الثقافة الرقمية والتسليع

تسليع الثقافة سينتشر أكثر وأكثر، وسوف تكون هناك شروط مادية جديدة للتعامل مع الثقافة ومنتجاتها.

إذا أردنا أن نلقي نظرة على ثقافتنا الحالية والمستقبلية، فأنني أرى أننا نتجه الآن نحو تسليع الثقافة، فلم يصبح هناك شيء بالمجان، سوى إبداعات الكاتب العربي التي تنشر في معظم المجلات والجرائد والمواقع والمدونات، حتى مجلات الخليج التي كانت تدفع مقابلا جيدا للكاتب العربي، أراها تقاعست عن هذا الدور، إلا عدد قليل منها. 
يتصلون بك ويطلبون إرسال مادة ثقافية على ألا تكون قد نشرت من قبل، وعندما تسألهم عن مكافأة النشر، يتعللون بضيق ذات اليد، وأنه لا توجد مكافآت مرصودة للكتّاب، مع أنه بطبيعة الحال هناك مكافآت مرصودة لغير الكتاب من مخرج فني ومصحح ومحرر، ورئيس تحرير ومدير تحرير وساعي مكتب، أما الكتّاب فليس مرصودا لهم شيء، مع أن المادة الثقافية أو الأدبية، هي الأساس في  إنشاء المجلات، فإذا لم تكن هناك مادة مكتوبة ستنشر فلا مجلة.
عدا ذلك فكل شيء ثقافي له ثمنه وسعره، حتى بعض الأمسيات الشعرية التي بدأنا نسمع أن مرتاديها يدفعون مقابلا للدخول إلى بعض أماكنها، والاستماع إلى شاعر ما بغض النظر عن المستوى الفني الذي يقدمه.
أتذكر أنني حضرت أكثر من أمسية لشعراء مثل محمود درويش ونزار قباني وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل في القاهرة والإسكندرية، دون أن أدفع مقابلا لذلك. اليوم نجد شعراء ليس لهم هذا الجمهور العريض والتأثير الفكري الكبير يطلبون مقابلا ماديا مثلهم مثل المطربين وفناني السينما، وهذا حقهم بطبيعة الحال، ماداموا يجدون من يشجعهم على ذلك، ويحضر لهم أمسياتهم.
وأرى أن هذا التسليع سوف ينتشر أكثر وأكثر، وسوف تكون هناك شروط مادية جديدة للتعامل مع الثقافة ومنتجاتها.
أرى أيضا أن الثقافة الرقمية هي التي سوف تسود في المستقبل، فنحن الآن لا نزال نعيش بين عصرين، أو أننا أمام مفترق طرق ووضع صعب، فمع احتياجنا لترسيخ إحدى قدمينا في أساسيات الماضي، نجد أننا بحاجة أيضا إلى انطلاق الأخرى قدما نحو المستقبل، والمستقبل للثقافة الرقمية التي تأكدت حاجتنا لها أثناء عزلتنا الإجبارية جراء وباء كورونا، والكثير منا اضطر لأن يتعامل معها أو عن طريقها، ليتواصل مع الآخرين وهو قابع في منزله، وفي حجرة نومه. وإذا كانت التقنيات الجديدة قد أثبتت جدواها أثناء العزلة، فإنها من ناحية أخرى لم تستطع تعويضنا عن اللقاءات الإنسانية الحميمية. لقد أصبحتُ أضيق بفعاليات الزوم، وما شابهها من اللقاءات التي تتم على البعد، حيث أجلس متخشبا أمام عدسة الكمبيوتر ولا أستطيع الحراك كثيرا، وأحيانا تكون المداخلات غير مسموعة وغير مرئية لأسباب تقنية أو كهربائية، أو شخصية. ويحدث هذا أحيانا عبر برامج التوك شو التلفزيونية عندما تتم استضافة أحد المتحدثين من بلد آخر، أو من نفس البلد، عبر تلك التقنيات.
ليس هناك شك أن الاعتماد على وسائل الثقافة الرقمية، سوف يقلل من إنسانيتنا بعض الشيء، وهذا هو التحدي القادم. فالثقافة دائما تعلِّي من القيم الإنسانية، ولكن مع العوالم الرقمية قد يحدث العكس.
ومع ذلك فنحن لا نعرف ماذا يخبئه لنا الغد. ولا نستطيع التكهن بما تأتي به رياح التقدم التقني وثقافة الغد، فنحن نعيش في عالم شديد التسارع وشديد التغير وشديد الغرابة. وقد ينتج لنا هذا العالم أدبا وفنا وثقافة مغايرة تماما لما نتوقعه الآن، وفي هذه اللحظة، فنحن من حوالي ربع قرن فقط، لم نكن نتوقع على الإطلاق ما سوف تأتي به الثورة التكنولوجية، وإذا قال لك شخص ما إنك من الممكن أن تكلم شخصا آخر وتشاهده وأنت تسير في الشارع، أو وأنت في وسائل المواصلات أو في سيارتك، لاعتبرت أن في هذا القول شيئا من الجنون. أو أن هناك وسائل وبرامج وتطبيقات مثل الفيسبوك وتويتر وانستغرام وواتساب، وغيرها تنقل لك الحدث أثناء وقوعه، وتنقل لك الملفات المكتوبة والمرئية والمسموعة في ثوان معدودات، لكان هذا شي من الدجل أو الجنون، أو ما شابه ذلك.