البنية الأُسطورية في "اللامتناهي سيرة الآخر"

الكاتبة السورية مها حسن أرادت في روايتها نَحت شخصية بمواصفات أسطورية بناءً على برنامج سردي مُتكىء على ثلاثة مصادر.
الأسطورة هي مجال يتقاطعُ فيه الأدب والفلسفة وما يجمعُ بين المفاهيم الثلاثة هو السؤال "ماذا لو؟"
رواية "اللامتناهي سيرة الآخر" تعتمد على مكوّن الشخصية مع تحديد التواريخ التي تولّدت فيها

لا يَنحصر التعامل مع الأسطورة في استلهام ما توارث من الحضارات القديمة وإعادة توظيف الرموز الأسطورية في السياقات الحديثة والأدوات التعبيرية المُستحدثة، كما نجدُ في السينما والنصوص الأدبية والإشهارات التجارية، بل قد تَتخذُ بعض المُعطيات الواقعية بعداً أسطورياً من خلال إظهار خصوصيتها المتوالدة من ظروف وأجواء مُعيّنة. لذا، كثيراً ما يتخيّل للمتلقي المدن والأماكن والشخصيات المُشار إليها ضمن الأعمال الأدبية في صورة أسطورية، ومن هنا يَنشأ الفرق بين المشهد المكاني الذي تتم معايَنته في الواقع وما يكتسبه من دلالات جديدة في المُخيلة.
الأسطورة هي مجال يتقاطعُ فيه الأدب والفلسفة وما يجمعُ بين المفاهيم الثلاثة هو السؤال «ماذا لو؟» كما أنّ الوظيفة التي حدّدتها كارين أرمسترونغ للأسطورة، بوصفها رغبةً للتعالي على المُتشظّي والمأساوي، تُضاهي ما يتطلّعُ إليه الإنسان من التأمّل للإمكانيات الوجودية القائمة عبر صيغة الأدب، وهو أمر قد تَتَمثّل الرواية لمُتطلباته أكثر من أي فن آخر. فمن المعروف أنّ الشخصيات الواقعية أو التاريخية حالما تنتقلُ إلى حلبة السرد الروائي تصبحُ مشحونة بصفات أسطورية، وإذا غابَ هذا العنصر في تركيبتها الجديدة تفقد مبرّرات متابعتها في السياق السردي. عليه، فإنّ المُراد بالأسطورية هنا ليس وجود قدرات خارقة بل ما تكتنزهُ الشخصية من الإيحاءات المضمرة والصريحة المرتبطة بحيثيات السرد. 

 القارىء لا يتقيّد بموقع الراوي لمتابعة سيرة أدهم، إنما تفتحُ شهادات مُتضاربة حول أدهم الذي يتورّط في قتل صاحبة المنزل التي أرادت مسح شخصيته الجديدة

أرادت الكاتبة السورية مها حسن في روايتها «اللامُتناهي سيرة الآخر» نَحت شخصية بمواصفات أسطورية بناءً على برنامج سردي مُتكىء على ثلاثة مصادر: ذكريات أدهم بن ورقة الشفوية، وكتابات أدهم التحريرية التي دوّنها في دفتر بعناوين متعددة، والمعلومات المنقولة من نسائه. وبهذه اللعبة الميتاسردية تَمكّنتْ حسن من شدّ المتلقّي إلى مسالك سيرة شخصيتها الإشكالية.
أكثر من حياة
تعتمد رواية «اللامتناهي سيرة الآخر» على مكوّن الشخصية مع تحديد التواريخ التي تولّدت فيها، ويستدعي هذا الأسلوب إلى الذهن رواية «ميتتان لرجل واحد» لجورج آمادو، وذلك لأنّ الشخصية الأساسية هي قوام المنظومة السردية أيضاً. وما تدورُ عليه رواية «اللامتناهي» هو رصد الحيوات التي تختبرُها شخصية أدهم، مع وجود فارق أنّ شخصية الموظف المُستقيم في رواية آمادو عندما يصبح سكّيراً ونديماً للصوص يسقطُ عنه اسمُه السابق ويظهر باسم جديد، بينما لا يتبدّلُ في بطل «اللامتناهي» غير تاريخ الميلاد والبيئة الأسرية التي تتكفّلُ برعايته. 
وما يلفتُ في شخصية أدهم بن ورقة هو غياب الإشارة إلى لحظة وفاته، وهذا ما يزيد من غموضه وطابعه الفنتازي إذ تتناسخُ روحه ليس في أشكالٍ وأسماء جديدة مثل شخصيات فرناندو بيسوا، إنما في أزمنة مُختلفة. طبعاً السؤال الذي تضمرهُ التواريخ المختلفة يضيفُ بعداً أسطورياً للشخصية، وكلما يَصل السرد إلى لحظة ميلاد جديد لأدهم يستشفُّ المُتلقي ظِلَّ كلمة محذوفة، وهي ماذا لو ولد بهذا التاريخ؟ وهنا يتحمّلُ الراوي بصياغة حياةٍ مُفترضة. إذاً، تتسلسلُ نسخُ هذه الحيوات بالشكل الذي يتخايلُها مَنْ يقوم بتنظيم حركة السرد. وما يقوله ميلان كونديرا عن منهجِ كارلوس فونيتس انّه يقنعك بضرورة وجود حيوات مُتعدّدة لخلق كائن بشري واحد، ينطبقُ على أسلوب مها حسن وتدوين ولادة شخصية أدهم بن ورقة والإبانة عن صفاتها وسلوكياتها، مع إيراد تفسيرات مُختلفة لعبارة أو كنية ابن ورقة. يُشار إلى أنّ الأسماء الواردة في هذا النص تحيلُ إلى شخصيات تاريخية أو رمزية، فـ "سلمى" مَثلاً تذكّرك بمحبوبة الحلّاج.
الموت المقهور
إذا كان الموت يقهرُ الشخصيات الأسطورية التي تفشل في تحقيق حلم الخلود، فإنّ أدهم بن ورقة يفوق على هؤلاء بتوالده المستمر ولامُتناهية سيرتهِ والاحتمالات التي يفترضها لشخصيته في أشكالٍ وبيئات مُتابينة، وهذا ما يحيلك إلى شخصية أماديو إيناسيو دي ألماد في رواية «قطار الليل إلى لشبونة». يقول أدهم: «ولو أنني ملكتُ القدرة على اختيار أمي، فلن أختار أمي أمّاً لي، بل سأختار أماً بمواصفات مغايرة». تعبّرُ هذه الكلمات عن رغبةٍ لتجريب شكل آخر من الحياة لا تتقيّد فيها المشاعر بشروط مُسبقة. أكثر من ذلك، فإنّ أدهم يعلنُ تمرّده على سلطة الأُسرة قائلاً إنّ نجاحك المُستقبلي يكمنُ في مُخالفة والديك. كما أنّ كراهيته تطال القوانين التي تحرّم المتعة، وانَّ ما يحكمُ العلاقات البشرية حسب رأيه هو قانون السيّد والعبد، وما على المرء إلا الاختيار بين الاثنين.

novel
الرجل القوي رجل وحيد

لا يصعبُ على القارىء إدراك النزعة النتشوية الدفينة في هذا الملفوظ. حتى قبل أن يصرّحَ أدهم بإعجابه الشديد بفيلسوف المطرقة إلى حدّ التماهي، إذ فضّل العزلة مثل نيتشه مدوّناً عبارة الأخير على باب غرفته «الرجل القوي رجل وحيد»، لكنّ أدهم لا تخذله المرأة. بخلاف المرارات التي ذاقها الفيلسوف الألماني على الصعيد العاطفي، فإنَّ بن ورقة يجد عَزاءه في سلمى، فهي الاستثناء من بين الآخرين الذين يعتبرهم رياحاً مسمومة تقوّضُ عزلته. 
إضافة إلى فلسفة نيتشه، فإنَّ ظلال الفلسفة الوجودية والنظرة الكافكاوية والرؤية السقراطية للموت تمتدُّ في جسد النص، فيرى القارئ في مشكلة أدهم مع يديه وغيرة أحدهما من الأخرى، وامتعاضه من حيادية المقابل والنفور من الأب ملمحاً كافكاوياً، ناهيك عن الرغبة التي تُراوده في أحد أطواره لإلغاء الماضي وتحرير البشر من هذا الكيس المُثقل على الرأس.
ما يعودُ بنا إلى زوربا الذي طلب من شخصية الأستاذ مَسح كلّ ما تراكم في جوف رأسه. وممّا يُضاعف من غرائبية أدهم الذي يتحوّلُ إلى بؤرة العمل منذ لحظة انطلاقة السرد، إضافة إلى ميلاده في عدّة أزمنة حيث تختلفُ سلوكيّاته وانطباعاته جرّاء صروف الدهر، وهو المرويّات التي تَتمفصل في بناء النصّ حول أصول ابن ورقة أو يرقة وذيوع صيته بهذه الكنية. تارة يكونُ التفسير هو أنّ أمه تربّي الحشرات واليرقات، وتارة أخرى تُنسب تسميته المركّبة إلى اسم أمه حرقة مع التحوير في أحد الأحرف، كما يفيد رأي آخر أنّ أدهم ولد مجهول الأبوين وكانت بيده ورقة لذلك سُمّي أدهم بن ورقة.
والأهم في هذا المنجز الروائي هو تواصله مع نصوص أخرى سواء كان فلسفياً أو أدبياً. عندما يتحدث أدهم عن الغيرة يتراءى للمتلقي أنسي الحاج، وحين يُقدّم رأيه عن الحُب تشعر بنفحات صوفية، هكذا هو اسم واحد بأفكار وأبعاد لامُتناهية. وما يجدرُ ذكره أنّ القارىء لا يتقيّد بموقع الراوي لمتابعة سيرة أدهم، إنما تفتحُ شهادات مُتضاربة حول أدهم الذي يتورّط في قتل صاحبة المنزل التي أرادت مسح شخصيته الجديدة. مستويات متعددة للمنظور، وهذا يعني أنّ تيار السرد لن يقع في مطب أحادية الرؤية.