الترجمة وتطور الذائقة الأدبية

على الناقد مراجعة عدته ومساءلة أدواته لأنَّ ما كان يعتمدُ عليه سابقاً قد لا يصلح لمقاربة النصوص الحديثة.
الترجمة تدعم الإنفتاح والتواصل مع الآخر والمُختلف وبذلك يصبحُ هذا النشاط الثقافي علاجاً إستباقياً للتزمت والإنسداد الفكري
عدد كبير من الأدباء العرب إستفادوا من الروايات الروسية المترجمة في صياغة منجزاتهم الأدبية واتخذ النص الروائي شكلاً مركباً

تدشين عملية الترجمة ضرورة معرفية وحضارية يجبُ أن تأخذ طابعاً مؤسساتياً ولا يتم الإكتفاء بالجهود الفردية على هذا الصعيد، ومن المعلوم أن السر وراء ازدهار مراحل معينة من تاريخ الحضارات يكمنُ في الإهتمام بمشاريع ثقافية، وتأتي الترجمة لتدعمَ الإنفتاح والتواصل مع الآخر والمُختلف وبذلك يصبحُ هذا النشاط الثقافي علاجاً إستباقياً للتزمت والإنسداد الفكري فكان الخروج من نفق التخلف والتعصب والتخثر الفكري مرتبطاً باغتراف من روافد حضارية مُتعددة حينئذٍ ينموُ الفكر ويتجددُ كما يتقبلُ الفضاءُ قراءات مُختلفة وتختفي هيمنةُ المنطق الأُحادي في مسار التفكير، ويكونُ الحوارُ خياراً مُجتمعيا بدلاً من حملات التكفير وإصدار الأحكام بإلغاء المخالفين فكريا أو دينياً. 
مع إنطلاقة مشروع الترجمة في العصر العباسي ظهرت تيارات فكرية أنتجت إجتهاداتُ أصحابها للنصوص المقدسة رؤية مُغايرة لمعطيات دينية وعقائدية وهذا وفر مناخاً مواتياً لسجالات ونقاشات فكرية واستتبع ذلك الإنشقاق داخل المذاهب والجماعات، وكل ذلك كان مؤشراً للحراك الفكري والزخم الحضاري والنضج العقلي.
الإستنارة
طبعاً لولا العودة إلى التراث الإغريقي ومعرفة المنجزات الفكرية للحضارة الإسلامية ما تمكن الغرب من عبور العصور المظلمة والإنطلاق نحو مرحلة العطاء الفكري والفلسفي. إذاً فإنَّ النهضة الفكرية والأدبية والفنية مرهون بالإنفتاح على الآخر، ولا يمكنُ إنجاز هذا التحول دون وجود مشاريع الترجمة التي تلعب دوراً أساسياً في إرساء مفهوم التنوع في كل المجالات، كما تصبح داعماً مهماً للتنمية الحضارية إضافة إلى أن اللغة بوصفها وعاءً للفكر ومعبراً للقيم والسلوكيات قد تتخشبُ وتدخل في طور الركودِ مع غياب مشروع الترجمة لأنَّ التفاعل مع اللغات الأخرى هو ما يحقق للغتك تجدداً وتطوراً مع بداية القرن العشرين عندما تعمق الوعي بما وصلت إليه الدول الغربية من الإزدهار الفكري وتابع المثقفون نتاجات الآخر قد ظهرت أشكال أدبية جديدة دون أن يكون لها جذور في التراث العربي، وذلك يعتبر إضافة للغة والفكر ومن ثم تطورت اللغة الشعرية وتخلصت من قيود مُثقلة لحركتها، وبذلك أصبح الشعر متحرراً من سطوة الشكل وإكتسب وظيفة جديدة ومع مضي الوقت دخلت مصطلحات وتوصيفات جديدة في المعجم الأدبي قصيدة "النثر، هايكو، النص المفتوح، الشذرات ".
قنوات التواصل
ولم يكن التفاعل منحصراً بالتراث الأوروبي إنما مع العقد السابع للقرن العشرين فتحت قنوات التواصل مع الآثار الأدبية للأمم الأخرى ودار الحديث في مطلع الثمانينيات حول الواقعية السحرية قبل ذلك فإنَّ عدداً كبيراً من الأدباء العرب إستفادوا من الروايات الروسية المترجمة في صياغة منجزاتهم الأدبية وإتخذ النص الروائي شكلاً مركباً، وإنعطف نحو منحى جديد، كما راجت الفلسفة الوجودية ومناقشة الأسئلة الماهوية في سياق النصوص الأدبية، وفي ذلك كان التأثر واضحاً برواد الوجودية خصوصاً سارتر وكامو وألقت الكافكوية بظلالها على الأعمال الأدبية، وكانت بعض أصوات أدبية نسائية مطبوعة أيضاً بما ساد في الغرب من الإتجاهات النسوية إذ تستشفُ ظلال أفكار سيمون دي بو فوار وفرانسواز ساغان في النصوص الروائية الصادرة من مطلع الستينيات.

ما ينقل من اللغة الأخرى لا يبسطُ بظلاله على الأثر الأدبي فحسب إنما يغير نظرة القاريء وذائقته وذلك يعد تحدياً بالنسبة للأديب العربي

ذائقة القاريء
لا يصحُ الحديثُ عن دور الترجمة دون رصد تمثلات التحول لدى القاريء نتيجة متابعته للنصوص الأجنبية حيثُ تبدلت ذائقة القراء ورؤيتهم للأثر الأدبي بموازاة استمرار نقل المؤلفات الأدبية، ولم تعد البلاغة والفخامة اللغوية مؤشراً لجودة النص بقدر ما أنَّ المواكبة مع الوقائع والهموم الإنسانية هي ما تشغل اهتمام الكاتب ويعملُ عليه لإستقطاب الجمهور القراء مع فاتحة الألفية الجديدة صار إيقاع التحولات أسرع كما تم نقل الأعمال الأدبية خصوصاً الرواية بغزارة، كما زاد إهتمام القاريء بما يترجمُ بحيثُ تتصدر الروايات المترجمة سلم أكثر الكتب مبيعاً في المعارض.
ومما صعّدَ من مستوى تداول الأعمال المترجمة هو إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي حيث أصبح المجالُ متاحاً لكل شخصٍ ليعبر عن نظرته وينشر رأيه ويناقش غيره حول الظواهر الأدبية، هذا الواقع الجديد يكون عاملاً لتشكيل الذائقة المُختلفة، وإذا كان الناقد العربي يفوتهُ دائماً إجراء مقارنةٍ بين النص المكتوب بالعربي وما يترجم فإنَّ القاريء العادي بدأ يتساءلُ عن المواضع التي تتقاطع فيها المؤلفات المنشورة بالعربية والأعمال المترجمة صحيح قد تمَّ البحث عن أثر بعض الأدباء العالميين في الروايات العربية غير أنَّ هذا الموضوع يستدعي دراسة أعمق ومقاربة دقيقة لأنَّ ما ينقل من اللغة الأخرى لا يبسطُ بظلاله على الأثر الأدبي فحسب إنما يغير نظرة القاريء وذائقته وذلك يعد تحدياً بالنسبة للأديب العربي إذ كلما يتابعُ القاريء منجزه يستدعي تجربته مع النصوص المترجمة.
وما يجدر بالذكر في هذا السياق هو التحولات التي يشهدها النص الروائي من حيث الشكل والصياغة إضافة إلى توالد ثيمات جديدة مرتبطة أكثر بواقع الحياة والتحديات، والتطورات العلمية بحيثُ يعجنُ الروائي معلومات طبية وبيئية ورقمية في لحمة نصه الأمر الذي يفرضُ على الناقد مراجعة عدته ومساءلة أدواته لأنَّ ما كان يعتمدُ عليه سابقاً قد لا يصلح لمقاربة النصوص الحديثة، زد على ذلك فإن قراءة نصوص مترجمة لا بدَّ أن تكون من أوليات الناقد إذا أراد معرفة خطوط التطور في الرواية العربية، وينجزَ قراءة موضوعية للإصدارات الجديدة ويتفادى الوقوع في شرك التدوير، وما يبعث على التفاؤل في حركة الترجمة هو إزدياد عدد المتخصصين في لغات مختلفة وهذا يعني عدم الإعتماد على اللغة الوسيطة، إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية برز من بين الجيل الجديد المترجمون من الصينية والكورية والإيطالية، كما أن بعض دور النشر العربية بدأت بنقل المؤلفات الأجنبية وفق برنامج مُحكم كل ذلك يخدم المستوى الثقافي ويفتح حلقات تواصل جديدة مع العالم بأسره ويضيف كثيراً إلى الوسط الأدبي مع توالي الترجمات للمؤلفين المعاصرين، ولا يعاني القاريء من حالة التكلس والتراوح في دائرة أسماء معينة إنما يصبح مدار رؤيته أوسع كلما زادت متابعته لعدد أكبر من المؤلفين خصوصاً لمن يكتبون بغير لغته.