أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح!

الفيلم يكرس ويرسخ مفهوم تفاهة الشر الأميركي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين.

كعادة أي فيلم يسبقه دعاية كبيرة تصوره كفيلم العام المرشح لنيل جوائز أو لتحقيق أعلى إيرادات شباك التذاكر، يستمر مسلسل تَتْفِيه الشر الأميركي، الذي عادةً ما ترعاه هوليوود وصناعة السينما بالولايات المتحدة، التي رغم كونها والحديث هنا عن هوليوود، ليبرالية شديدة التطرف بما تسبغه على نفسها من حرية التعبير والرأي والاعتناق والفكر، إلا أنها الْمُحلل والمسوغ والمفكر المبرر لجميع الشرور الأميركية عبر التاريخ الحديث، عبر تلاعبها بالحقائق وتزوير التاريخ لتكون قراءته فقط وفق وجهة النظر الأميركية ورغبتها لما تريد أن تكون الأحداث عليه. كيف حصلت؟ ولم حدثت؟ والأسباب التي استدعت حدوثها.

بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من منتوج السينما الأميركية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت القاعدة.

ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفا بشأن فيلم أوبنهايمر الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والإبداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أميركي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.

أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيرا على ركب فيلسوفة "الشر" ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر أو banality of evil في سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.

الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية الأميركية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني، سنجدها نهج دأبت الولايات المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.

سياسيا مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهما من المستشرقين الأميركيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات الشرق الأوسطية، المحللين والمبررين والمسوغين علميا وفكريا وقانونيا للكثير من السياسات والتصرفات الخارجية الأميركية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.

هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأميركيين، اللاعب الأبرز شعبيا على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأميركية، وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج "كيف تقتل بضمير مرتاح" دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.

البداية المبكرة كانت في العام 1949 عقب تقسيم برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، مرورا بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أميركية نشطة لتصوير بسالة أميركا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي الذي لم يختلف في إجرامه كما صورته هوليوود عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا، والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.

القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأميركية وتشويه سمعته واختزاله بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.

في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأميركية، كان لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه، بل هو خير نتائجه على فظاعتها أسدت البشرية معروفا بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.

هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أميركا للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!

استهداف المدينتان اليابانيتان قد يبدو شرا لناظره، لكنه شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.

هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور المنظومة الأميركية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزءا من فريق العمل، جميعهم كانوا جزءا من المنظومة البيروقراطية للدولة الأميركية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة، فهم لم يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة عنها.

لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسديا ونفسيا، إلا بشيء من الاستخفاف المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صور من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا تُكشف حجم المأساة بالتأكيد.

هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة، حيث أكد بأحدها مسؤول أميركي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف لكونها تحمل بعدا ثقافيا، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة زوجته!

ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتا إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأميركية ومدير مشروع مانهاتن، لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة أميركية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد حدث ذلك دوما عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقا بالضجة الكبيرة للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس يتم تحريك حبالها.

تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جدا لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأميركي ترومان له عقب مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.

أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.

عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أميركي American hero تم تقديره أخيرا بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!

أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر كهدف معلن، إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأميركي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث "كيف تقتل أميركا بضمير مرتاح"!