الثقافة السعودية تشهد تحولات نوعية

محمد خضر الغامدي يؤكد أن مؤسسات ومراكز ثقافية تقف خلف المشهد الثقافي السعودي بدعم كبير.
رواية "السماء ليست في كل مكان" حققت اشتباكا بين الواقع المعاش وأزمنة تاريخية بعيدة
أحب ذاكرة الصورة، وأملك أرشيفاً ضخماً من الصور

شكلت تجربة الشاعر السعودي محمد خضر الغامدي واحدة من التجارب الشعرية المتميزة في المشهد الشعري لقصيدة النثر في السعودية، منذ انطلاقها بمجموعة "مؤقتا تحت غيمة" حيث تبعتها مجموعات استطاع من خلالها خلق خصوصية رؤيته لغة وأسلوبا وفنية جمالية. وفي السياق انفتح على عالم السرد ليقدم روايته "السماء ليست في كل مكان" التي حققت اشتباكا بين الواقع المعاش وأزمنة تاريخية بعيدة، وكشفت المهمش والمسكوت عنه. وأخيرا قدم كتاب "تحميض" وهو تجربة مغايرة تضيف لرصيده الشعري والسردي معا، وتؤكد حرصه على تطوير تجربته الجمالية وقدرته على الإحساس الجمالي بعالمه. 
في هذا الحوار معه نتعرف على مسارات تجربته والرؤى الأساسية التي تنطلق منها. 
بداية وحول كتابه "تحميض" قال خضر: هو تجربة الكتابة بالكاميرا، أن تقف وتترقب وتغمض عيناً وتفتح أخرى، الصور في حياتنا ليست عابرة بل أحيانا تكون الشاهد الوحيد على شيء ما، شيء لا نعرفه لولا الصور .كتبت فيه ما يشبه السيرة الذاتية المصورة، وقد سعدت بأن كثيراً من القرّاء التقط معي هذا المعنى عبر تعليقاتهم، واستطاعوا أن يمضوا معي من الخاص إلى العام حيث الذاكرة الإنسانية المشتركة.

لا أستطيع أن أتحدث عن مشهد ثقافي دون الحديث عن الأدب بأنواعه والسينما والموسيقى وغيرها

ذاكرة الصورة
وأضاف خضر: أحب ذاكرة الصورة، وأملك أرشيفاً ضخماً من الصور، لذا عندما قررت أن أكتب لم تستغرق وقتاً طويلاً، قضيت مع "تحميض" سنوات، وكتبت كثيرا لكنه صدر أخيراً بهذا الشكل، صغير الحجم لكنه ملئ، كل صورة كانت تستدعي وتخزن وتجيء بمرجعياتها التاريخية والثقافية عموما والشخصية. عندما كتبت عن طه حسين وكوكتو وعمر المختار وكرويف ونيلسون مانديلا كتبتهم بعد وقع الصورة على ذاكرتي الشخصية، والتي أدرك أن كثيرين يتقاطعون معها ولو بجزء منها، كانت الصور تمرر ذاكرة الطفولة والتاريخي والثقافي والذاكرة الشعبية، ومن خلالها يمر كثير من الأسئلة عن الحياة والوجود.
سياق التجربة
وحول سياق تجربته التي انطلقت عام 2002 بمجموعته الشعرية "مؤقتا تحت غيمة"، أوضح خضر: هي بداية مصافحتي لعالم الشعر، ولازالت أحبها بكل ما فيها من ارتباك البدايات. وبكل ما أثارته من جدل حول فنيتها وغموضها، وتلك الحكايات الأخرى مع مقص الرقيب ومع المتشددين. كانت بداية مختلفة لذا عانت بعض الشيء من تساؤلات باتت اليوم مشروعة بعد هذا الزمن .كتبت قصائدها بجرأة وبرغبة في كتابة بعيدة عن السائد والمكرر آنذاك، وكان ذلك شرارة لأن تتكون لدي فلسفتي الخاصة عن الشعر والكتابة وبحثاً دائماً في المضي نحو طرق تعبير مختلفة، متصلة بالحياة بعيداً عن تعاليم الدرس ونمطيته، بعدها توقفت لسنوات، وفي عام 2006 كانت مجموعة "صندوق أقل من الضياع" وفي 2007 "المشي بنصف سعادة"، وهما تجربتان جاءتا مختلفتين فنياً رغم أنهما كتبتا تقريبا في نفس الظروف، العزلة والوحدة وأن تستيقظ مبكراً ولا تجد أمامك سوى المرآة ومنبه العمل في مدينة جديدة، وضمن عالم جديد تحاول أن تقرأه وتتأمله جيداً. منحتني هذه العزلة الطويلة هاتين التجربتين. 
وما يميز هذه التجربة برأيي هي مساحة التصاق النص بالحياة وتمرير اليومي والمعاش والحرية، أعني بالحرية تلك المراوغة في توظيف ما يجعل الهامش أوسع، فالكتابة دون شعور بحرية كتابة موجعة ومؤلمة لمن لا يستطيع أن يمرر ويدخل مع اللغة في علاقة عميقة. وأستطيع أن أقول إنني كتبت الحياة التي تخصني كما هي بكل ما فيها وكان عليّ مجدداً تحمل هذه المهمة.  

رواية سعودية
أشعر بالرضا 

وأضاف خضر: أصدرت بعد ذلك مجموعة من التجارب مثل "تماماً كما كنت أظن"، "منذ أول تفاحة"، "عودة رأسي إلى مكانه الطبيعي"، وهي تجارب تنأى عن القضايا الأيديولوجية والسياسية، ليحتل الإنسان في تجلياته علاقته بروح القصيدة وجسدها، وهذا ما ينبغي على الشاعر فعله، أن يخلص شعره من هذه القضايا، وينجو به تجاه ما هو إنساني ورؤيوي وما هو ديمومي وخالد، من بقي في ذاكرة اليوم من الشعراء الذين ملأوا قصائدهم بالسياسي؟ إنها تجارب أشبه اليوم بنشرات أخبار قديمة أو برامج "حدث في مثل هذا اليوم"، لكن هذا لا يعني أن الشاعر قد لا يكتب في مثل هذه القضايا، ويمرر بذكاء قضاياه وهمومه الكبرى حتى من خلال قصيدة تتحدث عمّا هو هامشي ويومي وذاتي، ليبقي على أنسنة الرؤية ودون الوقوع في تاريخية الحدث.
عود على بدء 
وكشف خضر أن أول مرة سمع فيها كلمة "شعر" في قريته في بلجرشي فقال: كنت في العاشرة من عمري، في المجلس الذي ضمَّ مجموعة من الضيوف كانوا يصغون بانتباه ونشوة، وكأنما يأخذهم هذا الكلام الذي يُلَحن أحيانا ويقال بنبرة مختلفة عن الكلام العادي أحياناً إلى آفاق مختلفة، قصائد من الآخرين، أو من فلان الشاعر المعروف، أو من الجدَّة التي كانت شاعرة، وأول مرة أشاروا إلى أن هناك شاعرا مشهورا وأعمى تطير قصائده ويتناقلها الناس حتى تتخطى حدود المكان ويتعدد تأويلها وتحليلها، فقصيدة واحدة يختلف حولها ما إذا كانت مدحاً أو ذماً، وقصيدة يتبارى الشعراء في الرد عليها أو التماهي معها، سألت لأول مرة ما هو الشعر؟ وصلت بعدها إلى أنه علاقتنا مع اللغة، مدى تلك العلاقة وقوتها أو ضعفها أو عمقها. 
لما شاهدت الأعمى في صورة بعد سنوات طويلة عرفت معنى آخر للشعر، ثم عرفت أنها تلك اللحظة التي تخلق فينا كائن الشعر، اللحظة التي عجزنا ونقصت فيها مناعتنا في أن نقرأ الوجود بشكل عادي قد لا تكون لحظة تماماً، بل قصة أو حكاية بصوت الجدّة أو تلك الأشياء ذهبت بنا إلى الكتابة منسحبين نحو الأسئلة وفي شعور مختلف بأننا بحاجة إلى تلك العلاقة مع اللغة.
قلق السرد
وأكد محمد خضر شعوره بالرضا عن كتابة رواية "السماء ليست في كل مكان". وقال: أشعر بالرضا بعد أن ازدادت تساؤلاتي التي تنطلق من الجدوى من كل ذلك البحث في مكان مهمل وبعيد ومنسي وفي حقبة زمنية قد لا تشغل أحداً اليوم، ومروراً بهواجس فنية قادمة من كونها روايتي الأولى ومتصلة كذلك بخبرتي في قراءة السرد ونهاية بأسئلة أخرى أعمقها ماذا لو أنك لم تكتبها أصلا؟! أجدني في ذلك الرضا التام الذي قادتني إليه تساؤلات أخرى كذلك. 
شعور الرضا ينبثق أيضا من شعورك أن الحياة كانت تكتب معك، أن الزمن يؤكد لك كثيراً مما كتبت، كثيراً من إربة لا يزال يصرخ في كل الجهات، الأمكنة المنسية بالكاد يعرفها أحد، والدهشة من وجود هذا العالم في أعين القراء وتساؤلاتهم لا تزال تحرضني على ذلك الشعور بالرضا.
وأضاف خضر: كنت محقاً في قلقي من كتابة هذا النص، ومحقاً حين هربت منه طويلاً أحياناً تحت ذريعة مضللة وهي أنك شاعر، وأحيانا الخوف الذي توالد من كونها خطوة في عالم يضج بأعمال محلية سردياً ومهمة وعلى قدر من الوعي بفضاءات الرواية، إلى آخر تلك الأوهام التي كنت سأندم لو فضلتها على الإصغاء لوقع الريح على بتلات شجرة العشرة وأساطير المكان وصوت زيانة وهو يجوب المظالم بين الوهاد والتلال هناك، من هنا بدت لي فكرة أن تكتب بعيدا عن تشويش كل هذا، ما يصر عليك ويلح ويتماهى كي لا يفلت منك، ما يتمسك بك كطوق نجاة تساهم في رميه بعيداً نحوك، ما يشبهك دون أن تقرر من أنت! وما يشعرك أنك تجاوزت إشكالية الزمن وموت النص والذهاب من رواية الأثر إلى أثر الرواية، وأشعر بالرضا لأن هذا العمل أخذني كثيرا لألتفت إلى تجربتي الشعرية من جديد.
المشهد الشعري
وأكد أن تجربة الكتابة والشعر خاصة في السعودية مليئة بأسماء مهمة استطاعت أن تضع بصمة مختلفة، في الثمانينيات والتسعينيات وخاصة في تجربة ما عُرف بالحداثة في مطلع الثمانينيات وفِي تجربة قصيدة النثر وما واكبهما من حراك نقدي مهم آنذاك. وهناك جيل جديد متخلص من الذاكرة الشعرية التي طالما حوّلت الشعر إلى درس محدّد ومجموعة من المفاهيم في كل أشكال الشعر، جيل جديد يكتب اشتغالاته وأمكنته الجديدة ورؤيته التي تخصه وحده ورهانه والتصاقه بالتجربة والواقع، وبالتالي ليس ثمة من ينظر له بعين البر للشعراء السابقين بل بعين التقدير لتجارب يمكن الاطلاع على منتجها وقراءتها لا أكثر. جيل منفتح على عوالم مختلفة وقد تجاوز دهشة الآخرين نحو دهشات ورؤية تخصه وحده.

المشهد الثقافي
ورأى خضر أن سؤال المشهد الثقافي يتكرر كثيراً، لكنه دائمًا يحاول أن يرسم محددات لهذا المفهوم الذي بات متشعباً وحاوياً على مجالات كثيرة كلها تنطوي تحت مسمى المشهد الثقافي، هل يوجد مشهد ثقافي واضح الملامح؟ مشهد قائم بذاته يستطيع أن يجعل هذا سؤالاً مشروعاً وواضحاً تديره أو تحركه مشاريع ثقافية مستقلة. وقال: المشهد الثقافي مرتبط بتغيرات كثيرة منها الاجتماعي والسياسي وغيرهما كثير. واليوم تشهد الثقافة تحولات نوعية لم يكن لها مثيل لعقود مضت، وقفت خلفها مؤسسات ومراكز ثقافية بدعم كبير وأعتقد أنها ستؤثر أكثر ويتضح أثرها أكثر في السنوات القادمة وبعيداً عن تلك المحددات. 
وهذا المفهوم الفضفاض بالنسبة لي سأتحدث عما لمسته في الفترة السابقة القريبة. لا أستطيع أن أتحدث عن مشهد ثقافي دون الحديث عن الأدب بأنواعه والسينما والموسيقى وغيرها. والتي شهدت دعماً وحضورا مختلفاً في الآونة الأخيرة، هناك تكريم مستمر في عدة أنشطة لرواد الثقافة والفن، لم يكن ذلك موجوداً على هذه الشاكلة وضمن حضور يعج بالجماهير. بل كان يقدم على استحياء ومن فئة المثقفين فقط. في مهرجان الخبر تعلق صوراً لعبدالحليم رضوي أحد رموز الفن التشكيلي وغازي القصيبي الغني عن التعريف وغيرهما من الرموز والأسماء المهمة الذين يكرمون الآن ولو بعد فوات الأوان، نقرأ عن جائزة شعرية باسم محمد الثبيتي وأخرى تحمل اسم عبدالله الفيصل وجائزة تستمر باسم السنوسي. 
ثم يستمر مهرجان السينما السعودية للأفلام القصيرة لعامه الخامس على التوالي الذي يكرم ممثلا وفنانا كبيرا مثل لطفي زيني، هذا المهرجان فكرة وجهود مجموعة من محبي هذا الفن. وهذا المهرجان الذي خلق مشهداً سينمائيا مختلفاً يشهد كل عام عدداً مضاعفاً من المخرجين وصناع الأفلام. 
كذلك ثمة حركة مهمة في ترجمة أعمال سعودية أدبية إلى عدة لغات، قرأت عن ثلاثة إلى أربعة أعمال هذا العام مثل رواية عواض العصيمي وقصائد علي الحازمي، ألحظ كذلك نشاطا ملحوظا ودور نشر سعودية باتت تضع بصمة مختلفة وتقدم جيلا مختلفاً وجديدا مع تباينه مثل دار ميلاد ودار تشكيل ودار أثر وغيرها من الدور التي تسجل حضوراً عربياً ملفتاً ونظرة جديدة لعالم الكتب والنشر. أيضا عودة الصالونات الأدبية بشكل أكبر. نوادي القراءة، ومشهد قصيدة النثر، وحضور المرأة اللافت في إدارة أنشطة ثقافية وإبداعية.