الانتخابات الأميركية وآمال التغيير

التركيز الأول لبايدن سيكون على الشأن الداخلي، الوبائي والاقتصادي. لكن الشرق الأوسط بمشاكله سيكون حاضرا ولكن بشكل مختلف عن عهد ترامب.
علينا الإقرار بتفرد الديموقراطية الأميركية عن سائر الديموقراطيات
الحزب الجمهوري في موقف المضطر كي لا يخسر الحاضنة الشعبية المؤيدة لترامب
مواقف بايدن قد لا تختلف كثيرا تجاه العرب وإن أضفى عليها طابعا حقوقيا وإنسانيا كما فعل أوباما

لماذا تابع العرب على المستوى الشعبي والرسمي باهتمام الانتخابات الاميركية؟
بعيداً عن الخطاب السائد وبعقلانية واقعية تفرضها الظروف، ربما تكون الإجابة لأنها أعظم ديموقراطية في العالم، ولأنها واحة للحرية، ولأنها القوة العظمى، ولأنها الدولة الأكثر تنوعاً عرقاً ومعتقداً كونها كيان أسسه المهاجرون الطامحين لأرض الأحلام ووطن الفرص المتساوية، ولأن بها المؤسسات والصناعات والجامعات الأهم عالمياً، ولأننا ربطنا أنفسنا بها منذ عقود على المستوى الرسمي والاقتصادي والسياسي والأمني، وبنينا معها تحالفات استراتيجية في ظل غياب البديل عنها وموازين القوى الدولية الأخرى التي من الممكن أن نستعيض بها عنها.

إن كان هذا هو الحال، فمواكبة الواقع تتطلب منا في علاقتنا مع الولايات المتحدة أن تكون قائمة على العمل أكثر من اللوم والتمني، عبر إقامة علاقة متوازنة، وبالانخراط الحثيث والمتواصل الدؤوب بحوار وعمل مؤسساتي مدني إعلامي قانوني مجتمعي اقتصادي وتطوعي معها، وهو الأمر الذي لطالما قصرنا فيه وأهملناه، في حين حضر الآخرون مبكرا وسعوا بجد متواصل لتأسيس مراكز القوى لدى صناع القرار وعامة الجمهور، بينما ازداد غيابنا وانفصامنا وسلبيتنا وارتكاننا لذرائع نبرر بها فشلنا في تغيير بوصلة السياسة الخارجية الأميركية لتكون منصفة تجاه قضايانا العربية، ونحن الذين أهملنا التفاعل والانخراط في العمل التطوعي بها، ومؤسسات المجتمع المدني، وكذلك الهيئات العدلية والحقوقية والإنسانية والثقافية والاعلامية، التي خرج من مظلتها العديد من أعضاء الكونغرس والسياسيين وقوى المجتمع المؤثرة، وهو ما نحتاجه ليكون لنا حضور فاعل لا عبر المال والصفقات فقط.

على الأغلب حسم الانتخابات ااميركية وإعلان فوز نائب الرئيس السابق والسياسي الديموقراطي المخضرم جوزيف بايدن مسألة وقت، أما ما يقوم به الرئيس الحالي دونالد ترامب وحملته الانتخابية بدعم من الجمهوريين من دعاوي قضائية متعددة بدعوى قصور في العملية الانتخابية وتزويرها ببعض الولايات؛ ليست إلا محاولات تتعدى رغبته في الاقرار بالخسارة والفوز بولاية الثانية، لصالح الحفاظ على الزخم الشعبي الذي منحه حوالي نصف أصواته، وتبنى رؤاه وأفكاره وأيديولوجيته اليمينية الغير مسبوقة. أما الحزب الجمهوري وإن ما زال داعما لادعاءاته بعدم نزاهة العملية الانتخابية ولموقف الرئيس منها، فهو في موقف المضطر لذلك حتى لا يخسر الحاضنة الشعبية المؤيدة لترامب داخله إن تبنى موقفا مغايرا، وسيجاري حتى تتم إعادة فرز الأصوات في الولايات المتأرجحة والحكم بالقضايا المرفوعة، بما فيها المزعم تقديمها للمحكمة العليا الدستورية التي يغلب على قضاتها الخلفية الجمهورية، والذين عين ترامب ثلاثة منهم آخرهم القاضية باريت، ومع ذلك من المستبعد أن يكون حكمها متحيزا، فنظام العدالة الأميركي نزيه وشفاف لا يغلب عليه الهوى "إلا فيما ندر وعرضة للمحاسبة من مجلس الشيوخ حال ثبوت خرق للقانون"، ويستمد مكانته وقوته من الدستور المكرس للديموقراطية المؤسساتية غير المركزية، حيث لكل ولاية قوانينها الخاصة ومجلسها التشريعي، يشارك بها الجميع، والحقوق مصانة بالدستور، والتقاضي فيها متاح دون استثناء، وشفافيته تحت رقابة مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وحديثا وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يستطيع الرئيس أو الكونغرس بمجلسيه أو أي قوة حكومية فرض رأيه مخالفاً لنص القانون والدستور.

شعبياً، ربما لا يكون المرشح الأوفر حظا (إن لم ندعه الرئيس المنتخب) جوزيف بايدن الأكثر قبولاً حتى بين الديموقراطيين أنفسهم، ومع ذلك حصل على أعلى نسبة شعبية منذ أكثر من مائة عام، ساعده بذلك أن العديد صوت له كرها بالرئيس ترامب وليس حبا فيه وبأجندته، ومرد ذلك عدة عوامل أبرزها فشل ترامب في التعامل مع أزمة كورونا التي استغلها الديمقراطيون أثناء حملتهم الانتخابية، وحالة الخوف من انقلابه على كينونة الحكم بعد تكرار تشكيكه مسبقا بالمنظومة الانتخابية والتصويت الغيابي عبر البريد، ووصفها والقائمين على بعضها بالمتحيزين، وبالمزورة والفاسدة، وهو ما يعد سابقة، كما تكرار رفضه الإقرار علنا بتسليم السلطة حال خسارته، متسببا بمشاركة غير مسبوقة من فئة الشباب والأقليات الدينية والعرقية الذين رأوا في شخصه وأقواله وأفعاله مسببا لتفاقم ظاهرة الفاشية والعنصرية اليمينية، والتي رفض إدانتها كونها جزء من قاعدته الشعبية والانتخابية.

خذلان ترامب لكبار السن وإساءته لهم في عدة مواقف وتصرفات رغم كونهم من أهم المصوتين له في انتخابات العام 2016، تسببت بدعمهم لخصمه ومعهم نساء الضواحي الفئة الأكثر عددا وتأثيرا في الأسرة الأميركية التقليدية متوسطة الدخل.

عدم وضوح رؤيته في الرعاية الصحية والبديل، ومحاولاته لإلغاء أوباما كير أثارت مخاوف لدى الطبقات الوسطى والفقيرة من فقدان امتيازاتها الصحية، كما أسهم انسحابه من اتفاقية باريس، وعدم امتلاكه استراتيجية للتعامل مع التغير المناخي وشؤون البيئة، والتي تسببت بأعاصير وحرائق وكوارث طبيعية; لمعاداة مناصري البيئة وجمعياتها ومؤسساتها بمن فيهم الخضر.

ما أثير حول تهربه الضريبي ورفضه نشر إقراره للعامة أثار الشكوك حوله، ونقضه للعرف السياسي بعدم تعيين قاضية للمحكمة العليا في السنة الأخيرة من حكمه وخصوصا أنها محافظة؛ أثار نقمة ومخاوف الديموقراطيين التقدميين، والمجتمع الليبرالي والحقوقي المحسوب عليه بايدن، والمؤيد لحقوق المثليين والإجهاض والأقليات، والأقل ارتباطا بالأديان، واكثر دعوة للمساواة الاقتصادية، وحقوق الطبقة الوسطى والعمال، التي يتبناها السياسي الديموقراطي التقدمي الأبرز بيرنيساندرز، والذي وصف ما يقوم به منذ شهور "بكيف يدمر الديماغوجيون الإيمان بالديمقراطية ويدفعوننا نحو الاستبداد".

"الترامبية" كما يصفها معارضوها الذين يشبهونها بـ"الفاشية" و"النازية" و"الشعبوية"، ويرونها متوافقةً مع الموجة اليمينية الاقصائية المتطرفة البيضاء المنتشرة منذ توليه الحكم، والتي يستلزم التخلص من تبعاتها العمل على إحياء الإنسانية والعدالة والمساواة.

إن صحت التوقعات وأعلن رسميا عن فوز بايدن رئيساً، باعتقادي ستكون أولوياته في السنة الأولى لحكمه منصبة على مواجهة وباء كورونا وتحفيز الاقتصاد المتضرر، وإعادة اللحمة المجتمعية، وتحجيم الشعبوية التي كرسها ترامب، وقادت لانقسام مجتمعي غير مسبوق، وبالحصول على موافقة الكونغرس على ترشيحاته لمناصب حكومته.

لن تكون السياسة الخارجية من اولوياته وإن تغير ذلك لاحقاً، وقد لا تختلف مواقفه كثيرا تجاه الدول العربية وإن أضفى عليها طابعا حقوقياً وإنسانيا كما فعل أوباما، مع تفاعل مع شعوبها أكثر من سابقه ترامب الذي اعتمد مبدأ الصداقة مع الرؤساء كمعيار لعلاقته مع الحلفاء، لكنها ستبقى محتكمةً للمصالح الاستراتيجية، وذلك ثابتٌ منذ عقود، وأيا كان الرئيس ديموقراطياً أو جمهورياً.

أما بشأن عملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية، فمن المؤكد ألا تقوم إدارة بايدن بإلغاء القرارات الكبرى التي اتخذها ترامب سابقا كنقل السفارة الأميركية للقدس أو نزع الشرعية عن المستوطنات، أو انتكاسة في الانحياز الرسمي الأميركي لإسرائيل ودعمها على كافة الأصعدة. على الأغلب لن نشهد تدخلا أميركيا فعالا عبر إعادة إحياء المفاوضات في ظل وجود نتنياهو، وقد يتغير ذلك حال سقوطه، وتولي شخصيات أخرى الحكم، حينها قد يحدث تغيير لما سار عليه ترامب، وكان قائما على السلام مقابل الازدهار الاقتصادي، ليكون مجددا الأرض مقابل السلام، ويشمل ذلك خطوات إيجابية تجاه القيادة الفلسطينية، عبر استئناف دعمها ماديا وتقديم المساعدات لها، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير بواشنطن، وعدم إعطاء شيك على بياض للقيادة الإسرائيلية الحالية كما فعل ترامب سابقا، مع فتح قنوات اتصال مع الأحزاب الإسرائيلية الأخرى بمن فيهم حزب أزرق أبيض الذي يقوده بني غانتس وزير الدفاع بالحكومة الحالية، لإيجاد صيغة جديدة مقبولة إسرائيليا من حل الدولتين ووضع القدس الشرقية والأرجح أجزاء منها أو من محيطها كعاصمة لدولة فلسطينية.

بالنسبة لإيران، الهدف هو عدم امتلاكها للسلاح والقوة النووية، وتحجيم قدراتها الصاروخية، لذا ستعمل إدارة بايدن على انتهاج استراتيجية القوة الناعمة معها، وسيكون ذلك عبر العودة لمسار المفاوضات والتوصل لاتفاق صعب قد لا يحقق لطهران نفس المكاسب التي حصلت عليها سابقا، وذلك بسبب سلسلة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب تباعا عليها، والتي سيصعب إلغاؤها جميعا، بل قد تستوجب الانتظار سنوات قبل حصول ذلك، هذا فضلا أن بعضها قد يستلزم موافقة الهيئات التشريعية.
ستشهد الساحة الليبية والسورية على وجه الخصوص مواقف أقل ضبابية من مثيلتها الجمهورية، وتغاضيا أقل عن موسكو وسياساتها التوسعية في الشرق الأوسط الذي تسببت بها إدارة ترامب،حيث أقامت علاقات صداقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حساب المصالح الاستراتيجية الأميركية، مع تفعيل لعقوبات أكثر فعالية، ربما ستسهم جميعها في موقف أممي صوب الاتجاه لمعاقبة النظام السوري ومحاكمته بسبب ارتكابه لجرائم حرب وضد الإنسانية.
أشار بايدن أثناء حملته الانتخابية لنيته العودة لاتفاق باريس للمناخ، وكذلك لمنظمة الصحة العالمية، كما سيوقع مجموعة من القرارات التنفيذية بعد توليه المنصب في 20 يناير القادم، منها إلغاء حظر السفر للولايات المتحدة التي فرضها ترامب سابقا على سبعةٍ من دولها، وسيعيد برنامج يسمح للحالمين من المهاجرين الشباب الذين وصلوا للولايات المتحدة أطفالا بشكل غير قانوني بالبقاء في البلاد.
لا شك أن هناك ضبابية في بعض البنود الدستورية والنظام الانتخابي الأميركي، وكذلك بعض التباينات المتعلقة بقضايا حقوقية وإنسانية، لكن ومع ذلك ينبغي الإقرار بأن الديموقراطية الأميركية متفردة رغم بعض عيوبها عن سائر الديموقراطيات في الغرب والعالم المتمدن، ولم تكن نسخة مقلدة منها بما فيها أوروبا، بل قامت على الأخذ بتجاربها السابقة، ودراستها معمقا كي لا تقع في أخطائها.