الجمالية مرآة للعاطفة الإبداعية

الأنثربولوجي وعالم الاجتماع والفيلسوف إدغار موران يعرض ما جمعه من ملاحظات عن علم الجمال والفن والشعور الجمالي بصفته عالم اجتماع وفيلسوفا مهتما بالجماليات.
الشعور الجمالي انفعال يأتينا من الأشكال والألوان والأصوات، ومن السرديات والمشاهد والقصائد والأفكار أيضا
الفضول والحب يعطيان معنى لحياتنا

يعرض الأنثربولوجي وعالم الاجتماع والفيلسوف إدغار موران في كتابه "في الجماليات" الذي ترجمه الكاتب يوسف تيبس، ما جمعه من ملاحظات عن علم الجمال والفن والشعور الجمالي بصفته عالم اجتماع وفيلسوفا مهتما بالجماليات، والتي قدمها على شكل محاضرات "موجودة على اليوتيوب"، حيث يخبرنا وفقا للمترجم في مقدمته أنه "منذ طفولته كيتيم كان يهرب من قسوة العالم بفضل الأعمال الرفيعة لجميع الفنون، كرواية "الجريمة والعقاب" أو السمفونية التاسعة لبيتهوفن، أو أشعار بودلير، لأن الأعمال الفنية العظيمة ليست مجرد تسلية، إنها تكشف لنا حقائقنا ومصيرنا وآمالنا، وتزودنا بفهم للوضع الإنساني بجميع حالاته المتضادة من خلال الأفلام التراجيدية أو الكوميدية.
ويشير تيبس في مقدمته للمحاضرات إلى أن الفن خاص بالإنسان إذ احتاج منذ القدم إلى التعبير من خلال الفن، مما يعني أن هذا الأخير لم يكن تسلية أو ترفيها، أما المشاهد أو المستمع أو القارئ فيجد في الفن العظيم تعقيد الهروب من الواقع المباشر، حيث نجد واقع وضعنا بشغف ورحمة وتفاهم، إننا نهرب في الوقت من الواقع الذي يغزونا. 
يعتبر موران الجماليات شعورا ينتج عن مشهد جميل، سواء كان فنيا "جمال العمل الفني" أو طبيعيا "جمال منظر طبيعي". إن الجمالية مرآة للعاطفة الإبداعية. يستدعي الفنان خلال إبداعه قوى اللاوعي "الإلهام" والوعي "التعديلات". كما تكون العاطفة الجمالية التي تتملك كل واحد منا أمام العمل الفني غير عقلانية وعقلانية في الوقت نفسه، لأنها تعمل الشعور والذكاء معا. لذا يمكننا إذكاء الجماليات منفصلة عن الدين والسحر، فإنها تخلق البهجة "شيء من الجمال هو فرح إلى الأبد"، تساعدنا معرفتنا الجمالية على اتقاد مباهج الوجود، وعلى تحمل الفائض الواقعي الذي لا يطاق، وتمنحنا العجائب التي نستخلصها منه الطاقة لمواجهة قسوة العالم.

الشعر تمسك بجمال العالم والحياة والإنسان، وفي الوقت نفسه مقاومة لقسوة العالم والحياة والإنسان

يقول موران "تمثل الجماليات أو علم الجمال قبل أن تكون الصفة المميزة للفن، معطى أساسيا لملكة الحساسية لدى الإنسان. أنطلق من الكلمة اليونانية آيسثيسيس "aesthesis" التي تعني: الإحساس والشعور. إن الشعور الجمالي انفعال يأتينا من الأشكال والألوان والأصوات. ومن السرديات والمشاهد والقصائد والأفكار أيضا. إن الإحساس بالجمال شعور باللذة والإعجاب، يتحول إلى تعجب، بل وإلى سعادة عندما يشتد. يمكن إثارته بواسطة عمل فني أو مشهد طبيعي، ويمكن إثارته بواسطة أشياء أو أعمال ليست موجهة للجماليات لكننا نجملها. إنه شعور يصعب تعريفه. ذلك أن كل واحد منا يشعر به في ظروف مختلفة تمنحنا رؤية السماء المرصعة بالنجوم وغروب الشمس في المحيط، وصعود القمر في الليل، وقمة ثلجية، وتحليق طائر الخطاف، وتمدد القط، الشعور الجمالي.
ويضيف أن الشعور الجمالي يتم تشاركه على نطاق واسع جدا. ونظرا لأنه إنساني بشكل عميق، فإنه يتقوى ويتطور في ظل ظروف شخصية أو ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية معينة. إن الحياة البشرية ثنائية القطب بين جزئها النثري ـ نفعل أشياء بالضرورة ودون متعة ـ وجزئها الشعري حيث على العكس من ذلك نزدهر ونتشارك. كل ما هو جمالي هو عنصر مندمج ودامج للجانب الشعري للحياة.

ويؤكد أنه لا يكفي تدريس الأدب كأدب فقط، والشعر كشعر فقط، والموسيقى كموسيقى فقط. من الضروري طبعا موضعة الأعمال الفنية الجميلة والرائعة في تاريخها الفني، لجعلها معروفة ومحبوبة. يمكنني القول إن هذه الأعمال يجب أن توزع مجانا على الطلاب، إنها أكثر أهمية من الكتب المدرسية. من اللازم أن ندفع الأطفال والمراهقين إلى حفظ القصائد مجددا عن ظهر قلب، سيستظهرونها ويتلونها باعتبارها سحرا متجددا في سن الرشد وحتى في مرحلة الشيخوخة. لكن سيكون من الضروري على وجه الخصوص تبيان كيف تمثل الرواية والمسرح والسينما والشعر وسائل لمعرفة كل ما هو إنساني في تعقده الأحادي والمتنوع، وهي مهمة لا غنى عنها، لأن العلوم الإنسانية ليست مجزأة ومقسمة فحسب بل غير مكتملة، لأنها تتجاهل الأجزاء الذاتية والبيولوجية والمادية للإنسان.
ويشدد على أهمية تأصيل الأعمال بالتعليم المستمر في عقول التلاميذ، وتثبيت هذا الفهم بشكل دائم، لأنه فهم لا يستمر سوى خلال فترة القراءة أو العرض. ومما يزيد من سهولة هذا التأصيل هو سن المراهقة لتلاميذ المدارس الإعدادية والثانوية، فترة البحث عن الحقائق التي تنطبع فيها بشكل عميق بصمة الأعمال التي تنير العقل".
ويوضح موران أنه لا يثار الشعور بالجمال والانفعال الجمالي بواسطة الأعمال الفنية فقط، إذ تأتينا من المناظر الطبيعية والزهور وتحليق الأوز البري وتغريد العندليب وركض الخيول وألوان الفراشات. إن الشعور الجمالي عام جدا. كما كتب المفكر الأميركي رالف والدو إيمرسون "كل رجل شاعر بما يكفي ليكون منفتحا على سحر الطبيعة". إن هذه العبارة مفيدة للغاية، لأن الانفعال الجمالي، على الرغم من أنه لا يقتصر على الأعمال الفنية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا على الشعر، فإنه يحوز، بطبيعة الحال، صفة شعرية في سحره.
ويتحدث عن الصلة بين الجماليات والشعر "عندما نعطي كلمة الشعر معنى أوسع من معنى القصيدة المكتوبة". ويلفت إلى أن الكلمات تفقد في الشعر معناها النفعي. تعبر الاستعارات والمماثلات، في واقعيتها وفي الجمالي، عن حقائق إنسانية معيشة ومحسوسة بشكل أفضل من النثر الإشاري. تتألف الكلمات وفقا لانجذابات غريبة في كثير من الأحيان، وبطريقة موسيقية تقريبا. يحاول الشعر أن يعبر بالكلمات إلى ما لا تستطيع الكلمات قوله. تشبه القصيدة "ترجمة الصمت" حسب تعبير جوي بوسكي. يتقدم الشعر إلى حدود اللغة، وإلى حدود ما يقال، وإلى حدود الوعي. إنه يرى من خلال المرئي ما وراء المرئي، وهذا ما يطلق عليه رامبو "الاستبصار".

ويشير موران "إن هذه الجبال، وهذه البحار، وهذه السماء، وهذه الزهور، وهذه الحيوانات جميلة بالنسبة إلينا ومن خلالنا. ذلك ما عبر عنه الفيلسوف جورج سانتايانا بطريقته الخاصة قائلا "الجمال متعة ندركها باعتبارها خاصية شيء. يمكننا أن نقول أيضا مع الكاتب السويسري هاينريش وولفلين "الجمال في عين الرائي". هل نحن الوحيدون الذين يرون الجمال في قرون الغزلان؟ في ألوان الفراشة وفي ريش الطاووس؟
ويتساءل ألا تشعر الحيوانات بالمتعة الجمالية تقريبا عند تجربة متعة العيش والتمدد والقفز والركض والتحليق؟ تنتج الحيوانات والنباتات الجمال لنا فقط، وليس لها؟ ألا يوجد في العالم بأسره جماليات قبلية، تتضمن في كل نوع تفضلا لأشكال معينة وألوان معينة؟ ويقول "هل تأتي هذه الأشكال والألوان من إبداع يشبه الفن يتضمن من بين جوانب أخرى، جمالية ضمنية؟ يميل علماء السلوك، الذين يدرسون سلوك الحيوانات، إلى أن يعزوا الزينة الحيوانية إلى الجذب الجنسي، لكن إذا كنا نستعمل الألوان والأغاني والحلي للجذي، ألا يعني ذلك استخدام الصفات الجمالية للإغواء؟ بالطبع، لا يمكن للطاووس أن يرى ريشه يتخذ شكل العجلة ـ ليست لديه مرآة ليتمكن من ذلك ـ ولكن عجلة هذا الدون جوان ذي الريش يتضمن ترفا فائضا يضاف إلى الوظيفة البسيطة للجاذبية الجنسية.
ويرى موران أن الشعور الجمالي معقد لأنه في الوقت نفسه مشاركة وانفصال، ونشاط نفسي وسلبية مادية. إن الإبداع الفني معقد لأنه يوحد حالات الإلهام الآتية من أعماق العقل اللاواعي ومن أعلى صفاته الواعية. لقد اقترحت بلا جدوى منذ عقدين إدخال المعرفة المعقدة، وعرضت سبعة مواضيع أساسية لمواجهة تعقدات الحياة من بينها:ـ معرفة المعرفة، الضرورية لكل بحث عن الوضوح، والتي تمكن من الكشف عن مصادر الأخطاء والأوهام والوعي بشروط المعرفة المناسبة ـ فهم الإنسان، وهو التعليم الذي يمكن القيام به بالتعاون مع تدريس العلوم الإنسانية ـ الهوية والوضع الإنساني، وهو التعليم بالذات الذي يمكن القيام به بالتعاون مع تدريس العلوم الإنسانية. بما أن كلا من هذه التعاليم تنطوي على الربط بين معارف تخصصات متعددة، فهذا يعني أن إدخالها سيؤدي بمعية الإصلاح العميق لتدريس الفنون والجماليات إلى ثورة تعليمية أساسية.
ويخلص موران مؤكدا أن "ليس للحياة معنى آخر غير نفسها". ويرى "يمكن أن يكون التعبير "الحياة من أجل الحياة" شيئا آخر غير تحصيل حاصل مبتذل. يحوز التعبير "الحياة من أجل الحياة" معنى عندما ندرك الصفة الشعرية لحيواتنا ونتحملها، والتي تسمح أيضا بالمشاركة والحب وتحقيق الذات، تشجعنا الحياة من أجل الحياة على انتخاب كل ما هو تعبير شعري عن الحياة الشخصية والجماعية. لا معنى للحياة لكن الشعر يعطي معنى لحياتنا، إذ تتخذ الحياة معنى بالنسبة إلينا في الحالة الشعرية. إن الشعور الجمالي مكون تأملي أو/ وإعجابي في الحالة الشعرية. تقودنا الحالة الشعرية المكثفة إلى الغبطة، تصبح الغبطة المطلقة، بطبيعة الحال، وجدا بأشكاله المختلفة. إننا نتوق بعمق إلى الوجد، والذي إذا ما حالفنا الحظ سنصله أحيانا. لكن هذا لا يمنع الحياة كذلك، ولا سيما حياتنا الإنسانية، من أن تجعلنا فضوليين في شأن لغزها، إذ نسعى إلى أن نعلم، ونسعى إلى أن نعرف".
ويضيف "أعتقد أن الفضول والحب يعطيان معنى لحياتنا.. ألا تستحث هذه الجمالية إذا تجاوزنا في الشعور الجمالي نذالاتنا وأنانياتنا، أخلاقا خاصة تجعلنا نفهم، وفقا لقول دوستويفسكي، إن الجمال يمكن أن ينقذ العالم؟ أضف إلى ذلك وهو قول لدستويفسكي أيضا، والطيبة والتعاطف. بخلاف ذلك تكون الصفة الشعرية للحياة طبيعية أو على الأقل معيارية وتدفعنا إلى المشاركة والمحبة. 
يقول وردزورث إن "الشعر أول المعارف وآخرها" أود أن أقول إنه أول وآخر مهارات حسن العيش. يسعى التطبيع وتوحيد المعايير حاليا إلى السيطرة على حياتنا، إذ إننا نخضع حسب كورنيليوس كاستورياديس لتنامي التفاهة. تقف عقبات عصية في طريق ازدهار شعر الحياة. وكلما هيمنت علينا القوى المجهولة، كنا بحاجة إلى المقاومة، تتطلب المقاومة واحات الحياة الشعرية. إن الشعر تمسك بجمال العالم والحياة والإنسان، وفي الوقت نفسه مقاومة لقسوة العالم والحياة والإنسان.