الثورات يأكلها ابناؤها!

ليس مهما اليوم ان يكون الوزير في الحكومة المؤقتة القادمة مستقلا او حزبيا، بل المهم هو ان تعاد هيبة الدولة.

عندما اخذ روبسبير، يبطش برفاقه، بعيد نجاح الثورة الفرنسية، صرخ به احدهم وهو يقاد الى المقصلة، مبشرا اياه بالمصير الحتمي الذي سيأتي به الى المقصلة ذاتها. دارت الايام، واذا بروبسبير يقاد فعلا الى مصيره الاسود، لكن بفك مكسور ينزف دما، والم مبرّح، لم تنهه الاّ المقصلة التي فصلت راسه عن جسده، وطوت صفحة مؤلمة من صفحات الثورة الفرنسية التي اصابت الكثيرين من المثقفين والشعراء الفرنسيين، قبل غيرهم، بالكآبة والاحباط، لما آل اليه مصير بلادهم، بعد ان ظنوا انها عانقت اهدافها الكبرى في الحرية والاخاء والمساواة.

ليست الثورة الفرنسية وحدها من يخبرنا التاريخ عن مجازرها، ولم تكن هي وحدها من اهدت الادب السياسي المقولة التاريخية "الثورة تأكل ابناءها"، بل ثورات اخرى امتدت على مدى قرون، قبلها او بعدها. لكن السؤال الذي بات في ذمة علم الاجتماع السياسي، هو لماذا يحصل هذا عند كل ثورة، ولن تستقر الاّ بعد ان تأكل ثوارها، ليتسلمها غيرهم، وهنا نتوقف عند مقولة اخرى اهدتها الثورات للادب السياسي ايضا، وهي ان الثورات "خطط لها المفكرون وينفذها الشجعان ويخطفها الجبناء"! وبعيدا عن التفسيرات الجاهزة لتلك المقولات، لابد من ان نتوقف عند حقيقة البشر انفسهم، قبل ان يكونوا ثوارا او مسؤولين، فالمشكلة لم تكن بروبسبير ولا بغيره ممن عرفوا بتحولهم الغريب واقصائهم رفاقهم، لان النفس البشرية واحدة، والطموحات المكبوتة، تبحث عن فرصة، وهي عند الراديكاليين تتمثل بالثورات التي تعقبها الفوضى عادة، ومن هذه الحقيقة، يبدأ صراع الثوار فيما بينهم، تحت مبررات شتى، ويحللون "اكلهم لبعضهم"، مستفيدين من غياب قوانين الدولة الضابطة لافعالهم، لاسيما في المراحل البرزخية، وان وجدت فلم تكن وسيلة انفاذها بيد المهنيين، بل الثوار انفسهم، فتنشأ الشلليات داخل قدر الثورة الفائر للامساك بالسلطة، وهكذا تاتي الثورات على ابنائها، قبل ان تستقر على الشلة الناجية منهم.

 لم نجد اختلافا كبيرا بين اغلب ساسة العالم في التطلع للنفوذ والسلطة، ولعل ما نشهده اليوم، حيث التغالب والجشع والحروب الخفية والعلنية، على الرغم من التقدم العلمي الهائل، هو انعكاس لحقيقة واحدة، مفادها ان البشرية لم تصل بعد مرحلة النضج التي تؤهلها لقيادة نفسها بعدالة، ولو نسبية، لان الصراع على المغانم مازال مفتوحا وقوة القانون الدولي، غير راسخة كرسوخ القوانين المحلية في الدول المتقدمة التي تجاوزت مرحلة الثورات الى الاستقرار المؤسسي، كبريطانيا واميركا وفرنسا مثلا، وان اتخذت هذه الدول المتقدمة نفسها، البلدان الضعيفة، ميادين للصراع الدموي مع منافسيها، وهذا بالتأكيد، اكثر عارا واوضع معيارا ايضا.

يتحدث البعض عن الديمقراطية في العراق، ونقول ان هذا الواقع لم يتحقق بعد، لان سقف الدولة ما زال عاريا تقريبا، وارضها مازالت رخوة، الامر الذي يتيح لكل من يعتقد به القدرة على الامساك بها، العمل على ذلك وبمختلف الوسائل، وايضا يدفع بالاغراب للعمل على النفوذ والتمكن، قبل ان تستقر الدولة العراقية على اثافي لا نصيب لهم فيها. والسبب هو اننا لم نؤسس اولا، لدولة قوية تحمي الديمقراطية، ولا تسمح ايضا، لابنائها ان يأكلوا بعضهم، وانما اقمنا ديمقراطية مهلهلة على امل ان ننتج من خلالها دولة، ففقدنا الدولة وما كان منها، في خضم الصراع الذي احتدم منذ سبعة عشر عاما، ولم نحقق الديمقراطية، لانها تحتاج الى حاضنة مؤسسية، يصعب وجودها من دون دولة، مثلما يصعب قيادة الدولة بطريقة سلمية من دون الديمقراطية، لاسيما اذا كانت هناك قوى سياسية كثيرة، متناشزة الاهداف والرؤى والثقافات، ولايضبط المعادلة بينها سوى نظام ديمقراطي، يفتقد اليوم مصداقية وجوده.

خلاصة ما نريد قوله، انه ليس مهما اليوم ان يكون الوزير في الحكومة المؤقتة القادمة مستقلا او حزبيا، بل المهم هو ان تعاد هيبة الدولة من خلال حصر السلاح بيدها فعلا، وان ترصّن المؤسسات الامنية القادرة على انفاذ القانون، وحينذاك، تستقيم الوزارات وينضبط عمل وزرائها، مثلما يستقيم الشارع وتبدا عجلة الحياة بالدوران من جديد.