الثابت والمتحول في صحافة النخبة

التاريخ دائما يحمل صفعات قوية لأولئك المراهنين على صحافة لا تقبل سوى السمع والطاعة لأوامرها ونواهيها.

تعتقد بعض التيارات الراديكالية الأشرس تشددا أن صحافة ما أطلق عليها صحافة النخبة قد أفسدت على الناس كل مرافق ووسائط وروافد حياتهم، ويرى بعض زعمائها أن الصحافة النخبوية أسهمت بصورة مقصودة في تعطيل مصالح العامة، بل ويذهب غلاة الرأي منهم أن هذا النمط الصحافي أتلف أخلاق الناس ومزق روابطهم وكانت لها في حياتهم الخاصة والعامة أسوأ الأثر.

ولا يستطيع منكر أن يخفي حقيقة مفادها أن بعض التيارات الراديكالية المتشددة في البلدان العربية نجحت في صناعة عدو افتراضي لها في الداخل اسمه صحافة النخبة، واستطاعت في فترة زمنية قصيرة أن تلصق بهذه الصحافة العديد من التهم التي لا تخرج عادة عن إثارة الفتن السياسية، ومحاولات تعميم الصيحات الليبرالية الفجة، وأخيرا ما تثيره الصحف والمطبوعات التابعة للتيارات المتطرفة بأن صحافة النخبة هي مخطط خارجي لضرب استقرار الأوطان وزعزعة معتقداتها الثابتة.

والغريب أن الصحافة التابعة لثقافة النقل القائمة على السمع والطاعة لم تقدم دليلا دامغا لتوصيف ما يسمى بالصحافة النخبوية أو صحافة النخبة، والتي يمكن أن نوصفها بأنها النمط الصحافي الذي يتحرى الدقة والموضوعية وتميل على الاتزان بمعالجة القضايا وتركز على التحليل والشرح والتفسير وتأويل الأحداث والوقائع الزمانية والمعاصرة بصورة محايدة، مهتمة في ذلك بإعلاء شأن العقل وضرورة إعمال الفكر في كل طرح ثقافي أو سياسي أو اجتماعي، وتوزيعها التجاري أقل لكن مادتها أعمق.

بخلاف الصحافة الشعبوية أو الجماهيرية البسيطة من ناحية التقديم والمعالجة والعرض اللغوي التي تنقسم إلى قسمين؛ قسم رسمي يتمثل في الصحف القومية اليومية التي أصبحت عادة شرائها من مستلزمات الحياة اليومية للمواطن الذي اعتاد أن يقرأ العناوين العامة لها دون الولوج في التقاط تفاصيلها الدقيقة من أخبار أو مقالات أو تحقيقات. وقسم ظهر بشكل سريع في ظل النجاح المتأرجح زمنيا ومكانيا أيضا لانتفاضات الربيع العربي والمرهونة وقتئذ بالقضاء على حالات الانفلات الأمني، هذا القسم راح يؤجج لثقافة الرفض للنخبويين باعتبارهم من سمات العقود المنصرمة، بل وعمقت الفجوة بين صحافة تدعو إلى نهضة العقل وبين الأغلبية التي ارتأت أن صحافة النخبة هي التي ساعدت الطغاة في الوصل إلى الحكم عن طريق التأييد المطلق وفي هذا لغط شديد.

هذا اللغط تبين في انتفاء وجود صحافة الأغلبية المطيعة قبل انتفاضات الربيع العربي، ولولا وجود صحافة غير موجهة سياسيا ما قامت تلك الانتفاضات الشعبية من الأساس، لأن الكلمة الحرة التي لم تقيدها آنذاك هراوات البوليس، ولا الغازات السامة والدخانية هي التي دفعت الآلاف من الشباب نحو رفع راية العصيان في وجه أنظمة بن علي ومبارك وعلي عبدالله صالح ومعمر القذافي السياسية ومن بعده نظام المعزول بقوة الشعب محمد مرسي، والذي كانت الصحافة المصرية لاعبا رئيسا في عزله وإقصاء جماعته سواء الصحافة النخبوية على حد زعم الزاعمون أو الصحافة الشعبية، وليت الأغلبية المطيعة تتذكر التوصيف الذي أطلق على شباب الثورة وقت اندلاعها بأنهم شباب الفيس بوك والماوس والكيبورد والثوار الافتراضيين، أي أنه لم نر توصيفا دينيا يذكر لهؤلاء الثوار، ولو سألت أحدا منهم عن مصادر ثقافته لأجابك على الفور بأنه استقاها من كتابات النخبة أي أولئك الذين تحروا الدقة والموضوعية في الرصد والتحليل لكل ممارسات النظام السياسي البائد.

ولابد أن نؤكد قبل الخوض في سرد مواقف تاريخية تعكس العداء الموجه لصحافة النخبة، لنا أن نشير إلى أن هذا النمط الصحافي الرصين استطاع عبر سنوات أن يكسب ثقة المواطن الذي أصبح بالضرورة مشاركا فاعلا في أحداث مجتمعه، من خلال النقد المباشر والخفي لأية مظاهر فاسدة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، بخلاف أصحاب الصحافة الموجهة لأغلبية مطيعة مستهدفة، فعملت الأخيرة إلى اتباع سياسات التخزين المعرفي، مع الحرص على تجنب المواجهة مع القوى المؤثرة في صناعة القرار السياسي، وأيضا القصور في التفاعل مع الأحداث الإقليمية والدولية.

والفرق واضح وجلي بين الصحافة النخبوية التي لا تعني أبدا صحافة الصفوة من المثقفين بل صحافة العقل والفكر، وبين صحافة الأغلبية المطيعة التي تجسدها صحافة التيارات الدينية الإسلامية المعاصرة، حيث الأولى تسعى جاهدة إلى تثوير الثقافة وتحريك العقل بخطى ثابتة نسبيا نحو تأويل الحراك الذي يعيش فيه الفرد، أما الأخيرة فهي اعتادت اقتناص الفرصة للتغلب على حالة ركودها المستدام في المشاركة في هذا الحراك، لذا نجد في الوقت الذي تحرص عليه صحافة النخبة في الحديث عن الظروف الراهنة ومشكلات الوطن المتعلقة بمعارك الانتخابات البرلمانية المقبلة والتنظير الذي قد يبدو مملا بعض الشئ أيضا نتيجة طرحات فكرية غارقة في المصطلحات والمفاهيم، وكيفية تحويل شعارات الثورة الينايرية عيش حرية عدالة اجتماعية من مجرد رموز صوتية إلى خدمات وطروحات ملموسة ومعاشة وهي الملامح التي نرى بعضها يتحقق من خلال رئيس قائد وحكومة أعتقد ويعتقد كثيرون غيري أنها أكثر رشدا واحترافا بقيادة المهندس إبراهيم محلب. بينما نجد صحافة أغلبية السمع والطاعة تلقينا بقوة في بحر مائج مضطرب وسط قضايا خلافية بل تكاد تكون هامشية لا يصح الحديث عنها في ظل وطن يعاني ويكابد أكثر مما يطمئن ويستقر.

الغريب أن التاريخ دائما يحمل صفعات قوية لأولئك المراهنين على صحافة لا تقبل سوى السمع والطاعة لأوامرها ونواهيها، وهو ذاته التاريخ يحفظ صورا بعينها لبعض رموز صحافة النخبة التي استطاعت أن تحرك المياه الراكدة، ولا نقصد بالصحافة ونحن نتحدث عن ميزان التاريخ الذي وازن بين النخبة والأغلبية الصحافة الورقية المطبوعة التي لم تظهر إلا حديثا، إنما نقصد بها حركة الفكر المغايرة للثقافة السائدة والمسيطرة على القلوب والأسماع دون الفهم والإفهام.

فالإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والمحدثين صاحب المسند، يمثل نموذجا نخبويا ضد أغلبية السمع والطاعة، ولا يمكننا وصف موقفه بالمتشدد، بل بالعقلاني والقدرة الجلية المستنيرة في فهم آيات كتاب الله تعالى ومحنته التاريخية المعروفة أيام ملك المأمون والمعتصم والواثق، حتى الإمام ابن تيمية الذي احتكر الفكر الديني المتشدد آرائه دون منازع أي بالوصف الإعلامي حصريا، هو نفسه أيضا نموذج للنخبة المثقفة في زمانه والرافضة لحركات الجمود وعزل العقل عن مناخ مجتمعه المعاش.

ويعد الفقيه ابن حزم الأندلسي النموذج الخصب لثقافة النخبة في مواجهة الأغلبية الموصوفة بالسمع والطاعة دون مناقشة بفضل بعض السياسات الثقافية القمعية المانعة والرافضة لأي تجديد، والتاريخ يذكر كيف أن الخليفة الأندلسي المتعضد بن عباد أمير إشبيلية جمع كتبه وأحرقها لأن فكره لم يوافق المذاهب الشائعة والشعبوية في ذلك الوقت، وفي ذلك يقول ابن حزم:

دعوني من إحراق رق وكاغد

وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري

فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي

تضمنه القرطاس إذ هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي

وينزل أن أنزل ويدفن في قبري

أما حينما نصل إلى المعارك الصحفية الورقية بين النخبة والأغلبية فخير مثال عليها العميد الدكتور طه حسين، الذي ينال القسط الأكبر من الغضب والمنع والرفض والمصادرة من جانب التيارات الدينية بوصفه أحد الخارجين على ناموس ثقافة السمع والطاعة، وأنا شخصيا حضرت عشرات الندوات التي نظمتها بعض التيارات الدينية خصيصا للنيل من قامة طه حسين، وبلغ النيل منه جوانب فكره وشخصيته وعمله العام، وهو بلا شك يمثل منعطفا خطيرا في حركة العقل والفكر والثقافة عموما في مطلع القرن العشرين بما أسهم به من منهج علمي قد يتعارض مع ثقافة الأغلبية التي تتميز بالتحشيد.

ولطه حسين نفسه قصة مع أصحاب ومؤيدي صحافة الأغلبية الطيعة وهو الشيخ المهدي، فكانت للكتور طه حسين مقالات نشرت بجريدة السفور انتقد فيها أسلوب ومنهج الشيخ المهدي في دراسة وتدريس الأدب العربي، وهو أحد المنتمين للنزعات الأصولية السلفية بينما ينتمي طه حسين إلى صحافة النخبة، فما كان من الشيخ المهدي وكعادة الأصوليين الذين لا يقبلون المناقشة لم يلجأ إلى كاتب سطور النقد بل لجأ إلى الجامعة وتقدم بطلب لشطب الدكتور طه حسين من بين خريجي الجامعة ودشن أيضا الشيخ المهدي مجموعة من المقالات لمهاجمة فكر طه حسين، ولولا جرت المصالحة بينهما لتطور الأمر في صالح أغلبية السمع والطاعة.

 ونظرا لغياب الحضور الثقافي لطه حسين وغيره من أمثال قاسم أمين والشيخ علي عبدالرازق في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كان ذلك كفيلا لأصحاب الدعوات التكفيرية لتحشيد الأغلبية المؤهلة لتقبل ثقافة السمع والطاعة برفض هؤلاء المفكرين جميعا، بل ووضع تصور مطلق بأن الصحف التي كانوا يكتبون بها تسير على دربهم ووفق هواهم المنشود. وهذه المعارك التي شنها الأصوليون ضد مفكري النهضة تعكس ضيق أفق هذه التيارات بالمناهج النقدية الحديثة وبالطروحات الفكرية التي تتجه نحو التنوير، ليس هذا فحسب بل وقدرتها في تأجيج مشاعر الغضب والكراهية تجاه المنادين بالأخذ بأسباب النهضة.

وربما تظل الحرية هي البقعة الفاصلة بين صحافة النخبة وصحافة الأغلبية المطيعة، والحرية رغم أنها حق إنساني مشروع، إلا أنها أصبحت مشكلة واقعية إذا ما اقترنت بارتكاب فعل الكتابة الصحفية، وليس غريب أن تكون هولندا هي أول بلد يتمتع بحرية الصحافة في العالم، عام 1695، ولكن في ظل المد الثقافي السمعي والتعبوي تشكل الحرية تلك خطرا على مطامح ومطامع البعض ممن ينظر إلى الصحافة على أنها مهنة كشف المستور والمسكوت عنه، فبات من الأحرى قمع تلك الحرية التي لا ينبغي أن تنعم بها الصحافة لاسيما المستنيرة والتي أطلق عليها على سبيل الخطأ غير المقصود صحافة النخبة.

ويخبرنا كتاب التاريخ أنه في الأنظمة الدكتاتورية عادة ما يلجأ الحاكم إلى صحافة الأغلبية التي يحكمها منطق السمع والطاعة في مواجهة أصحاب العقول النافذة والناقدة لسياساته غير الديموقراطية، وهو في ذلك يدرك حقيقة مفادها أن المعركة بينه وبين صحافة النخبة هي معركة عقول في المقام الأول، ويعلم أن وجود حفنة من العقلاء والمفكرين يعد أمرا مقلقا لبسط نفوذه في البلاد، فيعمل جاهدا على تكريس سلطاته وهو على علم بأن أرض المعركة تبدأ من داخل الرأس وليس عن طريق الرصاص، أما إذا فشل في استقطاب صحافة الأغلبية وتكميم أفواه صحافة النخبة فإنه يلجأ عادة إلى استخدام الأساليب القمعية المعتادة من حبس وتعذيب ومصادرة واستخدام القوة.

ولا ينكر جاحد أن التيارات الدينية نجحت في صناعة صحافة خاصة بها استطاعت من خلالها تمرير بعض الطروحات الخاصة بأيديولوجياتها ضمن هذه الصحف التي وجهتها إلى الأغلبية المؤهلة إما للسمع والطاعة أو لقبول الأفكار المقدمة إليه سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، ونجحت في استغلال فشل وتقاعس كافة المؤسسات الدينية التي لم تكن تخاطب سوى الصفوة واستخدمت في ذلك خطابا دينيا قلما ما وصل إلى رجل الشارع البسيط، لذا هذا المواطن هرع سريعا نحو نمط صحافي يتحدث عن وجهه وملامحه ومشكلاته.

ووسط ما يجد هذا المواطن نفسه في صحافة موجهة يجد خبرا أو معلومة أو فتوى أو رأيا دينيا سرعان ما يأخذ به ويعده صوابا محضا. ولذلك تجد هذه الصحف عددا لا بأس به من القراء الاعتياديين أي الذين يبحثون عن مخدر مؤقت لأوجاعهم وهمومهم اليومية، وتلك الصحف نجحت بالفعل في خلق عالم افتراضي أشبه بمواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر بينها وبين أغلبية السمع والطاعة، هذا العالم الافتراضي هو جنة البسطاء المستقبلية التي تتحدث عن خبر القبض على أحد رموز النظام السابق بتهمة فساد جديدة، أو التشهير بفنان أو فنانة بسبب أعماله التي تضعف الدين ووجوب محاربته ومحاربة ما يبثه من فجور، أو الحديث عن استشراف غد مشرق بإذن الله تعالى.

نقطة مضيئة للصحافة الوطنية المصرية الخالصة وأيضا الصحافة العربية المتألقة التي تابعت بغير ملل أو كلل إنجازات مصر المحروسة وهي تدشن مشروع العام قناة السويس الجديدة الحلم المصري الأصيل الذي تحقق بالفعل ولا عزاء لغير الوطنيين.