الجريمة في غزة والمجرم في واشنطن

لا تعرف الولايات المتحدة معنى أن تكون محايدة في مواجهة أي شيء يتعلق بإسرائيل.

هل تحتاج الولايات المتحدة إلى كلام إضافي لتقتنع بحق نتنياهو في الاستمرار في ارتكاب جرائمه في غزة؟ لا أعتقد أن هناك ما يمكن أن يُقال أكثر مما قيل لكي تكون الأمور واضحة. كما أن أحدا لا يأمل بأن يصحو العقل السياسي الأميركي من غفوته وهو افتراض فيه الكثير من حسن النية. فذلك العقل إذا لم يكن صناعة صهيونية بعد كل هذا الزمن من سيطرة اللوبيات اليهودية على القرار السياسي في واشنطن فإنه على الأقل يفكر بالطريقة نفسها التي يفكر بها العقل الصهيوني. وهو ما يعني أن الأثنين لا يجدان حرجا في ممارسة اقصى درجات العنف مع الفلسطينيين من أجل منعهم من التفكير في استعادة شيء من حقوقهم المغتصبة.

كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى حرب نتنياهو القذرة لتعلن صراحة وعلى الملأ عن موقفها الثابت من الشعب الفلسطيني. وهو موقف لا يغيره وجه الرئيس، ديمقراطيا أو كان جمهوريا ولا تتحكم فيه استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات. وربما يسخر المرشحون للرئاسة الأميركية من أنفسهم حين يتسابقون إلى الإعلان عن صهيونيتهم في الحملات الانتخابية. تلك حقيقة معروفة سلفا. أما الكونغرس الأميركي فإنه حين يدعو نتنياهو لإلقاء كلمة من على منصته فإنه يرغب في أن يسمع العالم كلمته من فم قذر إذا كان حتى هذه اللحظة ممتنعا عن سماعها. كل الذي قيل عن وجود مسافة لوم بين جو بايدن ونتنياهو هو محض هراء ومجرد تكهنات ساذجة.

لا تعرف الولايات المتحدة معنى أن تكون محايدة في مواجهة أي شيء يتعلق بإسرائيل. وفي المقابل فإنها لا يمكن سوى أن تكون منحازة ضد الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام إذا ما تعلق الأمر بشأن من شؤونهم. تلك معادلة ثابتة تم اختبارها عبر سنوات الصراع العربي الصهيوني. صحيح أن اختراع إسرائيل لم يتم في حاضنة أميركية غير أن الصحيح أيضا أن إسرائيل نمت وترعرعت وقويت، بل وفاضت قوتها وصار خروجها على القانون الدولي أمر مستحبا وهي تتمتع بهواء الحاضنة الأميركية حتى ليكاد وعد بلفور يُنسى وكل ما بذلته بريطانيا من أجل تسليم فلسطين لليهود بعد رحيل قواتها أمرا لا قيمة له.

ولأن الولايات المتحدة لا تملك من الإرادة ما يدفعها إلى منع إسرائيل من الاسترسال في جريمتها فإنها ستكون مسرورة لو أنها استطاعت أن توصل صوتها إلى العالم من خلال ما سيقوله نتنياهو من على منصة أقوى سلطة ديمقراطية في العالم. مَن لم يقتنع بعد بانحياز الولايات المتحدة الأعمى ضد شعب يتعرض للإبادة ما عليه إلا أن ينتظر قليلا لكي يرى الشر وهو يشيد بقبحه. ولكن نتنياهو حين يتغنى بجريمته فإن كلماته ستثلج قلوب أعضاء الكونغرس الذين لا ينعمون بحرية الثناء على الجريمة التي هي أصلا جريمتهم. وكم هو مذل للعالم أن يُرى المجرمون وهم يتبادلون المدائح في ظل غياب القانون الدولي أما الجنائية الدولية فلتشرب الحبر الذي كتب به مدعيها العام قراره.

ذلك هو واقع ما يُسمى بالمجتمع الدولي بعد تسعة أشهر من حرب نظامية تُشن على شعب أعزل، لم يكن يوما ما حرا في اختيار قرار السلم والحرب ولم يملك من شروط العيش إلا قدرته على المقاومة لكي يثبت أنه لا يزال حيا وأن قضيته لن تموت. ذنب أهل غزة الذي هو ذنب الفلسطينيين كلهم أنهم لم يستسلموا لموت قضيتهم الذي هو قرار صهيوني أميركي مزدوج. كسر الإرادة الفلسطينية هو الهدف الأساس من كل الجرائم التي سعى العقل الأميركي إلى فرضها من خلال مجرم هو نتنياهو أما قتل الفلسطينيين فإنه أمر مفروغ منه وليس هناك من داع لتفسيره. لذلك فإن نتنياهو لن يدافع عن جريمته بقدر ما سيفاخر بها باعتباره المنفذ البارع الذي أجاد دورا مرسوما له.

في الماضي كان العرب قد أتعبوا أنفسهم وأهدروا الكثير من الأموال رغبة منهم في إحداث نوع من التحول في الموقف الأميركي من قضيتهم في فلسطين أما اليوم فإنهم صاروا على يقين لا يتزعرع من أن الجريمة التي ترتكب في فلسطين انما هي جريمة أميركية خالصة. كل حدث مجاور قد يشير إلى حدوث تطور في وعي الرأي العام وشعور الشعوب بالتضامن غير أن كل لا يغير من الحقيقة شيئا. الجريمة في غزة أما المجرم فإن يقيم في واشنطن.