البلاد التي نتخيلها ونسميها وطنا

العراقيون شعب عريق يتذكر موتاه بطريقة كريمة بعد أن أذلهم وهم أحياء.

أعرف أن الوطن صار فكرة تطل برأسها من الكتب المدرسية وليس من السليم أن نبحث عنها في أي مكان، حتى لو كان ذلك المكان صندوقا خشبيا مهملا تركه الأجداد إرثا وحيدا يشير إلى أزمنة تعاستهم. تلك محاولة يائسة، بل وقد تكون خطرة. لكن متى حدث كل ذلك؟ أقصد أن تحل الفكرة محل الواقع. ربما كانت الأمور على هذا الحال منذ آدم. فلا أحد في إمكانه أن يؤكد أن آدم كان مواطنا ولا ذريته كانوا مواطنين. لقد خُلقنا خارج المكان الذي سميناه وطنا. فلا أثر له. كلما مضى الوقت نندفع إلى الهامش ولا يثقل أقدامنا إلا الغبار. غبار يخرج من مسامات أجسادنا كما لو أننا مكائن تنتجه وغبار يرسم خرائط عزلته على صفائح عيوننا فيبدو كل شيء مغبرا. الحقول صحراء والنوافذ آهات وليست البيوت سوى واحات مؤقتة.

أما "موطني موطني" فتلك زهرة بلاستيكية وُضعت على ظهر بيانو سُرقت مفاتيحه. أحدهم أراد لنا أن نبقى أطفالا في الوقت الذي نستقبل فيه شيخوخاتنا. لم يكمل ذلك التونسي جملته "لقد هرمنا". حتى حين نذهب إلى القبور فنحن لا نتخلى عن حقائبنا المدرسية. طواويس بحناجر ببغاوات. موطننا جميل فيما القبح يمرغل ذاكرتنا بأوحاله. موطننا نبيل وأحلامنا وضيعة. موطننا رؤوف وفي أرض القسوة ينبت عشب أرواحنا. لن تضع يدا على صدرك لتقول "وطني هنا" فذلك يفسد ما تبقى من دمك. نخرج من الدرس ونعود إليه لنستيقظ بين إغمائتين. فرصة للضحك بين دمعتين. خطوة إلى للأمام وخطوتان إلى الوراء. أهذا ما قاله العم ماو؟

في الطريق إلى الوطن. كنا في المحمرة والبصرة وراءنا. ما الذي كنا نفعله هنا بعد أن صار الوطن وراءنا؟ "نفذ ثم ناقش" ذلك أمر حزبي. الحزب يعرف كل شيء. حتى لو لم نجد الوطن إذا ما عدنا أحياء فإن الحزب سيعدنا بوطن أجمل من ذلك الذي اخذه العثمانيون معهم. "وطن مد على الأفق جناحا". فإذا كنتم عاجزين عن رؤيته فالعيب فيكم وليس فيه وإلا لمَ ذهبتم إلى الحرب وعدتم أنصاف عميان؟ لذلك فإن الشهداء أكرم منكم جميعا. ومَن لا يجد الوطن في سوق العطارين فهو قد فقد حاسة الشم. ومَن لا يسمع موسيقاه الجنائزية في سوق الصفافير فإنه قد حُرم من حاسة السمع. ومَن لا يراه في سوق الصدرية فاتحا ذراعيه لبائعات حليب لجاموس فلم ينعم الله عليه بحاسة البصر. لا بصيرة لمَن لا يبصر. ذلك ما قاله الحزب ومَن لا يعمل لا شرف له. أكان الوطن جرسا ليُعلق في أعلى البرج الذي هدمته الطائرات حين مرت من أجل أن تُلقي علينا الورود؟ في المشهد الأخير يظهر الوطن مثل حجارة، مكتوبة عليها أسماؤنا. كل هذا المجد ألا يكفي؟

تمكنت منا الرثاثة وهو ما يجعلنا في حاجة إلى وطن ليجددنا. ليس الوطن مقهى ولكنه أيضا ليس ثكنة عسكرية. ليس الوطن الحديقة ولكنه ليس مكب نفايات عقائدية. بعد أن كنا أسرى عاطفته صرنا أسرى رثائه. والوطن ليس مكانا لتبحثوا عنه. هو أي شيء سوى أن يكون مكانا. ستجدونه في الكتب والأناشيد والأمثال والأحلام و"بلادي وإن جارت عزيزة". هكذا يكون المواطن الصالح. ألم تعرفوا أن العراقي الميت هو المواطن الجيد. العراقيون شعب عريق يتذكر موتاه بطريقة كريمة بعد أن أذلهم وهم أحياء. لا بأس. أن تكون مواطنا مؤجلا خير من أن تكون عراقيا ميتا. ولكن مَن يقول إن اللعنة لن تطاردك حتى لو كنت برفقة عزرائيل؟ ذلك افتراض ليس إلا.

وبعد "وطن مد على الأفق جناحا" عدنا إلى "موطني" بعد جولة كشافة سقطت فيها علينا قنابل بحجم الامطار التي حجبت سفينة نوح عن النظر. أما مَن ركب السفينة فقد كُتبت له السلامة. بعد غربة يذهب العراقي إلى وطنه فلا يجده. لا يجد فنجان قهوته الذي تركه على الشرفة ولا ينتبه إلى أن الشرفة لم تعد موجودة. سنتناول إفطارنا على حطام البيت. لا أنت ولا البلاد التي عدت إليها ستكونان في مأمن من الفكاهة السوداء التي أرسى الحزب قواعدها. عليك أن تضحك. فبعد أن كنت لا تشم ولا تسمع ولا ترى فأنت اليوم كائن لا تُرى. الذين حرروك لن يجدوا ضرورة للاعتراف بوجودك. لن يروك. لم يرك أحد قبلهم. ذهبت إلى الحرب دفاعا عن الوطن الذي لم تره ولم تسمع صوته ولم تشم رائحة حنانه وعدت إلى الوطن وقد تحول إلى فكرة.