البحر يرى أن الرواية حياة مكتملة روحها اللغة

الكاتب المصري الذي يقيم في قلب الصعيد يعتمل داخله إرث يمتد عميقا في الحضارة المصرية، ويهتم اهتماما خاصا بالتراث والتاريخ.
الكاتب يؤكد أن جميع شخصيات روايته نبتت من المتخيل الإبداعي
الرواية ليست اختراعا ولا بحثا، بل رؤية خاصة للذات وللعالم

تحمل أعمال محمد صالح البحر الروائي منها أو القصصي عالما ثقافيا متفردا في تكويناته الإنسانية، حيث تجتمع فيها الأسطورة بالتاريخ والفلكلور والخرافة والتصوف، سواء على مستوى شخصياتها أو أحداثها أو نسيجها الذي يأتي سرده بلغة تفيض شعرية وشفافية وأحيانا غموضا مشوقا، فمن يقرأ رواياته "حقيبة الرسول" أو "موت وردة" أو "نصف مسافة" أو حتى المجموعات القصصية "أزمنة الآخرين" و"ثلاث خطوات باتجاه السماء" يدرك تجليات هذا العالم الذي يتشكل كما يقولون "على نار هادئة" ويستطيع أن يستدرج القارئ بسحره. 
فـالبحر الذي يقيم في قلب الصعيد (قنا) يعتمل داخله إرث يمتد عميقا في الحضارة المصرية، ويهتم اهتماما خاصا بالتراث والتاريخ سواء منه الشفاهي أو المكتوب، وفي روايته الأخيرة "حتى يجد الأسود منْ يُحبه" الصادرة أخيرا عن دار روافد نرى ذلك العمق وامتداداته التي نحاول في هذا الحوار إضاءتها. 
وحول أجواء كتابة هذه الرواية، قال البحر "كنت أجتهد في كتابة رواية أخرى، وكنت أظن أنها تملأ داخلي تماما، لكنني في نقطة ما، توقفت محتارا في الاختيار بين أمرين، كان كل منهما سيأخذ الرواية إلى طريق مختلفة، وقبل أن أحسم أمري اقتحمتْ مخيلتي صورة الوليد وهو يجري بموازاة البحر، وسرعان ما توالت الصور من خلفها، وهكذا وجدتني محتارا مرة أخرى بين أن أجتهد في الكتابة، أو أن أكتب ما يُملى علىّ، فاخترت طريق الإبداع، واستسلمت لتتالي الصور".

الحياة تعلمنا أن لا شيء يولد من تلقاء نفسه، وأن الشجرة لا تكتمل إلا إذا تراكم نموها في مرور الوقت، والإبداع أيضا هكذا

ونفى البحر أن تكون الشخصية الرئيسية "الوليد" أو أيا من شخصيات الرواية الآخرين، يجسد شخصية مماثلة في الواقع، وأضاف "جميع شخصيات الرواية نبتت من المتخيل الإبداعي، وأنا لا أعتقد أنه توجد شخصية واقعية حقيقية تقدر على تحمل كل هذا الألم الذي حملته شخصيات الرواية، حتى شخصية "السيدة فتحية" التي لمست أسطورتها أرض الواقع، متجسدة في "عين أم كامل" في عمق البحر، لم تأتِ على واقعيتها الكاملة أو الحقيقية، ولا يصح لها أن تأتي هكذا من وجهة نظري، فالإبداع ينطلق من الواقع لكنه لا يصوره فوتوغرافيا، ولا يصير انعكاسا تاما له على الإطلاق، كل ما في الأمر أنني اضطررت إلى قطع رحلة الكتابة للسفر مع الأولاد إلى مدينة مرسي علم لقضاء أسبوع إجازة عند أختي، كنت أخاف كثيرا من هذا التوقف أن يطول، فتتوقف الرواية معه، لكنني هناك عرفت حكاية أم كامل، التي غرقت في البحر ليلا وهي تعود إلى بيتها، بسبب ضعف بصرها، وأطلق الناس على الحفرة التي غرقت فيها على بُعد مترين من شاطئ البحر "عين أم كامل" فرأيت ذلك التلاقي الذي احتفظ بنضوج الصور وتدفقها بداخلي".
ولفت البحر إلى أن "الرواية لا تُنشئها الفكرة، بل الرؤية، الرواية ليست اختراعا ولا بحثا، بل رؤية خاصة للذات وللعالم، ومحاولة دؤوب للوصول إلى معرفتهما، والكشف عن الأسرار التي تتنازع دواخلهما، الأفكار يحكمها المنطق، وتمتلك يقينها الوقتي أو الثابت، بينما الرواية يحكمها التأمل ولا تمتلك غير إحساسها سبيلا للوصول إليه، الأفكار تستقيم دائما في أنساق ثابتة تخصها، لكن الرواية لا تحدها الأنساق، وتكمن روعتها في قدرتها على زحزحة الأنساق القديمة لحساب أنساق جديدة ومغايرة، تعرف أنها ستهدمها في أقرب وقت ممكن، الرؤية هي الرحم المناسب لنمو الرواية، أن تمتلك زاوية تنظر بها إلى ذاتك وإلى العالم، فتراه على هيئة معينة تخصك وحدك، ثم تأتي الرواية وتأخذك للوصول إليه، فتُدهِش نفسك قبل أن يندهش العالم من حولك. 
هكذا رأيت كل الأنقياء الذين مروا على العالم من قبل، وهم يستميتون في إهداء الورود إليه، بينما العالم يسحقهم بلا رحمة، ويقيم لهم القبور كل يوم، ومع ذلك لا تتوقف الأرض عن إنباتهم من جديد، بل وكلما كثرت القبور زادت خصوبة الأرض بهم، وكأنهم يتساقطون من السماء، فوددت لو أنني أقيم لهم تلك المدينة التي تقدر على أن تكون شاهدا على مرورهم الدائم من هنا، شاهدا على تقاطرهم من السماء وكأنهم سحب لا تكف عن إسقاط المطر، وأن المحبة التي تغذيهم ليس لها أن تنتهي مهما بلغت قسوة الحياة".
يبني البحر في "حتى يجد الأسود منْ يُحبه" مدينة جديدة تنمو بنمو أبطاله، تبدو كأنها مدينة المستقبل، سألناه بشأنها قال "لو استشعر حسك الإبداعي أنك ستقع في أسر التصورات السابقة، فمن الأفضل لك أن تلزم مكانك، فالثبات في الطريق أقل ضررا من إكمالها في أحراش لا تهدي إلا إلى المتاهة، ولا تعرف السير إلى الأمام بقدر ما تلتف حول الحِمى لتقع في العبث، هكذا نفضتُ رأسي قويا قبل البدء في الكتابة، ليسقط عنه كل تصور سابق، واجتهدت كثيرا للابتعاد عن يوتوبيا المدن الفاضلة التي بلا وجود حقيقي، أو مثالية مدن المستقبل المتخيلة بلا واقع يمكن الاستناد إليه، لعلك لن تصدقني الآن وأنا أخبرك، إنني دخلت التجربة بلا تصور مسبق لماهية محددة عن هذه المدينة، لكن هذا ما حدث، لقد تركت الكتابة تقودني إليها، كنت أمتلك تصورا شبه مكتمل عن الشخصيات، العوالم التي أفضتْ بهم إلى هذا الشاطئ تحديدا، شبكة العلاقات التي ستربط بينهم، والمصير الذي يتجهون إليه، وبذات القدر كنت أمتلك إجابات شبه مكتملة أيضا، عن بعض الأسئلة، لماذا البحر؟! لماذا هذا الشاطئ تحديدا؟! كيف سيتم تشييد "صخرة العشاق" في مرور الوقت؟! مَنْ سيسكن العمارة، ومن سيمكث خارجها؟! 

كل شيء بدا ناقصا أكملته الكتابة من بعد، وفي نضوج التجربة ـ التي استمرت لأكثر من سبعة شهور متصلة في الكتابة، ومثلها في المراجعات ـ أسبغتْ عليه ما فاق تصوراتي الأولية بكثير، فقد بدت المدينة مكانا مختارا من قبل كل هذا، بكل تفاصيلها وبكل الأشياء التي ظلتْ تموج في شوارعها وعمارتها وشاطئها وبحرها الممتد إلى الأفق البعيد الغائر، وهو يطل على البلاد التي ترقد على الشاطئ الآخر. وربما هكذا أعتقد، "إن على النص أن يخلق مكانه الخاص به، مكانه الفني الذي ينبت من داخله، والذي مهما تناص أو امتزجتْ صفاته بأية أمكنة أخرى، فإنه لا يشبهها على الإطلاق". 
وأكد البحر أن العلاقة في أي عملية إبداعية بين الواقع والمتخيل علاقة تبادلية، لكنها ليست على ذات القدر من التساوي، فالمتخيل ينطلق من الواقع بكل تأكيد، لكنه لا يأخذه معه في رحلة الطيران، ولا يعود إليه أيضا، الواقع يهبنا المواد الخام اللازمة، لكن الخيال هو الذي يمزجها ويشكلها وينضجها لكي تصير على هيئتها التي تثير الدهشة، ولا مجال للتكافؤ ههنا. 
وكون البحر يلعب دورا مهما في هذه الرواية فيما لا يعيش البحر قرب البحر أشار إلى أن "من أهم الأشياء التي تميز المبدع قدرته على اكتشاف الدهشة التي تختبئ في مفردات واقعه، وكل تناقض يتم اكتشافه يحمل دهشة ما، فما بالك وأنت تعيش في واقع يحيا أصلا على المتناقضات، يضع كل مفرداته الحياتية في ثنائيات متقابلة لينحت طريقه بينها، وهو يظن أنه يقيم توازنه الخاص الذي يكفل له القدر المناسب من الحياة، إنه توازن التحايل على الحياة في ظل قسوة مجتمعية مفرطة، تحكمها التقاليد الموروثة ويغيب عنها القانون والعلم والحرية، أحيانا كثيرة أعتقد أن المجتمع الصعيدي ليس حقيقيا، فلكل شيء فيه وجهان متضادان، الدين والتعليم والأخلاق والقانون والحب والكره وبالتالي الإنسان، وعليك أن تجتهد كثيرا للوصول إلى الوجه الحقيقي إن استطعت، لذلك ستبدو كل التصورات التي اختزنتها طفولتك عن العالم غير حقيقية عندما تكبر، ومنها تلك المفردة الكبيرة "البحر"، التي يطلقها الصعيديون على النيل، وليس البحر الكبير المالح، لقد تجسد البحر في مخيلتي حلما حمل أسطورته الخاصة لسنوات طويلة، وكان من الصعب أن يتفتت في مرور الوقت، لذلك بدت فكرة تجسيده في حياة روائية تخصني حلما يحمل أسطورته الموازية ويتمنى التحقق، إضافة إلى تلك التحديات الكبيرة التي يضعها المبدع أمام نفسه كل حين، مختبرا قدرته على التجاوز، ومنها أن تكتب بصدق، وليس بحرفية، عن أماكن لم تختبر طعم الحياة فيها، ولم تتفتت نظرات أهلها في روحك. 
أيضا في جل أعمال البحر ثمة أجواء ضبابية تتراوح بين الواقعي والأسطوري والصوفي، وهذه الأجواء تحملها لغة فيها الكثير من الشعرية، وهو الأمر الذي قال عنه البحر "دعنا نفترض أنه الأسلوب، أو العالم، أو المنهج، أو الطريقة التي تنثر بها روحك في أرواح الآخرين، إنها تلك البصمة الخاصة التي يقتل المبدع نفسه من أجل الوصول إليها كي تهبه الخلود، لا تتكرر، بل يتراكم نورها الخاص ليهبها أكبر قدر ممكن من الوضوح، كما إنني أؤمن أيضا أن الإبداع يكمن في تلك المسافة التي تفصل بين الواقعي والمتخيل، دون الركون إلى أحدهما، وتتسع بحسب قدرة المبدع على الجري فيها، فهنا يوجد كل شيء، الحلم والفانتازيا والأسطورة، الأمنيات والتصورات والرغبات، المحبة التي تعلو بك والقسوة التي تردك إلى أسفل، لكنه ليس وجودا مصمدا تستقل فيه الأشياء بذاتها، بل وجود التداخل والامتزاج والتوحد، وحدة الوجود التي يتضافر فيها كل عنصر بالعناصر التي تجاوره، وكل العناصر متجاورة من أجل الاكتمال، من أجل اجتياز "ضباب التجربة" والوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل تلمس أطراف محبتها في الأعلى، حيث لا أحد يقدر على الوصول منفردا إلا منْ امتلأتْ روحه بهذا الاكتمال".

مسيرة المبدع لا يحددها عدد الأعمال الإبداعية التي ينتجها، بل يشير إليها ـ بأصابع من نورـ نمو التجربة الإبداعية عنده، فنيا وفكريا، وقدرتها على التأثير

وأضاف "أما اللغة فهي جناحا الطائر الذي يحملك في الرحلة، وتقاس قدرتها بالشعرية، لكنها ليست شعرية التجرد، أو الصوت الغامض أو المنفرد المنكب دوما على ذاته، بل شعرية تجسيد المعنى في أدق صوره، وصولا إلى عمقه الغائر، وكشفا عن تفاصيل علاقاته المتشابكة، ووجوده المعقد الفريد، اللغة هي نقطة الدم التي تبغي الوصول إلى أدق شرايين الجسد وأرفعها لتهبه الحياة، ثم تلقي محبتها في روحه وهي تعلمه كيف يمارسها، الرواية حياة مكتملة، روحها اللغة، وروح اللغة الفن، ولا حياة بلا فن، ترقص فيه شاعرية المعنى على أنغام الموسيقى، ويكتمل فيه جمال الصورة السينمائية بألوان اللوحة، ويتسلل فيه الإيقاع إلى صلابة النحت حتى يرقص، فهكذا فقط تكتمل الدائرة". 
ورأى البحر أن "الحياة تعلمنا أن لا شيء يولد من تلقاء نفسه، وأن الشجرة لا تكتمل إلا إذا تراكم نموها في مرور الوقت، والإبداع أيضا هكذا، محاولات لا تنتهي من تراكم الخبرات، لا شيء يتكرر عند المبدع الحق، بل ينمو ويكبر مع الزمن، متخذا أشكالا لا حصر لها، ومطاولا لأبعاد لم يكن ليحلم بها قبل خطوة واحدة من الآن، المبدع هو الإنسان الوحيد الذي يتمنى دائما أن يتقدم به العمر، يتمنى لو أنه يسبق الزمن ليكبر سريعا، دونما أدنى خوف من الشيخوخة أو العجز أو حتى الموت، لأنه يعرف جيدا أن ذلك هو الطريق الوحيدة للوصول إلى النضج وامتلاك الحكمة، النضج الذي يؤهله إلى فهم كل شيء بهدوء شديد، والحكمة التي تجعله يقول كل شيء بطريقة مدهشة، مهما اختلفت عن الواقع، أو اصطدمت به. 
مسيرة المبدع لا يحددها عدد الأعمال الإبداعية التي ينتجها، بل يشير إليها ـ بأصابع من نورـ نمو التجربة الإبداعية عنده، فنيا وفكريا، وقدرتها على التأثير.