بعد حقبة ترامب.. هل تُبرأ الجراح بأميركا؟

ستنتهي حقبة ترامب الأكثر ظلمة في التاريخ الرئاسي الأميركي، لكن الأكيد أن العديد من قرارته وأفعاله لن تنهي عدالة قضايا تعرضت للظلم في عهده.
أربع سنوات صعبة سكتت فيها أميركا عن رئيسها الذي كسر كل المحظورات
‏ لن يكون دونالد ترامب الخاسر الوحيد والمعرض فقط للمساءلة والمحاكمة
قرارات ترامب لن تنهي عدالة قضايا تعرضت للظلم في عهده ومنها القدس كعاصمة لفلسطين

بسبب اقتحام الكونغرس الأميركي الذي نتج عنه مقتل خمسة أميركيين، إلى جانب السرقة والعبث بمحتوياته وإهانة كينونته، ستنتقم الولايات المتحدة ودستورها وقضاؤها وهيئاتها التشريعية والتنفيذية وإعلامها بزخمٍ شعبي من رئيسها المنتهية ولايته دونالد ترامب، وستجعل منه عبرة لكل من يحاول أن يقوض ديموقراطيتها التي تتغنى بأنها أم الديموقراطيات بالعالم المعاصر، وحامية قيمه وناشرتها كما تدعي وتتصرف على الدوام. فما فعله ترامب ومناصريه الجمهوريين وغالبيتهم من العرق الأبيض واليمين المتطرف لن يغفر، وسيقضي الفترة المتبقية بحياته لا حكمه فقط بمحاكمات وقضايا وحملات تشويه وإساءات، ستطاله وأسرته وأقرب معاونيه والمتمسكين بمناصرته حتى ربما يسجن أو ينفى أو يعزل ويدان.

صحيح أن الديموقراطية الأميركية كنموذج هي الأعظم بين جميع الأنظمة المعاصرة، كما هو دستورها الأكثر عدلاً وحقوقية، والضامن الأوحد لحرية العبادة والممارسة والكلمة والتعبير، إلا أنهما سيظهران وبلا شك ردات فعل متوحشة غير مسبوقة، وانتقامية مبنية على الاتهامات المتزايدة لتحريض ترامب مناصريه الغاضبين المشحونين بنظرية المؤامرة التي تعرض لها، وروج فيها لسرقة الانتخابات، وتزوير الأصوات، وسلب الفوز منه، لاقتحام الكونغرس المأساوي لاحقاً الذي كسر الهيبة الأميركية وشوه صورتها في العالم، وجعلها مادة للسخرية من مثيلاتها الديموقراطية والشمولية الديكتاتورية على حدٍ سواء. هذا الحدث السابقة في التاريخ الأميركي سيكون سبباً لأن يطاله ومن معه جميع أشكال التنكيل والتعنيف والتجريم، وما حظر حساباته بجميع وسائل التواصل الاجتماعي ومن يتضامن معه إلا مقدمة البداية للقادم، الذي لم يكن يتصور يوماً أن يكون مآله إليه، وهو الذي يتمتع بشخصية نرجسية لم تتعود الخسارة والتحجيم والتقييد على حديثه وظهوره الإعلامي.

‏بأميركا ووفقا للدستور، من حقك أن تلعن وتشتم وتتظاهر وترفع ما شئت من الأعلام والشعارات، وتحمل السلاح دون ان يتعرض لك أحد، وحتى لك أن تتبنى أكثر النظريات غرابة وتطرفًا كأتباع جماعة كيو أنون ‏QAnon، التي تحظى بشعبية بين العديد من مؤيدي ترامب وبعض الجمهوريين من حزبه، ويؤمن أتباعها بكونه نبي مرسل يخوض حرباً سريةً ضد عبدة الشيطان المسيطرين على الحكومة والاقتصاد والإعلام، ويعمل بشكل سري مع بعض العلماء لإيجاد علاج للسرطان. لكن حين تحدث إصابات بشرية وتخريب واقتحام لمقرات حكومية أو خاصة، فجميع الحقوق السابقة ملغية ولا وجود لها على أرض الواقع، أما التصرف تجاهها فمباشرةً بالقوة حتى لو كانت دموية، وشرسة عنيفة بدون أي محاذير وعواقب لفاعلها، ليلحق بها بعد ذلك تبعات الفعل القضائية العقابية التي لن تستثني أحداً مهما كانت منزلته ومكانته ونفوذه.

‏أربع سنوات صعبة سكتت فيها أميركا الدستور والديموقراطية عن رئيسها الذي كسر كل المحظورات والأعراف الدبلوماسية بالحكم والتعامل، وبتواطؤ من الحزب الجمهوري المستفيد من جماهيريته وقاعدته الشعبية، كما من الحزب الديموقراطي المُدرك لمآلات تصرفاته وفائدتها المرجوة على نفوذه مستقبلاً، وهو ما تحقق له بحصده نصاب الأغلبية بمجلسي الكونغرس وفوزه بالرئاسة. تغاضى المتربصون به عن أخطائه المنافية للقيم الأميركية انتظاراً للحظة المناسبة ليُجعل منه درسا لن يُنسى، وهو الذي منحها لهم بمحاولته تعطيل مهام الكابيتول أو الكونغرس، أعلى سلطة تنفيذية، صاحبة القبة في واشنطن الأعلى ارتفاعاً مقارنة بجميع مبانيها، في دلالةٍ رمزية على مكانته، التي لم تدنس إلا مرة واحدة في تاريخه حين أحرقه البريطانيون سنة 1814 نتيجة حرب انتقامية لمدينة يورك، بكندا حالياً، التي أحرقها الأميركيون قبلها بعام.

لن يكون يوم اقتحام الكابيتول 6 يناير 2021 كسابقه، فالمقر الرئيسي للسلطة التشريعية الاتحادية بالولايات المتحدة واجه العنف والفوضى لتعطيل تصويت أعضائه على أصوات المجمع الانتخابي لاعتماد فوز الرئيس المنتخب جوزيف بايدن، وهو ما تم بنهاية اليوم رغم ذلك، لكن ما أعقبه كان وما زال سعيا جدياً لعدة سيناريوهات لمعاقبة ترامب المتهم بالتحريض على الواقعة. فحتى اللحظة تتزايد الضغوط بوتيرة متصاعدة إعلامياً ومجتمعيا وسياسياً عليه والجمهوريين، بتشابهٍ مماثل لفضيحة نيكسون وحزبه عقب ما عُرف بووترغيت.

السيناريوهات المطروحة حاليا، منها عزله من منصبه وتولي نائبه مايك بينس مقاليد الرئاسة للفترة المتبقية من حكمه وفقاً للتعديل الخامس والعشرين من الدستور الأميركي، الذي ينص على القيام بذلك في حال تعذر الرئيس عن القيام بمهام الحكم، وهو الذي يستدعي طلب نصف وزرائه خطياً من نائبه بينس ‏إعفاءه، ليقوم بتوجيه طلب الإعفاء متضمناً الأسباب للجنة القضاء بمجلس النواب، ولجنة القواعد بمجلس الشيوخ، ليبدأ الكونغرس إجراءات البت فيها خلال يومين. من غير المتوقع نجاح هذا الإجراء، نظرا لصعوبة تحقيق النصاب الكافي لإقراره على مستوى الكونغرس وأعضاء الحقيبة الوزارية، وكذلك رفض مايك بينس له، خصوصًا إن كانت لديه تطلعات لخوض غمار الترشح لانتخابات الرئاسة في العام 2024.

السيناريو الآخر هو ‏عزله، وهو ما تم إقراره بمشروع قرار وافق عليه مجلس النواب بالأغلبية، ليتم رفعه لاحقا لمجلس الشيوخ لدراسته والتصويت عليه بالموافقة إن حصل على الأغلبية اللازمة لإجراء محاكمة له، يرأسها رئيس المحكمة العليا الأميركية، فيما آلية القيام بذلك تسترعي استدعاء كل من تثبتت الأدلة تورطهم، بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب، إيذانا ببدء المحاكمة المنتهية بجلسات مغلقة من المداولات، ومن ثم يتم التصويت النهائي على قرار إدانة الرئيس. جميع الإجراءات السابقة تتطلب وقتاً للوصول لقرار بالأغلبية في حال نجاح خطواتها، وتضامن لأعضاء من الحزب الجمهوري مع الديموقراطيين لتوفير الأصوات الكافية، وبالتالي من المؤكد أن المحاكمة ستستمر لما بعد تنصيب جوزيف بايدن رئيسا، ليكون الغرض حينها تجريمه سياسياً، والقضاء على حقوقيه الدستورية بالمشاركة السياسية مستقبلاً بعد أن بات لا يتمتع بالحصانة الرئاسية.

السيناريو الثالث المحتمل فقط في حال التوصل لتسوية بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، هو أن يستقيل الرئيس، ويتولى نائبه الحكم، ومن ثم يقوم بمنحه عفوا فيدرالياً مشابهاً لما قام به فورد مع نيكسون عقب فضيحة ووترغيت.
مقارنةً بالسيناريوهات السابقة، يبقى أحد أكثرها تحققا، والمتوقع حصوله مباشرة بعد انتهاء حصانة الرئيس نتيجة انتهاء ولايته في العشرين من يناير، تعرضه للمحاكمة في عدة ولايات أميركية لجرائم لا يغطيها العفو الرئاسي إن حتى مُنح له لكونها غير فدرالية، ومنها قضايا لتجاوزات قام بها قبل توليه الرئاسة ولا يشملها العفو، كالتهرب الضريبي، وغسيل الأموال، وتجاوزات جنائية، كما أخرى من المحتمل أن ترفعها جهات كشركة دومينيون مثلا تضررت جراء اتهاماته لها بدون أدلة بمشاركتها بتزوير الانتخابات، كما أي شخص تعرض للضرر من واقعة اقتحام الكونغرس الأميركي، علما أن خمسة أشخاص فيهم من قوى الأمن لقوا حتفهم جراءه.

أخيراً، لن يكون دونالد ترامب الخاسر الوحيد والمعرض فقط للمساءلة والمحاكمة، بل غالباً ما سيلحق به أفراد من عائلته وأعضاء من حزبه ومؤيديه إن ثبت ضلوعهم، أما الخاسر الأكبر سياسياً إلى جانبه فهو حزبه الجمهوري وأفراد من مشرعيه، فهو بحاجة لوقفة لإعادة هيكلة برنامجه، وتحديث سياساته ليكون قادرا على استدراك مخاسره في الانتخابات الرئاسية والتشريعية بما فيها الولايات المحسوبة عليه تاريخيا وصوتت للديموقراطيين، كما سيتحتم عليه أن يستوعب حجم التغيير الديموغرافي في الخريطة السياسية الأميركية، ويكون أكثر انفتاحا على الأقليات والتيارات السياسية المُستجدة.

‏ستنتهي حقبة ترامب الأكثر ظلمة في التاريخ الرئاسي الأميركي، لكن الأكيد أن العديد من قرارته وأفعاله لن تنهي عدالة قضايا تعرضت للظلم في عهده، ومنها القدس كعاصمة لفلسطين في ظل حل الدولتين المتفق عليها أمميا، وستبقى الجولان كذلك سورية، والمستوطنات مواقع غير شرعية محتلة بمنتجاتها، والصحراء الغربية بانتظار الحل العادل دون قرارات فردية مصلحية، فيما سيسقط جدار العار على حدود المكسيك، وتلغى العديد من القرارات الأخرى المتعلقة بالهجرة والأديان والاتفاقيات الدولية.