التاج يتهاوى بين حب السلطة وحب الوطن

"في سبيل التاج" رواية تمثيلية وملحمة شعرية لشاعر الضعفاء والمحزونين الفرنسي فرانسوا كوبيه، صياغها بالعربية الأديب والشاعر مصطفى لطفي المنفلوطي.
مُت شريفاً أيها الرجلُ العظيم كما عشت شريفاً، وسأتبعك إلى سمائك
الحياة الذليلة خيرٌ منها الموت الزؤام
الحرية حياة الأمم وروحها، والرق موتها وفناؤها

حمل لنا الأدب عمومًا من روايات وكتب تاريخية، أخبار حروب كثيرة عرفها تاريخ البشرية منذ الأزل وإلى اليوم، كان سببها طموح الوصول إلى كرسي الحكم والسلطة، فقتل الابن أباه من أجل الوصول إلى الحكم، وقتل الأخ أخاه من أجل الاستئثار بالسلطة، أما الرواية الشعرية "في سبيل التاج" التي نحن اليوم بصددها فقد حوَّلَ حب الوصول إلى العرش القائد الشجاع ميشيل برانكومير من قائد الجيش العظيم - الذي قاد المعارك الباسلة لسنوات طويلة استطاع فيها التصدي للدولة العثمانية والحول دون وصولها إلى حدود البلقان للسيطرة عليها وضمها إلى أملاكها - إلى خائن  لولا تدخل ابنه قسطنطين في الوقت المناسب.
"في سبيل التاج" رواية تمثيلية وملحمة شعرية لشاعر الضعفاء والمحزونين الفرنسي فرانسوا كوبيه، تمت صياغتها بالعربية على يد الأديب والشاعر مصطفى لطفي المنفلوطي وصدرت نسختها العربية في سنة 1920 وأهداها المنفلوطي إلى البطل المصري سعد زغلول فقد كانت مصر تمرُ في تلك السنوات بمحنة سياسية عصيبة. 
تدور أحداث الرواية في القرن الرابع عشر وتسجل الوقائع الحربية التي كانت قائمة آنذاك بين الدولة العثمانية والشعوب البلقانية. في تلك الفترة العصيبة توفي الملك ميلوش ملك البلقان فكان التنافس على سدة الحكم بين قائد الجيوش البلقاني ميشيل برانكومير وبين الأسقف أتين وهو الراهب الذي كان له فضل كبير سابقاً في تحرير البلقان من السيطرة العثمانية. 

عندما أجد سياسياً واحداً يعترف أنه دخل المعترك السياسي لمصلحته الخاصة ومجده الشخصي أولاً، وليس حباً بالمساكين والفقراء والطبقات الكادحة، سأدعمه لصدقه النادر

"من الذي ينكر أنه هو الذي علّم الشعب البلقاني دروس الوطنية الشريفة العالية، وغرس في قلوبهم أن الحياة الذليلة خيرٌ منها الموت الزؤام، وأن الحرية حياة الأمم وروحها، والرق موتها وفناؤها، وأن الأمة التي ترضى بضياع حريتها واستقلالها وتقبل أن تضع يدها في يد غاصبها إنما هي أحط الأمم وأدناها وأحقها بالزوال والفناء".
لم يكن التاج حلماً من احلام القائد برانكومير حتى توفيت زوجته الأولى وتزوج بعدها من فتاة تصغره بسنوات عديدة يونانية من أصل بيزنطي، الأميرة بازيلد أجمل نساء المدينة، هامَ بها برانكومير وفضّلها على كل من حوله حتى ابنه قسطنطين الفارس الشجاع الذي ورث الاخلاق الكريمة عن والدته والشجاعة والعزيمة والصبر واحتمال المكاره في سبيل الوطن عن والده.
كانت بازيلد امرأة طموحة طامعة تهمها مظاهر العظمة وعند وفاة الملك ميلوش بدأت تحث زوجها برانكومير على أن يسعى للوصول إلى كرسي الملك وكانت تجاهر دائماً بنبؤة تنبأها لها كاهن عراف عندما كانت صغيرة فقال لأمها: "إن ابنتك سوف تصبح ملكة عظيمة الشأن". 
وظلت تغرس هذه الأمنية في نفس زوجها حتى بدأ يناقس الأسقف أتين على العرش فأخذ يدعو الناس لنفسه ويستكثر من انصاره واشياعه "إنك ستكون ملكاً يا مولاي، وستكون أعظم ملوك العالم شأناً وأرفعهم مقاماً، وستجتمع فوق عرشك الرفيع الأمجاد الثلاثة: مجد النسب، ومجد الحروب، ومجد الملك، وقد ألقي الكاهن في نفسي كلمته التي تنبأ لي بها".
حتى جاءت الرياح بما لاتشتهي السفن، فقد قررت الجمعية الوطنية بأن يكون الأسقف أتين هو الملك لاحتياج البلاد إلى خبرة القائد برانكومير في ساحات القتال، فعظم الأمرُ على القائد الشجاع رغم محاولات الأسقف كسب وده، الأمر الذي دفع بازيلد إلى الاتفاق مع الجاسوس التركي بانكو، بأن يسلم زرجها حدود البلقان للجيش التركي مقابل أن يحكم برانكومير البلاد باسم الدولة العثمانية، "في سبيل التاج" والوصول إلى سدة الحكم استطاعت بازيلد وبتأثير سحرها اقناع برانكومير بيع البلاد والعباد مثلما يقول المثل، لكن في الوقت المناسب كشفت سرهم ميلتزا الفتاة النورية التي أنقذها قسطنطين من يد أحد فرسان الترك الذي كان يضربها ويعذبها عذاباً شديداً.  

novel
الخلود في ذاكرة الأجيال المقبلة

وأحضرها إلى القصر لتصبح جاريته وأقرب الناس إليه، هامت به عشقاً مما جعلها ترتاب من تصرفات زوجة أبيه فبدأت بمراقبتها حتى كشفت سرها وسر برانكومير فنبهت سيدها، ليضطر قسطنطين إلى مواجهة والده من أجل الحفاظ على وحدة البلقان وحمايته من العثمانيين، ليختار بين أعز الحبيبن على قلبه وطنه، لقد كانت كفة الوطن راجحة، وقتل بذلك أباه منقذاً البلقان من اتفاق الذل الذي صادق عليه أباه وزوجته في الوقت المناسب وأصبح هو قائد الجيوش البلقانية. 
لكن بازيلد تنتهز وقيعة بينه وبين الجيش فتظهر للملك وثيقة الاتفاق الموقعة بين القائد والجيش العثماني وتتهمه بخيانة الوطن مما يضطره للسكوت حافظاً على شرف أبيه فيحكم عليه أن يربط بتمثال أبيه وأن يسمح لأي مواطن أن يذله، وهنا قبل أن تمسه أيادي المتجمهرين في ساحة الحكم تظهر ميلتزا فتطعنه بخنجرٍ كان قد أهداه لها "مُت شريفاً أيها الرجلُ العظيم كما عشت شريفاً، وسأتبعك إلى سمائك" وتطعن به نفسها من بعده وترحمه من مرارة الذل والهوان، فشكرها بين أنفاسه الأخيرة، وكانت صورة حزينة لكل من حضر الحكم، ولا بد للحق أن يظهر ولو بعد حين، فتنكشف الحقيقة بعد خمسة وثلاثين عاماً عندما حضر بازيلد الموت فظلت تهذي بها في مرضها وترددها في يقظتها وأحلامها وتتألم لذكراها، ويكتشف العامة أن قسطنطين برانكومير أشرف الناس وأفضلهم وأعظمهم إخلاصاً في سبيل الوطن،  فقد ضحى بأبيه في سبيل الوطن وضحَّى بنفسه في سبيل شرف أبيه. 
ولقد ذهب النقاد في تقدير هذه الرواية مذاهب شتى حتى قال عنها بعضهم: إنها خير ما أخرج للناس من عهد راسين إلى يوم ظهورها، وقال عنها إيميل فاجيه: "إذا نظرنا إلى ما في الفصول الأولى من القوة والمتانة والوضوح مع البيان والبلاغة وحسن التصوير: أمكننا أن نحكم بأن هذه الرواية ستمثل إلى ماشاء الله بدون أن يملها الجمهور أو يشعر بسأم من سماعها، وإن فرانسوا كوبيه بكتابته للفصل الثالث منها على الأخص قد ضمن لذكراه الخلود في ذاكرة الأجيال المقبلة. وهو الفصل المعنون في التعريب بعنوان "الجريمة". 
ومثلما قال الشاعر والمخرج السوري عمر حكمت الخولي: "عندما أجد سياسياً واحداً يعترف أنه دخل المعترك السياسي لمصلحته الخاصة ومجده الشخصي أولاً، وليس حباً بالمساكين والفقراء والطبقات الكادحة، سأدعمه لصدقه النادر!".