التناقض بين الهوية الذاتية الصينية والفهم المعقد للعصر في 'النسمات الضاحكة'

أحداث الرواية تدور انطلاقا الخمسينات حتى عام 2019، وتحكي قصة حب وزواج الكاتب داتشنغ وتكشف عن صدمة أفكار جيل كامل نتج عن تقلبات العصر، كما تجسد مصائره ومشاعره.

ما يقرب من سبعين عاما بين نشر الروائي الصيني وانغ منغ روايته الأولى "يحيا الشباب" عام 1953 ونشره روايته الأخيرة "النسمات الضاحكة" عام 2020، عرك خلالها تطورات رؤاه وأفكاره الإبداعية وتمردات الكتابة وانعكاسات عمله السياسي والإعلامي، وما أحرزته الصين من تقدم هائل على كافة المستويات الأمر الذي كان له أثره البالغ على الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية داخل المجتمع الصيني، هذه الحياة الثرية جعلت لتجربته نسيجا فريدا في التنوع والثراء، حيث جمعت ما بين الرواية والقصة القصيرة والشعر والمقال والمؤلفات الفلسفية والعلمية.

يحكي وانغ منغ الذي تقلد منصب وزير الثقافة بين عامي "1986 ـ 1989" في روايته الأولى "يحيا الشباب" أسطورة أيديولوجية عن الشباب والأزمنة، وهي تمثل تعبيرًا غنائيًا رومانسيًا وعاطفيًا لحياته الحقيقية في الأيام الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، أما في روايته الأخيرة "النسمات الضاحكة" التي ترجمتها ميرا أحمد وصدرت أخيرا عن دار غراب للنشر، فيقدم مراجعته وفهمه وفحصه للتاريخ والأزمنة والحياة بعد أن شهدت الصين تطورات هائلة في مختلف المستويات في سنوات الأخيرة.

تؤكد المترجمة ميرا أحمد في مقدمتها للترجمة أن أعمال وانغ منغ عكست رحلة الشعب الصيني على درب الحياة المليء بالأشواك، حيث قدم إسهامات عديدة وابتكارات جديدة في العمل الأدبي حتى أصبح واحدًا من أهم الكتاب الذين أثروا الأدب الصيني المعاصر، وحافظوا على حيوية الطاقات الإبداعية في ذلك الوقت.. لقد فتح "وانغ منغ" آفاقًا جديدة محلية للكتابة الأدبية في تيار الوعي الذى يفوق في أهميته تيار السرد النظامي للعالم الخارجي، إذ يصور الكاتب المشاعر والأفكار المتدفقة التي تمر في عقله. وقد اتسمت روايته في الثمانينات التي تنتمي إلى تيار الوعي بالنهايات المأساوية برسم شخصيات قد جسدت ضحايا الثورة الثقافية، وقد اختلف تيار الوعي لديه عن تيار الوعي الشائع لدى بقية الكتاب؛ فقد أطلق عليه بعض الباحثين تيار "الوعى الثوري" الذى راح يستكشف من خلاله أنماطًا سردية مبتكرة في الكتابة الأدبية، ويلقي الضوء على ما فعلته الثورة الثقافية في نفوس شبابها.

وتلفت إلى أن وانغ منغ يرى في رواية "النسمات الضاحكة" أنها "غير مسبوقة" في تاريخ كتاباته وتستحوذ على نفسه استحواذًا كبيرًا". وتوضح أن "الرواية تواصل تركيزها على موضوعات مثل الشباب والزواج والحب والأزمنة والتاريخ، ويتنامى فيها السرد بعاطفة مشبوبة وحساسية مرهفة، وهي رواية ذات لغة خاصة جدًا، ومفعمة بالحيوية وثرية بالمعلومات والمعرفة، وتحمل أحداث ولقطات مكثفة. لتشكل بالفعل شهادة حية على التاريخ البعيد استنادًا إلى الحاضر".

تدور أحداث الرواية انطلاقا الخمسينات حتى عام 2019، وتحكي قصة حب وزواج الكاتب داتشنغ، وتكشف عن صدمة أفكار جيل كامل نتج عن تقلبات العصر، كما تجسد مصائره ومشاعره. لا تتعمد وصف العصر وتقديمه في اتجاه واحد، ولكنها تُخفي العصر المتغير باستمرار في التجارب الحياتية لشخصيات الرواية، فنجد أن تقلبات الزمن وتقلبات الفرد تردد صدى بعضها بعضًا، ويتداخلان ليشكلان تعدد الأصوات، وبذلك تتحقق الجدلية بين الفرد والأزمنة، وتجعل الرواية نفسها مليئة بـالطبيعة المعاصرة. لذلك، يستخدم وانغ منغ تاريخ حياة داتشنغ وتيانمي وشياو جون وشخصيات أخرى في الرواية للتدخل في التاريخ، ومراجعة تفكيره، والتعبير عن العلاقة بين الزمن والفرد، هذه العلاقة الحاضرة بقوة في السرد، والتي تكشف صدى التغيرات المعاصرة للصين على الحياة الشخصية. إن وانغ منغ هنا لا يربط حياة الذات الصغيرة بالعصر الكبير فحسب، بل يظهر أيضًا ارتباك الفرد وفهمه لتعقيد العصر في السرد المتشابك.

وتشير ميرا أحمد إلى أن الرواية ليست عرضًا تاريخيًا بسيطًا ووصفًا لأحداث عدة عقود من تاريخ الصين، لكنها تحمل ثمانين عامًا من الخبرات الحياتية والتراكمات العاطفية للكاتب، وتحقق التواصل مع معاصريه والاقتراب من حقيقة الحياة وواقعها المعاش، واستيعاب جوهر البشر وسبر أغوار العالم الإنساني. وفي الوقت نفسه، يتسنى للقارئ التعرف على كيفية ارتباط وانغ منغ بالصين القديمة والتعبير عن التكامل المتعدد وتجسيد العديد من المفاهيم والأفكار التي تدور حول قضية الحوار والتواصل، وهذا بشأنه يُفضي إلى حالة الصخب وتعدد الأصوات الداخلية في أعمال وانغ منغ، مما يشكل التوتر الجدلي بين الداخل والخارج، وبين المعاني الصريحة والضمنية، وبين المثالية والواقع. وكما تحدث وانغ منغ من قبل عن "النسمات الضاحكة"، قائلًا: "ربما يُفهم الاسم على أن النسمات تحمل أصوات الضحكات، وربما يقال أن النسمات تضحك، وربما يقال أن الضحكات تأتي مع هبات النسمات، وربما يقال أن النسمات في حد ذاتها تضحك، فالرواية لا تحمل صفة واحدة، بل على العكس، نجد أن المساحات الفارغة من السرد مليئة بالتشابكات والمواجهات مع الزمن والبشر".

 وتؤكد أن جدلية "النسمات الضاحكة" تنعكس في التناقض بين الهوية الذاتية والفهم المعقد للعصر، فسواء كان داتشنغ أو تيانمي أو شياو جون، فثلاثتهم رواد اجتاحهم تيار العصر الدافق، وعلى الرغم من المسار المغاير لكل شخصية منهم، إلا أن ثلاثتهم اتفقوا في السعي وراء البحث عن الهوية الشخصية وقيمة الذات، كما هو الحال لدى داتشنغ وتيانمي، حيث كانا محاصرين في مستنقع الزواج بالإكراه، ولم يستطع كل منهما معرفة الآخر طوال سنوات الزواج، وعجز داتشنغ عن التخلص من حياته الزوجية الرتيبة، ومن ناحية أخرى، كان يتوق إلى الحب الصادق الذي طالما كان يبحث عنه، وفي النهاية لم يستطع كبح زمام عواطفه وانحرف عن المسار. وعصفت بكيانه شتى التناقضات والصراعات؛ ما بين عدم رغبته في انتقال زوجته للعيش معه في مدينة عمله، ثم تردده في اتخاذ القرار والانتقال للعيش مع شياو جون، ثم الشوق والحنين إلى حياته الأولي في كنف زوجته وأبنائه. وعلى الرغم من أن تيانمي امرأة تقليدية ريفية، إلا أنها كشفت عن مشاعر التسامح في سنواتها الأولى، ثم تحولها إلى رائدة أعمال ناجحة، وكان ضعفها يكمن في تعلقها بالرجل وانتمائها الكامل له، وذلك بسبب رواسب النظام الإقطاعي القديم المتأصلة في وجدانها، ومحاولتها المستميتة في الحفاظ على الكيان الأسري من التشتت والانهيار. ويبدو أن شياو جون كانت هي النسمات الضاحكة التي ظل يطاردها داتشنغ فترة طويلة، وكان الجمع بين امرأتين في قلبه أمرًا غير أخلاقي، فوطن النفس على أن يضع حدًا لهذه المهزلة ويبدأ قصة زواج جديدة بمحض إرادته، بعد أن وجد بغيته وعرف معنى الحب الحقيقي، وفي النهاية تزوج من شياو جون سليلة الحسب والنسب، التي كانت هي أيضًا في أمس الحاجة إلى الحب والاحتواء، وعلى الرغم من الخيارات المختلفة لشخصيات الرواية، إلا أنهم اجتمعوا على شيء واحد وهو البحث عن هويتهم الخاصة مثل سعي داتشنغ وراء الحب الصادق، ورغبة تيانمي في الحفاظ على كيان الأسرة، وولع شياو جون بالأدب والحب، وفي النهاية عاشوا الخسارات وبعد الخسارات بلغوا مرحلة التصالح مع الذات، وأدركوا تغير الطبيعة البشرية، وعدم دوام الأحوال والتناقض في الهوية الذاتية.

وتضيف ميرا أحمد "كان للمرأة حضورًا قويًا في الرواية، سواء كانت نساء معاصرات أو تقليديات، وبرع وانغ منغ في وضعهنّ في المسار التاريخي وفي وسط التشابكات مع الأبطال الذكور، ومراقبة عالمهنّ الداخلي ومصائرهنّ وتقلباتهنّ، أو يمكن القول أنه من خلال الجوانب العاطفية للمرأة عكس وانغ منغ الأوضاع التاريخية. ويذكر أن صورة تيانمي، تلك المرأة الريفية التقليدية في الرواية تحمل السمات الرمزية للمرأة الريفية مثل: المثابرة والتحمل والجمال والعطف والتضحية والتفاني، ولم تكن الصورة متدنية المستوى للمرأة الريفية منذ التسعينيات، وعلى الرغم من أنها امرأة ريفية ذات مستوى تعليمي متواضع جدًا، إلا أنها نجحت في أن تصبح رائدة أعمال ناجحة بعد قدومها إلى المدينة، واستطاعت تحقيق فلسفتها النضالية والسعي وراء القيم، وبالطبع، كان الوعي التقليدي الإقطاعي الريفي لا يزال يترك آثارًا على جسدها، أي سيكولوجية الانتماء والاعتماد على الرجل. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم تصوير شياو جون، وهي امرأة حضرية في الرواية، على أنها صورة سلبية للمرأة أو أنها مذنبة بسبب حبها لداتشنغ، بل على العكس من ذلك، فهي تمثل نقاء الشعر وأناقة الحكمة، كما أنها هي من لمست حقًا نار الشباب وتدفق الحب المختبئ في قلب داتشنغ لسنوات عديدة، وهي من أسكنت قلبه الواجف بسبب لهثه وراء الحب. وبذلك تتحقق العلاقة بين اصطدام النفوس واندماجها. ويمكن القول أن "النسمات الضاحكة" تتخلى عن الحكم القيمي الثنائي المتعارض لأحدهما أو للآخر، سواء كانت تيانمي أو شياو جون، فإن الكاتب لا يربطهما بالخير العظيم والشر العظيم، أو الخطأ والصواب، ولكنه يتجاوز الخطأ والصواب، فالخطأ في حد ذاته يحترم كل امرأة، ويمنحها التعاطف والتفهم، ويمنحها القيمة والكرامة التي تستحقها.

وتقول "إذا نظرنا إلى تاريخ الإبداع الأدبي لوانغ منغ في السبعين عامًا الماضية، لوجدنا أنه يمثل استجابة لتطور الأدب الصيني المعاصر، وشهادة على تغيرات المجتمع وتحولاته. إن التغيرات في التاريخ والأزمنة لا تنطوي فقط على تعديل السياسات الاقتصادية والسياسية، ولكنها تنطوي أيضًا على تحول في الثقافة الاجتماعية الجديدة، وما ينتج عن ذلك من توسيع للهوية الجماعية لـلمجتمع. ومن خلال التركيز على مصير داتشنغ في الرواية، ربط وانغ منغ بشكل واضح الروايات الشخصية بالروايات التاريخية عن قصد أو عن غير قصد. وفي تحول الزمان والمكان، فإنه يوفر للقراء وجهات نظر متعددة الأبعاد وفعالة لاستدعاء التاريخ، وفحص الطبيعة البشرية، والتفكير في التاريخ. ومن ناحية أخرى، يفضل الثمانيني وانغ منغ الاهتمام بمشاعره والتعبير عنها في الحياة. وبالمقارنة مع اللغة المتدفقة في الماضي، من الواضح أن روايات وانغ منغ في السنوات الأخيرة أضافت "خطابًا غنائيًا" أكثر عاطفية ومباشرة، وتحدث وانغ منغ عن هذه النقطة قائلًا: "القوة الدافعة الأكبر هنا هي العاطفة". وعندما يُسكب هذا الشغف في الإبداع، فإنه سيؤدي دون وعي إلى تغييرات متكررة في وجهات النظر السردية، والعرض المباشر للعوالم النفسية للشخصيات، وظهور مزيج من العناصر مثل الشعر الكلاسيكي، والشعر الحديث، والأغاني، والرسائل، والأمثال، وسيل لغة وانغ منغ المثير للجدل الذي لا يمكن إيقافه. ولا يمكن تجاهل أن "الخطاب الغنائي" في الرواية هو أسلوب سردي أو أسلوب لغوي "كرنفالي"، وتوافق تمام الاتفاق مع مزاج الكاتب وعاطفته.

وحول تحمسها لترجمة هذه الرواية تختم ميرا أحمد مقدمتها موضحة "بعد الانتهاء من ترجمة رواية "مشاهد من شينجيانغ" لوانغ منغ، شعرت أن القدر قد جمع بيني وبين هذا الكاتب، وأن الحكاية لن تتوقف أحداثها عند ما ترجمتي لقصصه القصيرة أو عند هذه الملحمة التاريخية والإنسانية.. وعندما صدرت رواية النسمات الضاحكة في عام 2020 لم أتردد لحظة واحدة، وطلبت منه الموافقة على أن ترجمتها للعربية، فلاقى طلبي ترحيبًا كبيرًا لديه. وهي رواية "غير مسبوقة" في تاريخ كتاباته وفقا له. وقد لفت إلى موضحا "ربما يُفهم الاسم على أن النسمات تحمل أصوات الضحكات، وربما يقال أن النسمات تضحك، وربما يقال أن الضحكات تأتي مع هبات النسمات، وربما يقال أن النسمات في حد ذاتها تضحك، فالرواية لا تحمل صفة واحدة، بل على العكس، نجد أن المساحات الفارغة من السرد مليئة بالتشابكات والمواجهات مع الزمن والبشر".