدخيل، والسيل الجارف مما يطلق عليه بـالإعلام، وهو ليس كذلك، بل هو عمليات ترويج دعائي ضخمة تقف خلفها أحزاب سياسية وكارتلات صحفية ورؤوس أموال لتجار ودخلاء طارئون على المهنة، وراحوا هم من يتحكمون بوسائل الإعلام، بعد أن كانت الحكومات هي من تملي على كثير من الإعلاميين ما يكتبونه من أخبار ومعلومات بالطريقة التي تخدم أهداف حكمهم، ومع هذا كانت هناك معايير للمهنية، لكن عصر العولمة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي غزت عالمنا، شوهت كثيرا من مثل وقيم الإعلام والصحافة، وهي من راحت تمارس الهيمنة وفرض وجهات النظر على الجمهور، حتى أن الجمهور لم يعر لها اهتماما، وفقدت احترامها بين أوساطه التي كان يعول عليها أن تكون ميدانا لنقل الحقيقة، لكنها وتحت ضغوط عصر تطورات التقنيات المتسارعة في الإعلام الالكتروني، وتحت ضغط صاحب النفوذ من أصحاب السلطة وأصحاب المال، تحولت إلى ملكة أسيرة، وفقدت تسمية ما كان يطلق عليها بـ "صاحبة الجلالة"، وربما لم يتبق من قصور صاحبة الجلالة سوى أطلال دارسة وهياكل نخرة، بعد أن هجم عليها الدود والجراد والحشرات المختلفة، وأساطين الرعب، ومن يمتلكون البندقية ليطلقوا عليها رصاصة الرحمة، بعد أن تم تشييع جسدها الطاهر إلى مثواها الأخير!