التمويل الحكومي للصحافة: شر عادل أم لا بد منه

حتى إذا قدمت الحكومات ضمانات معلنة للصحف بعدم التدخل في طبيعة خطابها مقابل قبول التمويل، فلا أحد يثق بها، لأن هذه الأموال لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع جوهر الصحافة.
الصحافة تواجه اليوم قطع مواردها من أجل كسرها وتقويضها

يعاد في أروقة الصحف الغربية السؤال الذي تم تناوله منذ عقود في الصحافة العربية عن التمويل الحكومي؟

ومع أن التاريخ الصحافي العربي المعاصر لا يتحدث عن تجارب مستمرة لصحف خارج تمويل الحكومات، فإن الحكومات العربية لم تسمح بأي حال من الأحوال للصحف بالخروج عن سطوتها، لذلك لم تفكر الصحف العربية بالقارئ بقدر تفكيرها بإرضاء الزعيم والرئيس والأمير، لا يهم كم توزع إذا كانت الصحيفة موجودة على طاولة الرئيس صباح كل يوم!

اليوم تعيش الصحافة الغربية مأزق التمويل، فهي لم تعد قادرة على الاستمرار بعد أن استحوذ الإنترنت على إيرادات الإعلانات، وتراجع عدد المشتركين، وما بقي للصحف -حتى الرصينة منها وذات المسؤولية العالية- غير القرّاء الأوفياء الذين يعيشون سنواتهم الأخيرة!

بينما الحكومات لا تدفع أكثر من ضريبة كلامية وهي تتحدث عن الانفتاح على وسائل الإعلام وتبادل المعلومات بحرية ودعم وسائل الإعلام، لأن النخبة السياسية عندما تصل إلى موقعها لا تهتم بغيره بالقدر الذي يبقيها متنعمة.

هذا ما يجد له المخرج الأميركي تشارلز فيرغيسون إجابة في دفاعه عن وسائل الإعلام، وهي تعيش زمنا غير عادل بحقها بالتزامن مع ضغوط مالية كبيرة من أجل كسرها وتقويضها.

ويعود فيرغيسون إلى التاريخ من أجل تأكيد فكرة أن الصحف لا تستطيع كشف مواضع الفساد والتزوير ونهب المال العام، إن لم تكن قوية ماليا ورابحة تجاريا.

لذلك تبحث الصحف الغربية اليوم عن مصادر تمويل وهي تقترب من الكسر بعد أن دخلت السوق المريضة، وتلجأ إلى الحكومات التي طالما انتقدتها وقادت المعارك ضدها. فنموذج الأعمال التجارية للصحافة المحلية ينهار، وهي بحاجة ماسة إلى النظر في خيارات جديدة ومبتكرة بشكل جذري.

لم يشك ريتشارد سامبروك، أستاذ الصحافة في جامعة كارديف ورئيس مجلس وسائل الإعلام المستقلة، في الشقاق القائم والمتصاعد بين وسائل الإعلام والحكومات، لأن الشكوك لم تتراجع بشأن قدرة السياسيين على قبول مساءلة الحكومة، بينما تلقي حرية التعبير بظلالها على وجـوب التزام وسائل الإعلام برسالتها.

هناك مشاريع عن تمويل جماعي وبيع أسهم للقراء بينما فكرة التمويل الحكومي حاضرة بقوة، من دون أن تشعر كبرى الصحف بالخجل من طرق هذا الباب.

ولاية نيو جيرسي الأميركية مثلا خصصت مليوني دولار لدعم الصحف المحلية، وفي كندا أنشأت الحكومة صندوقا بقيمة 600 مليون دولار تهدف إلى دعم الصحافة من خلال مجموعة متنوعة من الإعفاءات الضريبية والمنح. بينما استنجدت صحف أخرى بأثرياء ورجال أعمال للتبرع لها. من دون أن تكشف عن طبيعة الاتفاق معهم، وعما إذا كان خلف تلك المعونات تقديم “خدمات صحافية” مدفوعة الثمن!

لا أحد يعتقد أن أموال الحكومة تأتي من دون شروط تفرضها على الصحف، لكن ثمة من يرى أنها وفق أسوأ الأحوال أفضل من إغلاق أبواب الصحف وتوقفها عن الإصدار.

هذا الأسبوع أعاد موقع” ذي ميديا توداي” الأميركي المهتم بشؤون وسائل الإعلام في نقاش مفتوح مع خبراء الإعلام، سؤالا عما إذا كان التمويل الحكومي للصحف شرا لا بد منه، أم هو في النهاية أشبه بشر عادل! وتلك مفارقة مثيرة عن ربط الشر بالعدالة.

ولم يجمع المشاركون على فكرة محددة بقدر إجماعهم على الخطر المحدق بحرية الصحافة إذا دخل إلى أروقتها المال الحكومي، “ماذا ستعلق حكوماتنا العربية في هذا الشأن؟”.

وحتى إذا قدمت الحكومات ضمانات معلنة للصحف بعدم التدخل في طبيعة خطابها مقابل قبول التمويل، فلا أحد يثق بها، لأن هذه الأموال لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع جوهر الصحافة بوصفها خدمة عامة. ثم من قال إن الحكومات -حتى الديمقراطية منها- ضامن محب للحقيقة وحرية تبادل المعلومات؟

الأصوات التي ترحب بالتمويل الحكومي تثير تجربة هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” التي تدار بأموال دافعي الضرائب، لكن التاريخ يحدثنا بشكل دائم عن قناة سرية مرتبطة منذ أيام تشرشل إلى بوريس جونسون، ما بين 10 داوينغ ستريت ومبنى بوش هاوس!

البعض قد ينتقد نموذج تمويل هيئة الإذاعة البريطانية، ولكنه وفق أحد المشاركين في النقاش المفتوح لموقع “ذي ميديا توداي” “أقل ضررا من النموذج التجاري للصحافة الذي ينهار على نفسه حاليا”.

ثمة رأي رحّب بالتمويل، لكنه رفض أن يكون مجرد كيس من المال تضع فيه الحكومة تبرعاتها، لماذا لا تساهم كبرى الشركات التكنولوجية، فيسبوك، غوغل مثلا؟

مقابل كل ذلك يتصاعد سؤال عما إذا كان يوجد “الخيال السياسي لخلق بيئة استثمار في بنية تحتية غير ربحية مستقلة لدعم الصحافة مهما كانت ظروف السوق؟” فمن الصعب أن نتصور كيف يمكن معالجة أزمة الصحافة دون صندوق مالي شفاف داعم للصحف المركزية.

سبق وأن طالب كارل بيرنشتاين الصحافي والكاتب الأميركي الذي ساهم في كشف تداعيات فضيحة “ووتيرغيت” بألا تضع أية حكومة قيودا من الترهيب أمام الصحافة الحرة، وإلا فستبقيها في الظلام، محرضا الصحافيين على مقاومة خطر وقوع الديمقراطية فريسة للاستبداد والديماغوجية وحتى الإجرام من قبل القادة المنتخبين والمسؤولين الحكوميين.

من المفيد هنا استعادة جملة كتبتها من قبل لإعادة توظيفها في فكرة “الشر العادل”! في تمويل الصحف، بطريقة إذا كانت عبارات مثل “السياسيون يبنون أعشاشهم مع بطانتهم الخاصة وغير مبالين بالناس” و”إنهم مهتمون فقط بالسلطة” مألوفة لدى الرأي العام، فكيف يراد من الإعلام أن يقوض هذه الصورة في ذهن الجمهور عندما يشير بوضوح لا لبس فيه إلى أخطاء رجال الحكم والكوارث التي تترتب عليها، وهو يتلقى المال من سياسي تلك الحكومات!

الصحافة لا تواجه اليوم بما يسمى بـ”المكر الشيطاني” المتهمة به، بل بقطع مواردها من أجل كسرها وتقويضها.